بالثقافة والفن والرياضة والجامعة...التطبيع... استعمار ناعم    أبو عبيدة يتحدّى بالصورة والصوت    حركة النهضة تصدر بيان هام..    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تراجع الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    وزارة الداخلية تشرع في استغلال مقر جديد متطور للأرشيف    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    القبض على 24 منفّذ "براكاج" بالأسلحة البيضاء روّعوا أهالي هذه المنطقة    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    السجن ضد هذه الإعلامية العربية بتهمة "التحريض على الفجور"    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    كرة اليد: الترجي في نهائي بطولة افريقيا للاندية الحائزة على الكؤوس    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث عدد الباحثين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    كاردوزو: سنبذل قصارى جهدنا من أجل بلوغ النهائي القاري ومواصلة إسعاد جماهيرنا    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    وفد "مولودية بوسالم" يعود إلى تونس .. ووزير الشباب والرياضة يكرم الفريق    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    جندوبة: 32 مدرسة تشارك في التصفيات الجهوية لمسابقة تحدي القراءة العربي    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    روح الجنوب: إلى الذين لم يبق لهم من عروبتهم سوى عمائمهم والعباءات    لعبة الإبداع والإبتكار في رواية (العاهر)/ج2    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    أنس جابر تستهل اليوم المشوار في بطولة مدريد للماسترز    قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ بمنزل بورقيبة: هذا ما تقرر في حق الموقوفين..#خبر_عاجل    المهدية : غرق مركب صيد على متنه بحّارة...و الحرس يصدر بلاغا    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    عاجل : دائرة الاتّهام في قضايا الفساد المالي ترفض الافراج عن وليد جلاد    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    كأس ايطاليا: أتلانتا يتغلب على فيورينتينا ويضرب موعدا مع جوفنتوس في النهائي    هام/ بشرى سارة للمواطنين..    الترجي يطالب إدارة صن داونز بالترفيع في عدد التذاكر المخصصة لجماهيره    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب..ما القصة..؟    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    وزارة الصناعة تكشف عن كلفة انجاز مشروع الربط الكهربائي مع ايطاليا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حرية الاعلام بين سطوة اللوبيات ومخاطر اللبننة
نشر في باب نات يوم 05 - 10 - 2018


بقلم محمد اليوسفي
عضو المكتب التنفيذي بنقابة الصحفيين المكلف بالحريات
لم يكن أحد حتّى من أشدّ غلاة المتشائمين أو العدميين في علاقة بمستقبل مسار اصلاح الاعلام بعيد حدث 14 جانفي 2011 يتوقع المآلات والوضع الراهن الذي وصل اليه القطاع.لقد كانت الثورة لحظة فارقة ومنعطفا حاسما في تاريخ الاعلام التونسي الذي تخلّص وقتها من كلاكل وكالة الاتصال الخارجي سيئة الذكر بعد حلّها فضلا عن تحرّره من ربقة وزارة الاتصال اليد الطولى للنظام الاستبدادي الذي نجح من خلالها في تدجين القطاع وافساده وفرض الوصاية عليه خدمة لأجندات الحزب الواحد والزعيم الاوحد.
فعلى امتداد فترة حكم الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي عاش الاعلام تحت وطأة "دولنة" القطاع وفق تعبير الباحث العربي شويخة في كتابه "وسائل الاعلام في تونس: التحوّل الصعب" ما جعل منه أداة للتضليل والدعاية الفجّة وتزييف الحقائق والنكوص الفكري والمجتمعي فكانت البلاد تئن بسبب احتضار السياسة وضرب أبسط مقومات المواطنة من حقوق وحريات واقصاء لكلّ نفس منتقد أو معارض للنظام الحاكم الذي زجّ بالمجتمع في سجن كبير وصادر الفضاء العمومي.
