على عكس ما اعتقده بعض المتابعين للشأن الانتخابي، والباحثين المتخصصين في التوجهات الانتخابية والسياسية للناخب التونسي، لم تكن فئة الشباب أقل من 25 سنة هي المحدد الرئيس والمؤثر في الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2019، رئاسية كانت ام تشريعية، بل هي الفئة العمرية بين 26 و45 سنة التي كانت أكثر وضوحا في دفع نسب المشاركة والتأثير في مسار الانتخابات ونتائجها. لم يخل المسار الانتخابي لسنة 2019 من مفاجآت ودروس وعبر، ويمكن من الآن تقييم المسار وتحليل أبعاده وتفكيك أرقامه الدلالية. على غرار زاوية المشاركة في التصويت التي تعتبر من أبرز العناصر ذات القراءات المتعددة. فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار فئة الناخبين الشباب التي لم تكن مشاركتها نسبيا مرتفعة إذ لم تتجاوز 9 بالمائة في التشريعية و11.6 بالمائة في الدور الثاني من الرئاسية ( ذكورا وإناثا)، فإن اللافت في الأمر أنه لو جمعنا الفئتين أي الفئة العمرية بين 18 و25 سنة، والفئة العمرية بين 26 و45 سنة، سنجد أن الفئتين معا تجاوزا 53 بالمائة من نسبة الناخبين في الدور الثاني للرئاسية، وبنسبة أقل بالنسبة للانتخابات التشريعية (حوالي 47 بالمائة) وهو أمر يحصل لأول مرة مقارنة بنسب المشاركة في انتخابات 2011 و2014 او الانتخابات البلدية لسنة 2018. من الناحية العلمية، فإن هاتين الفئتين يمكن تصنيفهما في فئة الشباب مع الأخذ بعين الاعتبار فوارق السن واختلاف المستوى التعليمي والمستوى المعيشي والنوع الاجتماعي (ذكور وإناث). لكن الفئة الثانية كان حضورها اكثر وزنا، وكان ذلك لافتا خلال الدورة الرئاسية الثانية يمكن اعتبارها من فئة الشباب المتعلم المثقف الأكثر نضجا ووعيا سياسيا والتواق إلى التغيير والثورة على السائد. فئة كان واضحا ميلها إلى ترجيح كفة المترشح قيس سعيد، صوتت له في الدورة الأولى، وساهمت في صنع الفارق بين المترشحين الاثنين في الدور الثاني، وبكيفية جعلته - أي الفارق- شاسعا وكاسحا لصالح المرشح الأول قيس سعيد الذي فاز بالرئاسية بنسبة تفوق 72 بالمائة وبفارق يقارب 50 بالمائة من الأصوات. بلغة الأرقام، شارك في التصويت للانتخابات الرئاسية في دورها الثانية أكثر من 3.7 مليون ناخب، وبلغت نسبة المشاركة الإجمالية 55 بالمائة، وهي نسبة أعلى من تلك التي سجلت في الدورة الأولى (49 في المائة)، وفي الانتخابات التشريعية التي تلتها (41 في المائة). وصوّت 2,7 مليون ناخب لقيس سعيّد بينما صوت 1,04 مليون ناخب للقروي في الانتخابات التي جرت يوم 13 أكتوبر الجاري. اكثر من مليون و900 الف صوت بين 18 و45 سنة وفقا لبعض الإحصائيات التي كشفت عنها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، بخصوص الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، فإن نسبة الشباب الذي شارك في عملية التصويت من الفئة اقل من 25 سنة لم تتجاوز 11.6 بالمائة، وقدّر عدد الناخبين في نفس الفئة العمرية 440.538 الف ناخب. اللافت للأمر أن عدد الناخبين بين 26 و 45 سنة بلغ أكثر من مليون و488 ألف ناخب (تحديدا 1.488.714 ناخب)، أي ما يناهز 42 بالمائة من العدد الجملي للناخبين الذين شاركوا في عملية التصويت. وحازت الفئة العمرية من الناخبين الذين تتجاوز أعمارهم 45 سنة النصيب الأكبر بتحقيقها نسبة مشاركة تقدر ب47 بالمائة على اعتبار أن أكثر من مليون