القيروان: إزالة توصيلات عشوائية على الشبكة المائية في الشبيكة    بالفيديو: مطار طبرقة الدولي يستعيد حركته ويستقبل أول رحلة سياحية قادمة من بولونيا    عاجل: أمر مفاجئ من ترامب: على الجميع إخلاء طهران فورا    في 5 سنوات.. 11 مليار دولار خسائر غانا من تهريب الذهب    كأس العالم للأندية: التشكيلة الأساسية للترجي الرياضي في مواجهة فلامينغو    كأس العالم للأندية: تعادل مثير بين البوكا وبنفيكا    اسرائيل تتآكل من الداخل وانفجار مجتمعي على الابواب    عاجل : ترامب يدعو إلى الإجلاء الفوري من طهران    كاس العالم للاندية 2025: تشلسي يفوز على لوس انجلس بثنائية نظيفة    بعد تسجيل 121 حريقا في 15 يوما.. بن الشيخ يشدد على ضرورة حماية المحاصيل والغابات    ميناء جرجيس يستقبل أولى رحلات عودة التونسيين بالخارج: 504 مسافرين و292 سيارة    يهم اختصاصات اللغات والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفنون التشكيلية والتربية الموسيقية..لجنة من سلطنة عُمان في تونس لانتداب مُدرّسين    المندوبية الجهوية للتربية بمنوبةالمجلة الالكترونية «رواق»... تحتفي بالمتوّجين في الملتقيات الجهوية    في اصدار جديد للكاتب والصحفي محمود حرشاني .. مجموعة من القصص الجديدة الموجهة للاطفال واليافعين    الكوتش وليد زليلة يكتب .. طفلي لا يهدأ... هل هو مفرط الحركة أم عبقري صغير؟    أخبار الحكومة    انطلاق الحملة الانتخابية بدائرة بنزرت الشمالية    المنتخب التونسي للكرة الطائرة يفوز وديا على المنتخب الايطالي الرديف 3 - 1    بورصة: تعليق تداول اسهم الشركة العقارية التونسية السعودية ابتداء من حصّة الإثنين    تونس تحتضن من 16 الى 18 جوان المنتدى الإقليمي لتنظيم الشراء في المجال الصحي بمشاركة خبراء وشركاء من شمال إفريقيا والمنطقة العربية    منظمات تونسية تدعو سلطات الشرق الليبي إلى إطلاق سراح الموقوفين من عناصر "قافلة صمود".. وتطالب السلطات التونسية والجزائرية بالتدخل    طقس الليلة    تونس تعزز جهودها في علاج الإدمان بأدوية داعمة لحماية الشباب واستقرار المجتمع    إسناد العلامة التونسية المميزة للجودة لإنتاج مصبر الهريسة    تجديد انتخاب ممثل تونس بالمجلس الاستشاري لاتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه لليونسكو    عاجل/ وزير الخارجية يتلقّى إتّصالا من نظيره المصري    "تسنيم": الدفاعات الجوية الإيرانية تدمر مقاتلة إسرائيلية من طراز "إف 35" في تبريز    اتحاد الشغل يدعو النقابيين الليبيين الى التدخل لإطلاق سراح أفراد قافلة "الصمود"    تونس تدعو إلى شراكة صحّية إفريقية قائمة على التمويل الذاتي والتصنيع المحلي    نحو إحداث مرصد وطني لإزالة الكربون الصناعي    جندوبة: اجلاء نحو 30 ألف قنطار من الحبوب منذ انطلاق موسم الحصاد    العطل الرسمية المتبقية للتونسيين في النصف الثاني من 2025    عاجل/ باكستان: المصادقة على مشروع قرار يدعم إيران ضد إسرائيل    جندوبة: الادارة الجهوية للحماية المدنية تطلق برنامج العطلة الآمنة    "مذكّرات تُسهم في التعريف بتاريخ تونس منذ سنة 1684": إصدار جديد لمجمع بيت الحكمة    الدورة الأولى من مهرجان الأصالة والإبداع بالقلال من 18 الى 20 جوان    في قضية ارتشاء وتدليس: تأجيل محاكمة الطيب راشد    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    الكاف: فتح مركزين فرعيين بساقية سيدي يوسف وقلعة سنان لتجميع صابة الحبوب    ابن أحمد السقا يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    تأجيل محاكمة المحامية سنية الدهماني    دورة المنستير للتنس: معز الشرقي يفوز على عزيز دوقاز ويحر اللقب    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    10 سنوات سجناً لمروّجي مخدرات تورّطا في استهداف الوسط المدرسي بحلق الوادي    189 حريق خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية….    باريس سان جيرمان يقسو على أتليتيكو مدريد برباعية في كأس العالم للأندية    النادي الصفاقسي: الهيئة التسييرية تواصل المشوار .. والإدارة تعول على الجماهير    تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    كأس المغرب 2023-2024: معين الشعباني يقود نهضة بركان الى الدور نصف النهائي    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حرية الاعلام بين سطوة اللوبيات ومخاطر اللبننة