غير أنّ الثورة حرّرت الأقلام ورفعت الحظر عن جميع الاراء والافكار والاصوات والاحزاب والتنظيمات بما في ذلك المتطرفة والدغمائية ايذانا بظهور حقبة جديدة دخلت غمارها البلاد في معترك تجربة انتقال ديمقراطي كان من البديهي أن يرافقه انتقال اعلامي يقوم على الاصلاح والنقد الذاتي واعادة التنظيم والتعديل من أجل التأسيس لمنظومة اعلامية ديمقراطية وفق متطلبات المرحلة التي عادة ما يكون فيها الاعلام حسب التجارب المقارنة أحد أهم المرتكزات والمفاتيح لترسيخ البنيان الديمقراطي المنشود وذلك باعتباره حجر الزاوية في المجال العمومي الذي يدار فيه التنافس والتدافع حول قضايا الشأن العام ومؤسسات الحكم ومراكز السلطات السياسية.
اليوم وفي خضم التعثرات والمخاطر الوخيمة التي باتت تتهدّد تجربة الانتقال الديمقراطي في بلادنا ومانتج عن ذلك من تمظهرات متعقلة بتتالي الازمات السياسية وضبابية الافق والذي يشي ببوادر تعطلّ يكتنف المسار برمته، يطرح هذا الوضع على المحك أسئلة ملحة وعاجلة حول دور الاعلام ضمن سيرورة المنعطف التاريخي الراهن. فهل يمكن الجزم بفشل مسار اصلاح الاعلام الذي يكاد يتحوّل إلى مجرد شعارات شعبوية جوفاء ؟وإلى أي حدّ يمكن اعتبار أنّ الاعلام قد ساهم في افساد الحياة الديمقراطية الناشئة؟ ولماذا لم تتحقق بعد شروط الصحافة الحرّة في تونس؟ وهل يمكن النظر بعين الارتياح لحصيلة تجربة انتقال الاعلام من قبضة النظام السلطوي إلى سطوة وهيمنة لوبيات المال والسياسة والاجندات الاقليمية والدولية اذا ما توقفنا عند المسألة بالتمعن والتدبر من منظور المسؤولية الاجتماعية والوطنية؟
*في أسباب انتكاسة مسار اصلاح الاعلام
لا مناص في مقدمة هذا التحليل الذي ينطلق من قراءة تأريخية ومعطيات مستقاة من داخل المنظومة الاعلامية الحالية من التذكير بأنّ وسائل الاعلام التي عادة ما يكون لها صدى وتأثير على توجهات الرأي العام والسياسات العمومية للدولة ومواقف التنظيمات الحزبية في مختلف المجالات والقطاعات يفترض نظريا أن تكون من بين أبرز وأهم روافد وأدوات تدعيم الانتقال الديمقراطي بالتوازي مع دور النخب من أحزاب سياسية ومجتمع مدني وكذا المؤسسات الدستورية والمستقلة التي قال عنها رئيس الجمهورية الحالي الباجي قائد السبسي بأسلوب ينطوي على نبرة ازدرائية غير ديمقراطية "العزري أقوى من سيدو " في احدى حوارته الصحفية علاوة عن بقية الاجهزة التي تساهم في تشكل الوعي الايديولوجي من قبيل الفضاءات التربوية والجامعات ومراكز البحوث وقطاع الثقافة.
لقد خلقت مناخات الحرية الفجئية والمطلقة غداة الثورة انفجارا اعلاميا وحالة ارتباك داخل الجسم الصحفي حتّم على أهل القطاع والفاعلين السياسيين ضرورة البحث عن آليات لضمان دمقراطة الحياة الاعلامية وتنظيم السلطة الرابعة لكي لا تكون نتائج الانفراج عكسية فتتحوّل إلى فوضى عارمة ما أنزل بها الله من سلطان.