نشر في باب نات يوم 05 - 10 - 2018


بقلم محمد اليوسفي
عضو المكتب التنفيذي بنقابة الصحفيين المكلف بالحريات
لم يكن أحد حتّى من أشدّ غلاة المتشائمين أو العدميين في علاقة بمستقبل مسار اصلاح الاعلام بعيد حدث 14 جانفي 2011 يتوقع المآلات والوضع الراهن الذي وصل اليه القطاع.لقد كانت الثورة لحظة فارقة ومنعطفا حاسما في تاريخ الاعلام التونسي الذي تخلّص وقتها من كلاكل وكالة الاتصال الخارجي سيئة الذكر بعد حلّها فضلا عن تحرّره من ربقة وزارة الاتصال اليد الطولى للنظام الاستبدادي الذي نجح من خلالها في تدجين القطاع وافساده وفرض الوصاية عليه خدمة لأجندات الحزب الواحد والزعيم الاوحد.
فعلى امتداد فترة حكم الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي عاش الاعلام تحت وطأة "دولنة" القطاع وفق تعبير الباحث العربي شويخة في كتابه "وسائل الاعلام في تونس: التحوّل الصعب" ما جعل منه أداة للتضليل والدعاية الفجّة وتزييف الحقائق والنكوص الفكري والمجتمعي فكانت البلاد تئن بسبب احتضار السياسة وضرب أبسط مقومات المواطنة من حقوق وحريات واقصاء لكلّ نفس منتقد أو معارض للنظام الحاكم الذي زجّ بالمجتمع في سجن كبير وصادر الفضاء العمومي.
غير أنّ الثورة حرّرت الأقلام ورفعت الحظر عن جميع الاراء والافكار والاصوات والاحزاب والتنظيمات بما في ذلك المتطرفة والدغمائية ايذانا بظهور حقبة جديدة دخلت غمارها البلاد في معترك تجربة انتقال ديمقراطي كان من البديهي أن يرافقه انتقال اعلامي يقوم على الاصلاح والنقد الذاتي واعادة التنظيم والتعديل من أجل التأسيس لمنظومة اعلامية ديمقراطية وفق متطلبات المرحلة التي عادة ما يكون فيها الاعلام حسب التجارب المقارنة أحد أهم المرتكزات والمفاتيح لترسيخ البنيان الديمقراطي المنشود وذلك باعتباره حجر الزاوية في المجال العمومي الذي يدار فيه التنافس والتدافع حول قضايا الشأن العام ومؤسسات الحكم ومراكز السلطات السياسية.
اليوم وفي خضم التعثرات والمخاطر الوخيمة التي باتت تتهدّد تجربة الانتقال الديمقراطي في بلادنا ومانتج عن ذلك من تمظهرات متعقلة بتتالي الازمات السياسية وضبابية الافق والذي يشي ببوادر تعطلّ يكتنف المسار برمته، يطرح هذا الوضع على المحك أسئلة ملحة وعاجلة حول دور الاعلام ضمن سيرورة المنعطف التاريخي الراهن. فهل يمكن الجزم بفشل مسار اصلاح الاعلام الذي يكاد يتحوّل إلى مجرد شعارات شعبوية جوفاء ؟وإلى أي حدّ يمكن اعتبار أنّ الاعلام قد ساهم في افساد الحياة الديمقراطية الناشئة؟ ولماذا لم تتحقق بعد شروط الصحافة الحرّة في تونس؟ وهل يمكن النظر بعين الارتياح لحصيلة تجربة انتقال الاعلام من قبضة النظام السلطوي إلى سطوة وهيمنة لوبيات المال والسياسة والاجندات الاقليمية والدولية اذا ما توقفنا عند المسألة بالتمعن والتدبر من منظور المسؤولية الاجتماعية والوطنية؟
*في أسباب انتكاسة مسار اصلاح الاعلام
لا مناص في مقدمة هذا التحليل الذي ينطلق من قراءة تأريخية ومعطيات مستقاة من داخل المنظومة الاعلامية الحالية من التذكير بأنّ وسائل الاعلام التي عادة ما يكون لها صدى وتأثير على توجهات الرأي العام والسياسات العمومية للدولة ومواقف التنظيمات الحزبية في مختلف المجالات والقطاعات يفترض نظريا أن تكون من بين أبرز وأهم روافد وأدوات تدعيم الانتقال الديمقراطي بالتوازي مع دور النخب من أحزاب سياسية ومجتمع مدني وكذا المؤسسات الدستورية والمستقلة التي قال عنها رئيس الجمهورية الحالي الباجي قائد السبسي بأسلوب ينطوي على نبرة ازدرائية غير ديمقراطية "العزري أقوى من سيدو " في احدى حوارته الصحفية علاوة عن بقية الاجهزة التي تساهم في تشكل الوعي الايديولوجي من قبيل الفضاءات التربوية والجامعات ومراكز البحوث وقطاع الثقافة.
لقد خلقت مناخات الحرية الفجئية والمطلقة غداة الثورة انفجارا اعلاميا وحالة ارتباك داخل الجسم الصحفي حتّم على أهل القطاع والفاعلين السياسيين ضرورة البحث عن آليات لضمان دمقراطة الحياة الاعلامية وتنظيم السلطة الرابعة لكي لا تكون نتائج الانفراج عكسية فتتحوّل إلى فوضى عارمة ما أنزل بها الله من سلطان.
هذا التحدي جاء وليدا لتسارع الاحداث التي فرضت سعيا وقتها لمأسسة مسار اصلاح الاعلام من خلال احداث لجنة فرعية في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي كان يترأسها عياض بن عاشور بالاضافة إلى تكوين هيئة وطنية لاصلاح الاعلام والاتصال برئاسة الصحفي كمال العبيدي الذي عاش لسنوات بعيدا عن بلاده لأسباب سياسية تتعلق بنشاطه الاعلامي والحقوقي المعارض لنظام حكم بن علي. كما تمّ أيضا اصدار تشريعات اعتبرت ثورية وتحررية بشكل غير مسبوق وهي تتمثل أساسا في المرسومين 115 و 116 المنظمين للحريات الصحفية والاعلام والاتصال السمعي البصري بعد الغاء مجلة الصحافة التي وظفت منذ صدورها في 1975 كعصا غليظة لضرب القطاع وتحجيم دوره من خلال ما تضمنته من فصول زجرية.
بيد أنّ بدايات تشكلّ هذا المسار في مرحلته الجنينية اتسمت بالتسرّع وباعتماد مقاربة فوقية أحادية اذ أنّ عملية اصلاح الاعلام لم تصاحبها نقاشات مستفيضة وانفتاح واسع على مختلف الاطراف المعنية. لقد كان الصحفيون الحلقة الاضعف والاكثر تهميشا في مسار اعادة بناء منظومة اعلامية جديدة على أنقاض موروث حقبة الاستبداد والفساد. كما أنّ اسقاط تجارب أخرى أجنبية على الحالة التونسية دون مراعاة الخصوصية المحليّة زاد في تعميق بذور المشكل.
إنّ من أهم الملاحظات التي وجب الوقوف عندها هي دور من يسمون بالخبراء الذين أشرفوا وساهموا في ولادة عملية الاصلاح فالعديد منهم ينتمون لفئة الأكاديميين الذين رغم قيمتهم العلمية والمعرفية النظرية فإنّ معظمهم لم يمارسوا البتة العمل الصحفي اليومي الميداني على أرض الواقع وهو ما يجعلهم قاصرين عن فهم كنه طبيعة الرهانات والتحديات والمطبات من الداخل.
لم يكن اذن من السهل معالجة تركة عقود من التخريب الذي طال القطاع الاعلامي بوصفة جاهزة أو بحلول فوقية مسقطة اقتداء بتجارب أخرى في أعرق الديمقراطيات الغربية.
هذا طبعا لا ينفي الحاجة لأن تكون التجربة التونسية في اصلاح الاعلام قائمة على الاستئناس بالمعايير المهنية الكونية في التنظيم والتعديل الذاتي وفي مستوى فلسفة التشريعات التحررية وأخلاقيات المهنة ومواثيق التحرير ومدونات السلوك.