هذا التحدي جاء وليدا لتسارع الاحداث التي فرضت سعيا وقتها لمأسسة مسار اصلاح الاعلام من خلال احداث لجنة فرعية في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي كان يترأسها عياض بن عاشور بالاضافة إلى تكوين هيئة وطنية لاصلاح الاعلام والاتصال برئاسة الصحفي كمال العبيدي الذي عاش لسنوات بعيدا عن بلاده لأسباب سياسية تتعلق بنشاطه الاعلامي والحقوقي المعارض لنظام حكم بن علي. كما تمّ أيضا اصدار تشريعات اعتبرت ثورية وتحررية بشكل غير مسبوق وهي تتمثل أساسا في المرسومين 115 و 116 المنظمين للحريات الصحفية والاعلام والاتصال السمعي البصري بعد الغاء مجلة الصحافة التي وظفت منذ صدورها في 1975 كعصا غليظة لضرب القطاع وتحجيم دوره من خلال ما تضمنته من فصول زجرية.
بيد أنّ بدايات تشكلّ هذا المسار في مرحلته الجنينية اتسمت بالتسرّع وباعتماد مقاربة فوقية أحادية اذ أنّ عملية اصلاح الاعلام لم تصاحبها نقاشات مستفيضة وانفتاح واسع على مختلف الاطراف المعنية. لقد كان الصحفيون الحلقة الاضعف والاكثر تهميشا في مسار اعادة بناء منظومة اعلامية جديدة على أنقاض موروث حقبة الاستبداد والفساد. كما أنّ اسقاط تجارب أخرى أجنبية على الحالة التونسية دون مراعاة الخصوصية المحليّة زاد في تعميق بذور المشكل.
إنّ من أهم الملاحظات التي وجب الوقوف عندها هي دور من يسمون بالخبراء الذين أشرفوا وساهموا في ولادة عملية الاصلاح فالعديد منهم ينتمون لفئة الأكاديميين الذين رغم قيمتهم العلمية والمعرفية النظرية فإنّ معظمهم لم يمارسوا البتة العمل الصحفي اليومي الميداني على أرض الواقع وهو ما يجعلهم قاصرين عن فهم كنه طبيعة الرهانات والتحديات والمطبات من الداخل.
لم يكن اذن من السهل معالجة تركة عقود من التخريب الذي طال القطاع الاعلامي بوصفة جاهزة أو بحلول فوقية مسقطة اقتداء بتجارب أخرى في أعرق الديمقراطيات الغربية.
هذا طبعا لا ينفي الحاجة لأن تكون التجربة التونسية في اصلاح الاعلام قائمة على الاستئناس بالمعايير المهنية الكونية في التنظيم والتعديل الذاتي وفي مستوى فلسفة التشريعات التحررية وأخلاقيات المهنة ومواثيق التحرير ومدونات السلوك.
لكن في تقديرنا ليست هذه الاسباب الرئيسية لانتكاسة مسار اصلاح الاعلام في تونس بل إنّ طبيعة المتغيرات السياسية التي عرفتها البلاد بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وصعود أحزاب الترويكا وفي مقدمتها حركة النهضة إلى الحكم وحالة الاستقطاب الايديولوجي الذي أفرزته جعلت الاعلام الوطني إزاء واقع جديد كمن يمشي على رمال متحركة.
فخلال فترة حكومتي حمادي الجبالي وعلي العريض والانقسام الذي شهده المجتمع بعموم نخبه ومواطنيه والفاعلين السياسيين ولوبيات المال والأعمال ظاهريا على الاقل في علاقة بالنمط المجتمعي ومدنية الدولة وقضيّة الهوية التي تجلت في التجاذبات حول الدستور،لعب الاعلام الذي كان في معظمه موروثا عن العهد السابق دورا سياسيا بامتياز برز خاصة في الاصطفافات والاضرابات النقابية لهياكل المهنة ولاسيما النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين التي كانت تتوجس خيفة من محاولات الهيمنة على وسائل الاعلام وهو ما جعلها تدخل في معارك كسر عظم مع الترويكا.
من المهم الاشارة إلى أنّ منظومة حكم الترويكا قد حاولت بشتى الاساليب مجابهة الجبهة المعارضة لها من خلال بعث وسائل اعلامية مقربة منها تحت غطاء شعار الاعلام البديل الذي بدا هجينا عن الواقع التونسي وهو ما أفضى إلى فشل مختلف هذه المحاولات.