لكن في تقديرنا ليست هذه الاسباب الرئيسية لانتكاسة مسار اصلاح الاعلام في تونس بل إنّ طبيعة المتغيرات السياسية التي عرفتها البلاد بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وصعود أحزاب الترويكا وفي مقدمتها حركة النهضة إلى الحكم وحالة الاستقطاب الايديولوجي الذي أفرزته جعلت الاعلام الوطني إزاء واقع جديد كمن يمشي على رمال متحركة.
فخلال فترة حكومتي حمادي الجبالي وعلي العريض والانقسام الذي شهده المجتمع بعموم نخبه ومواطنيه والفاعلين السياسيين ولوبيات المال والأعمال ظاهريا على الاقل في علاقة بالنمط المجتمعي ومدنية الدولة وقضيّة الهوية التي تجلت في التجاذبات حول الدستور،لعب الاعلام الذي كان في معظمه موروثا عن العهد السابق دورا سياسيا بامتياز برز خاصة في الاصطفافات والاضرابات النقابية لهياكل المهنة ولاسيما النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين التي كانت تتوجس خيفة من محاولات الهيمنة على وسائل الاعلام وهو ما جعلها تدخل في معارك كسر عظم مع الترويكا.
من المهم الاشارة إلى أنّ منظومة حكم الترويكا قد حاولت بشتى الاساليب مجابهة الجبهة المعارضة لها من خلال بعث وسائل اعلامية مقربة منها تحت غطاء شعار الاعلام البديل الذي بدا هجينا عن الواقع التونسي وهو ما أفضى إلى فشل مختلف هذه المحاولات.
لقد ساهم هذا المناخ الذي كان يقوم على استقطاب ايديولوجي غابت عنه في الكثير من الوضعيات الروح الموضوعية والعقلانية في بروز صراعات جانبية من قبيل التلويح بنشر قائمة للتشهير بالصحفيين الذين تعاونوا مع نظام بن علي علاوة عن تسريب الكتاب الاسود الذي أعدته مؤسسة رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس محمد منصف المرزوقي وما صاحبه من جدل واتهامات متبادلة وكذلك القيام بتعيينات في الاعلام لاسيما العمومي والمصادر على قاعدة الولاء السياسوي لا الكفاءة في كثير من الحالات ودون مراعاة لمبدإ الديمقراطية التشاركية.
لا شكّ في أنّ ارادة هيمنة الترويكا على الاعلام وسقوطها في فخّ توسيع جبهة الاعداء رغبة في الانتقام والتشفي أو الترويض والاستمالة فسحت المجال أمام تسرّب من كانوا بالامس القريب دهاقنة منظومة التضليل وقمع الحريات الصحفية في العهد النوفمبري حيث اكتسبوا مشروعية "النضال" ضدّ مشروع الاسلام السياسي المعادي لثوابت الدولة الوطنية.
إنّ هذه الفترة التاريخية من عمر تجربة الانتقال الديمقراطية كانت محدّدة في وقت لاحق لملامح المشهد الاعلامي لما بعد انتخابات 2014.
ربّما قد يتساءل البعض عن حجج أخرى يمكن من خلالها فعلا الجزم بحقيقة تعثّر مسار اصلاح الاعلام في الذي تعطّل خلال عهد حكم الترويكا رغم المجهودات التي ظلت تقوم بها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري على وجه الخصوص منذ احداثها في سنة 2013.
من الواضح اليوم أنّ منسوب الثقة في الاعلام الوطني من قبل المواطنين قد تراجع في السنوات الاخيرة ولا أدلّ على ذلك ما نعاينه من مواقف وردود فعل في الشارع وفي صفحات التواصل الاجتماعي وخاصة من خلال عمليات سبر الاراء.
حصل كلّ هذا بعد بوادر مصالحة هجر من خلالها المواطن التونسي المتابع للشأن العام وسائل الاعلام الأجنبية التي كانت ملاذا له خلال أواخر عهد الرئيس بن علي والتي كانت تسلط الضوء على الاوضاع في تونس بهامش كبير من الحرية والموضوعية رغم المآرب التوظيفية لبعض القنوات التلفزية العربية خصوصا التي فضح مسار الانتقال الديمقراطي أجنداتها الداعمة لأطراف بعينها مثل قناة الجزيرة القطرية.
*التعددية الشكلانية ومخاطر اللبننة
أفضت نتائج انتخابات 2014 إلى تشكلّ مشهد جديد مختلف عمّا عاشته البلاد خلال فترة كتابة الدستور وحكم الترويكا.
لقد مثّل صعود حركة نداء تونس إلى سدّة الحكم والتي يمكن اعتبارها حزب الدولة العميقة بكلّ ما تحمله الكلمة من معان تحيلنا على موروث منظومة الحكم الاستبدادي في تفاعلاتها مع الاعلام والثقافة السياسية غير المتشبعة بالمبادئ الديمقراطية وما تفترضه من هامش كبير لدعم الحريات الصحفية واستقلالية الوسائل الاعلامية منعطفا آخر في مسار اصلاح الاعلام الذي أضحى تقريبا مجرد شعار فضفاض يتلخص في بعض الندوات الحكومية والبرلمانية والجمعياتية الفلكلورية والخطاب الرسمي المتعارض مع الممارسات على أرض الواقع.
بدا من الواضح تراجع منسوب الجرأة الاعلامية في البرامج الحوارية السياسية وقد تقلصت فجأة الحصص المخصصة للكوميديا الساخرة النقدية في علاقة بقضايا الشأن العام واختفت بعض الوجوه التي لم يعد مرغوبا في حضورها في الاذاعات والقنوات التلفزية بعد أن كان تؤثث المشهد الصدامي مع أحزاب الترويكا ولاسيما حركة النهضة والرئيس المرزوقي.كما أنّ معظم الحوارات المتلفزة لرئيسي الحكومة والجمهورية كانت مسجلة وعمليات المونتاج التي تمت لها لا مراء فيها وهي تكاد تكون مساحات خطابية دعائية مفتوحة أقرب منها إلى المقابلات التلفزية الجدية والمهنية القائمة على فكرة المواجهة الموضوعية بين سلطتين حقيقيتين.
هكذا تحوّل المشهد الاعلامي إلى واقع ملموس يقوم على تعدّدية شكلانية وتنوّع ما انفك يتراجع تحت ضغط سوق الاشهار والعوامل التجارية التي تحركها مصالح وأجندات أصحاب كبار المؤسسات الاقتصادية ورؤساء مكاتب سبر الاراء التي تعدّ هي الاخرى معضلة كبرى لا تقلّ خطورة على مستقبل الحريات الصحفية.
كان هذا الوضع عنوانا لحقيقة بادية للعيان مؤداها أنّ شروط الصحافة الحرّة لم تتحققّ بعد في تونس رغم مرور زهاء 8 سنوات عن الثورة خاصة مع تعاظم خطر الاحتكار الاعلامي بارادة سياسية واضحة.
لقد وصل الاعلام إلى منزلق التعددية الشكلانية والحال أن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري تفيد في موقعها الرسمي على الانترنات بوجود 10 قنوات تلفزية متحصلة على التأشيرة القانونية بالاضافة إلى 19 إذاعة مرخص لها و 9 قنوات اذاعية جمعياتية.هذا دون احتساب وسائل الاعلام العمومية وقناة الزيتونة -المحسوبة على حركة النهضة- غير المرحض لها واذاعة القرآن الكريم مثلا التي تبث خارج اطار القانون.
اليوم لم تعد السلطة السياسية لوحدها تمثل خطرا على حرية الاعلام بل أيضا قوى الضغط المالي من مستشهرين وممولين لوسائل الاعلام ومؤسسات سبر الاراء الخاصة التي تحكمها شريعة الغاب دون حسيب أو رقيب في ظلّ غياب نصّ تشريعي ينظم هذا القطاع في اطار من الشفافية والاستقلالية والمقاييس العلمية الموضوعية.
لكن الخطر الاكبر يمكن في تقديرنا في انزلاق المشهد الاعلامي شيئا فشيئا نحو اللبننة،فبعض القنوات التلفزية تحولت إلى مزارع خاصة لخدمة أجندات غير مهنية مفضوحة شخصية وسياسية وحزبية في ظلّ عجز شبه تام من المؤسسات الرقابية والتعديلية على ممارسة سلطتها لفرض احترام القانون وأخلاقيات المهنة ومراقبة مصادر التمويل المشبوه في كثير من الحالات.وحتّى بعض الهياكل المهنية أضحت تغضّ الطرف عن ممارسات مثيرة للريبة لحسابات سياسوية وفي حالات أخرى تتعامل مع بعض الملفات بمنطق سياسة المكيالين.