لقد ساهم هذا المناخ الذي كان يقوم على استقطاب ايديولوجي غابت عنه في الكثير من الوضعيات الروح الموضوعية والعقلانية في بروز صراعات جانبية من قبيل التلويح بنشر قائمة للتشهير بالصحفيين الذين تعاونوا مع نظام بن علي علاوة عن تسريب الكتاب الاسود الذي أعدته مؤسسة رئاسة الجمهورية في عهد الرئيس محمد منصف المرزوقي وما صاحبه من جدل واتهامات متبادلة وكذلك القيام بتعيينات في الاعلام لاسيما العمومي والمصادر على قاعدة الولاء السياسوي لا الكفاءة في كثير من الحالات ودون مراعاة لمبدإ الديمقراطية التشاركية.
لا شكّ في أنّ ارادة هيمنة الترويكا على الاعلام وسقوطها في فخّ توسيع جبهة الاعداء رغبة في الانتقام والتشفي أو الترويض والاستمالة فسحت المجال أمام تسرّب من كانوا بالامس القريب دهاقنة منظومة التضليل وقمع الحريات الصحفية في العهد النوفمبري حيث اكتسبوا مشروعية "النضال" ضدّ مشروع الاسلام السياسي المعادي لثوابت الدولة الوطنية.
إنّ هذه الفترة التاريخية من عمر تجربة الانتقال الديمقراطية كانت محدّدة في وقت لاحق لملامح المشهد الاعلامي لما بعد انتخابات 2014.
ربّما قد يتساءل البعض عن حجج أخرى يمكن من خلالها فعلا الجزم بحقيقة تعثّر مسار اصلاح الاعلام في الذي تعطّل خلال عهد حكم الترويكا رغم المجهودات التي ظلت تقوم بها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري على وجه الخصوص منذ احداثها في سنة 2013.
من الواضح اليوم أنّ منسوب الثقة في الاعلام الوطني من قبل المواطنين قد تراجع في السنوات الاخيرة ولا أدلّ على ذلك ما نعاينه من مواقف وردود فعل في الشارع وفي صفحات التواصل الاجتماعي وخاصة من خلال عمليات سبر الاراء.
حصل كلّ هذا بعد بوادر مصالحة هجر من خلالها المواطن التونسي المتابع للشأن العام وسائل الاعلام الأجنبية التي كانت ملاذا له خلال أواخر عهد الرئيس بن علي والتي كانت تسلط الضوء على الاوضاع في تونس بهامش كبير من الحرية والموضوعية رغم المآرب التوظيفية لبعض القنوات التلفزية العربية خصوصا التي فضح مسار الانتقال الديمقراطي أجنداتها الداعمة لأطراف بعينها مثل قناة الجزيرة القطرية.
*التعددية الشكلانية ومخاطر اللبننة
أفضت نتائج انتخابات 2014 إلى تشكلّ مشهد جديد مختلف عمّا عاشته البلاد خلال فترة كتابة الدستور وحكم الترويكا.
لقد مثّل صعود حركة نداء تونس إلى سدّة الحكم والتي يمكن اعتبارها حزب الدولة العميقة بكلّ ما تحمله الكلمة من معان تحيلنا على موروث منظومة الحكم الاستبدادي في تفاعلاتها مع الاعلام والثقافة السياسية غير المتشبعة بالمبادئ الديمقراطية وما تفترضه من هامش كبير لدعم الحريات الصحفية واستقلالية الوسائل الاعلامية منعطفا آخر في مسار اصلاح الاعلام الذي أضحى تقريبا مجرد شعار فضفاض يتلخص في بعض الندوات الحكومية والبرلمانية والجمعياتية الفلكلورية والخطاب الرسمي المتعارض مع الممارسات على أرض الواقع.