لقد سجلنا في الفترة الاخيرة عودة ممارسات خطيرة تذكرنا بتلك التي يتم اعتمادها في الأنظمة الديكاتورية من أجل فرض الهيمنة على الاعلام حيث طفت على السطح مجددا أساليب الهرسلة الجبائية والاقتصادية على المؤسسات الخارجة عن السرب والتي أرادت أن تسلك طريق الاستقلالية التامة والحرفية الاعلامية علاوة عن تدجين وترويض بعض الدوائر المؤثرة والنافذة في القطاع تارة بالوعود وبالقرارات التي لا تفعّل وهو ما ينم عن غياب الارادة السياسية الحقيقية لانقاذ مسار الاصلاح والتنظيم وأحيانا باستعمال ملفات بأشكال خسيسة في اطار الترهيب والضغط والتوريط اذ لم يعد يخفى على أحد وجود تدخلات حتّى لدى المؤسسات العمومية لمنح الاشهار لهذا ومنعه عن ذاك دون مقاييس تقوم على الشفافية والانصاف.
يتزامن هذا الوضع الذي يعيشه الاعلام الخاص لاسيما بسبب تعاظم دور المال السياسي والذي لا يقتصر فقط على المجال السمعي البصري بل طال أيضا الصحافة المكتوبة الورقية والالكترونية التي تكاد تتحوّل إلى صحافة منكوبة تعاني من الانتصاب الفوضوي وأيضا جراء ازمتها الهيكلية والمضمونية مع واقع لا يقلّ بؤسا بالنسبة للاعلام العمومي الذي كان من المفترض أم يكون القاطرة التي تقود عملية الاصلاح.
فالتلفزة التونسية على سبيل المثال تتخبط في مشاكل داخلية جمّة زادت في تعميقها التدخلات السياسية وعودة التعليمات التي اصبحت مكبلة لأي محاولة للاصلاح.يكفي هنا أن نشير إلى تعاقب حوالي 13 رئيس مدير عام على رأس المؤسسة منذ 14 جانفي 2011 ولكن الحصيلة تقريبا هي نفسها وقد تكون تسير من سيء لأسوإ.
طبعا حال وكالة تونس افريقيا للأنباء ودار سنيب لابراس والاذاعة التونسية لا يختلف كثيرا عن وضعية التلفزة مع الفويرقات في التفاصيل والجزئيات وخصوصيات المشاكل الداخلية.
إنّ الحديث اليوم عن اعلام عمومي في الوقت الراهن لم يعد ذا مصداقية فهو أقرب الى اعلام حكومي همّ المسؤولين عليه الاول والاخير رغم الارادة الصادقة للبعض ترضية من هم في الحكم والبحث عن مسايرة التوازنات النقابية في حالات عديدة. هذا الصنف من الاعلام يتم التعامل معه بعقلية رزق البيليك لدرجة أن يسمح أحد المسؤولين في القصبة لنفسه باسستغلال سيارة ادارية تابعة لمؤسسة التلفزة التي له من القدرة داخلها ما يتيح تعيين منشطين ومحللين تابعين له في برامج حوارية لها تأثير مباشر على الجمهور والمتلقي حتى يكون الوضع كلّه تحت السيطرة وفي مأمن من أي انفلات قد لا يتماشى والرغبة في التدجين والتوظيف السياسوي لصالح هذا الطرف أو ذاك عشيّة سنة انتخابية وسياسية على غاية من الاهمية في تاريخ تجربة الانتقال الديمقراطي المتعثر بطبعه.
لكن هذه الهنات لا يجب أن تحجب حقيقة التحسن الذي عرفه أداء بعض المؤسسات الاعلامية الجهوية على غرار اذاعة تطاوين التي ما انفكت تلعب دورا هاما في ترسيخ اعلام القرب رغم كلّ المشاكل والعقبات المادية والسياسية.
إنّ تواصل هذا الوضع المخيف والبلاد تتأهب لاسحقاق انتخابي هام في سنة 2019 مبدئيا سيؤدي حتما إلى مزيد الدفع نحو لبننة الاعلام التونسي.هنا لا نتحدث عن كلّ وسائل الاعلام بل على جزء منها والذي نرى أنّه يهيمن على المشهد السمعي البصري باعتباره الاكثر تأثيرا وولوجا إلى بيوت المواطنين وسياراتهم ومكاتبهم وهواتفهم النقالة بفضل قوّة المال السياسي الذي قد يكون في جزء منه متأت من الخارج بأشكال مختلفة يمكن أن تكون مقنّعة.(أنظر الوثيقة المسربة في جوان 2017 والمنسوبة لمركز الامارات للسياسات تحت عنوان" الاستراتيجية الاماراتية المقترحة تجاه تونس" فضلا عمّا سميت اعلاميا بفضيحة الاموال البريطانية التي كشفتها صحيفة الغارديان الغرّاء)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.