بدا من الواضح تراجع منسوب الجرأة الاعلامية في البرامج الحوارية السياسية وقد تقلصت فجأة الحصص المخصصة للكوميديا الساخرة النقدية في علاقة بقضايا الشأن العام واختفت بعض الوجوه التي لم يعد مرغوبا في حضورها في الاذاعات والقنوات التلفزية بعد أن كان تؤثث المشهد الصدامي مع أحزاب الترويكا ولاسيما حركة النهضة والرئيس المرزوقي.كما أنّ معظم الحوارات المتلفزة لرئيسي الحكومة والجمهورية كانت مسجلة وعمليات المونتاج التي تمت لها لا مراء فيها وهي تكاد تكون مساحات خطابية دعائية مفتوحة أقرب منها إلى المقابلات التلفزية الجدية والمهنية القائمة على فكرة المواجهة الموضوعية بين سلطتين حقيقيتين.
هكذا تحوّل المشهد الاعلامي إلى واقع ملموس يقوم على تعدّدية شكلانية وتنوّع ما انفك يتراجع تحت ضغط سوق الاشهار والعوامل التجارية التي تحركها مصالح وأجندات أصحاب كبار المؤسسات الاقتصادية ورؤساء مكاتب سبر الاراء التي تعدّ هي الاخرى معضلة كبرى لا تقلّ خطورة على مستقبل الحريات الصحفية.
كان هذا الوضع عنوانا لحقيقة بادية للعيان مؤداها أنّ شروط الصحافة الحرّة لم تتحققّ بعد في تونس رغم مرور زهاء 8 سنوات عن الثورة خاصة مع تعاظم خطر الاحتكار الاعلامي بارادة سياسية واضحة.
لقد وصل الاعلام إلى منزلق التعددية الشكلانية والحال أن الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري تفيد في موقعها الرسمي على الانترنات بوجود 10 قنوات تلفزية متحصلة على التأشيرة القانونية بالاضافة إلى 19 إذاعة مرخص لها و 9 قنوات اذاعية جمعياتية.هذا دون احتساب وسائل الاعلام العمومية وقناة الزيتونة -المحسوبة على حركة النهضة- غير المرحض لها واذاعة القرآن الكريم مثلا التي تبث خارج اطار القانون.
اليوم لم تعد السلطة السياسية لوحدها تمثل خطرا على حرية الاعلام بل أيضا قوى الضغط المالي من مستشهرين وممولين لوسائل الاعلام ومؤسسات سبر الاراء الخاصة التي تحكمها شريعة الغاب دون حسيب أو رقيب في ظلّ غياب نصّ تشريعي ينظم هذا القطاع في اطار من الشفافية والاستقلالية والمقاييس العلمية الموضوعية.
لكن الخطر الاكبر يمكن في تقديرنا في انزلاق المشهد الاعلامي شيئا فشيئا نحو اللبننة،فبعض القنوات التلفزية تحولت إلى مزارع خاصة لخدمة أجندات غير مهنية مفضوحة شخصية وسياسية وحزبية في ظلّ عجز شبه تام من المؤسسات الرقابية والتعديلية على ممارسة سلطتها لفرض احترام القانون وأخلاقيات المهنة ومراقبة مصادر التمويل المشبوه في كثير من الحالات.وحتّى بعض الهياكل المهنية أضحت تغضّ الطرف عن ممارسات مثيرة للريبة لحسابات سياسوية وفي حالات أخرى تتعامل مع بعض الملفات بمنطق سياسة المكيالين.
لقد سجلنا في الفترة الاخيرة عودة ممارسات خطيرة تذكرنا بتلك التي يتم اعتمادها في الأنظمة الديكاتورية من أجل فرض الهيمنة على الاعلام حيث طفت على السطح مجددا أساليب الهرسلة الجبائية والاقتصادية على المؤسسات الخارجة عن السرب والتي أرادت أن تسلك طريق الاستقلالية التامة والحرفية الاعلامية علاوة عن تدجين وترويض بعض الدوائر المؤثرة والنافذة في القطاع تارة بالوعود وبالقرارات التي لا تفعّل وهو ما ينم عن غياب الارادة السياسية الحقيقية لانقاذ مسار الاصلاح والتنظيم وأحيانا باستعمال ملفات بأشكال خسيسة في اطار الترهيب والضغط والتوريط اذ لم يعد يخفى على أحد وجود تدخلات حتّى لدى المؤسسات العمومية لمنح الاشهار لهذا ومنعه عن ذاك دون مقاييس تقوم على الشفافية والانصاف.
يتزامن هذا الوضع الذي يعيشه الاعلام الخاص لاسيما بسبب تعاظم دور المال السياسي والذي لا يقتصر فقط على المجال السمعي البصري بل طال أيضا الصحافة المكتوبة الورقية والالكترونية التي تكاد تتحوّل إلى صحافة منكوبة تعاني من الانتصاب الفوضوي وأيضا جراء ازمتها الهيكلية والمضمونية مع واقع لا يقلّ بؤسا بالنسبة للاعلام العمومي الذي كان من المفترض أم يكون القاطرة التي تقود عملية الاصلاح.
فالتلفزة التونسية على سبيل المثال تتخبط في مشاكل داخلية جمّة زادت في تعميقها التدخلات السياسية وعودة التعليمات التي اصبحت مكبلة لأي محاولة للاصلاح.يكفي هنا أن نشير إلى تعاقب حوالي 13 رئيس مدير عام على رأس المؤسسة منذ 14 جانفي 2011 ولكن الحصيلة تقريبا هي نفسها وقد تكون تسير من سيء لأسوإ.
طبعا حال وكالة تونس افريقيا للأنباء ودار سنيب لابراس والاذاعة التونسية لا يختلف كثيرا عن وضعية التلفزة مع الفويرقات في التفاصيل والجزئيات وخصوصيات المشاكل الداخلية.
إنّ الحديث اليوم عن اعلام عمومي في الوقت الراهن لم يعد ذا مصداقية فهو أقرب الى اعلام حكومي همّ المسؤولين عليه الاول والاخير رغم الارادة الصادقة للبعض ترضية من هم في الحكم والبحث عن مسايرة التوازنات النقابية في حالات عديدة. هذا الصنف من الاعلام يتم التعامل معه بعقلية رزق البيليك لدرجة أن يسمح أحد المسؤولين في القصبة لنفسه باسستغلال سيارة ادارية تابعة لمؤسسة التلفزة التي له من القدرة داخلها ما يتيح تعيين منشطين ومحللين تابعين له في برامج حوارية لها تأثير مباشر على الجمهور والمتلقي حتى يكون الوضع كلّه تحت السيطرة وفي مأمن من أي انفلات قد لا يتماشى والرغبة في التدجين والتوظيف السياسوي لصالح هذا الطرف أو ذاك عشيّة سنة انتخابية وسياسية على غاية من الاهمية في تاريخ تجربة الانتقال الديمقراطي المتعثر بطبعه.
لكن هذه الهنات لا يجب أن تحجب حقيقة التحسن الذي عرفه أداء بعض المؤسسات الاعلامية الجهوية على غرار اذاعة تطاوين التي ما انفكت تلعب دورا هاما في ترسيخ اعلام القرب رغم كلّ المشاكل والعقبات المادية والسياسية.
إنّ تواصل هذا الوضع المخيف والبلاد تتأهب لاسحقاق انتخابي هام في سنة 2019 مبدئيا سيؤدي حتما إلى مزيد الدفع نحو لبننة الاعلام التونسي.هنا لا نتحدث عن كلّ وسائل الاعلام بل على جزء منها والذي نرى أنّه يهيمن على المشهد السمعي البصري باعتباره الاكثر تأثيرا وولوجا إلى بيوت المواطنين وسياراتهم ومكاتبهم وهواتفهم النقالة بفضل قوّة المال السياسي الذي قد يكون في جزء منه متأت من الخارج بأشكال مختلفة يمكن أن تكون مقنّعة.(أنظر الوثيقة المسربة في جوان 2017 والمنسوبة لمركز الامارات للسياسات تحت عنوان" الاستراتيجية الاماراتية المقترحة تجاه تونس" فضلا عمّا سميت اعلاميا بفضيحة الاموال البريطانية التي كشفتها صحيفة الغارديان الغرّاء)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.