و868 ألف ناخب من هذه الفئة العمرية شاركوا في التصويت في الدور الثاني للرئاسية (تحديدا 1.868.487 ناخب). حسابيا اكثر من مليون و900 الف صوت هم من الفئة العمرية ما بين 18 و45 سنة. أي أكثر من نصف العدد الجملي للناخبين. ومقارنة بالانتخابات التشريعية، التي شهدت نسبة إقبال أقل من للرئاسية في طوريها الأول والثاني، فإن الفئة العمرية بين 18 و25 سنة ارتفعت بنقطتين، في حين ارتفعت نسبة مشاركة الفئة العمرية بين 26 و45 سنة بتسع نقاط كاملة. مقابل انخفاض نسبة الفئة العمرية فوق 45 سنة بأربعة نقاط. وللتذكير، بلغت نسبة التصويت في الانتخابات التشريعية 41،7 بالمائة، منهم 64 بالمائة من الرجال و36 بالمائة من النساء، ولم تتجاوز نسبة إقبال الشباب (ما بين 18 و25 سنة ) على التصويت ال9 بالمائة منهم 5 بالمائة ذكور و4 بالمائة إناث. أما نسبة إقبال الفئة العمرية من 26 سنة إلى 45 سنة فكانت 33 بالمائة، منها 20 بالمائة رجال و13 بالمائة نساء في حين بلغت نسبة تصويت الفئة العمرية من 45 سنة فما فوق 57 بالمائة من الناخبين منهم 39 بالمائة رجال و18 نساء وهي الفئة الأهم من حيث الإقبال الفعلي على التصويت. ومهما يكن من أمر، فإنه يمكن استخلاص ثلاث ملاحظات أساسية يمكن من خلالها تفسير اختلاف نسب التصويت داخل الفئات العمرية التي تقل عن عمر 45 سنة. لماذا انخفضت بين الفئة العمرية 18 – 25 سنة، وارتفعت بالنسبة للفئة 16 – 45 سنة؟ بالنسبة لفئة الشباب بين 18 و25 سنة، (معظمهم من الشباب التلمذي والطلبة في مرحلة الدراسة وما قبل التخرج) يمكن القول إنها ما تزال عازفة عن التصويت بالكيفية التي يمكن من خلالها التحدث عن وجود وعي سياسي او تغير حقيقي في سلوكها الانتخابي، لكن، ومع ذلك، إذا ما قرأنا وزنها الانتخابي من خلال الأرقام قد نجد لها بعض الحضور النسبي المتطور لكنه يظل محتشما، لكنه مهم، فأكثر من 440 ألف صوتوا في الدورة الثانية من هاته الفئة العمرية وهذا العدد ليس بالأمر الهين، إذا ما قارنها مع عدد المصوتين الجملي في انتخابات الرئاسية لسنة 2014 التي لو سجلت حينها لكانت تقدر بحوالي 20 بالمائة من جملة الأصوات. كما أن هذه الفئة من الناخبين سجلت – رغم ضعف اقبالها- حضورا متطورا ايجابيا خلال محطات الاقتراع الثلاث، ما يفسر ربما بأن أغلبهم يصوت لأول مرة، وتطور نسبة تصويتهم بنقطتين خلال الدور الثاني للرئاسية.. وهذا الأمر له عدة دلالات ترتبط بالبحث عن صورة مختلفة لرئيس الدولة مغايرة للصورة النمطية السائدة.. مع الإشارة إلى أنه ووفقا لهيئة الانتخابات، فإن نسبة الشباب من المسجلين الجدد في السجل الانتخابي الذي تم تحيينه خلال الفترة من أفريل إلى جويلية 2019، ممن تتراوح اعمارهم بين 18 و25 سنة تفوق 70 بالمائة. أي أن ما يناهز 700 ألف شاب. نسبة كبيرة منهم قد تكون صوتت في انتخابات 2019 ربما لأول مرة. شغل.. حرية.. كرامة وطنية أما الفئة الثانية التي يمكن تصنيفها في خانة الشباب، أي الفئة العمرية بين 26 و45 سنة، والتي تجمع بين الشباب الناضج والشباب الأكثر نضجا خاصة إذا ما تجاوز سنه ال35 سنة، فأغلبهم ينتمون –حتما- لفئة الطلبة الجامعيين، والمتخرجين الجدد، والمتخرجين القدم، ومن فئة الشباب العاطل عن العمل، وأصحاب الشهادات العليا خاصة منهم من بين العاطلين عن العمل الذين فقدوا ثقتهم في كل الأحزاب والطبقة السياسية التي أثثت المشهد السياسي والبرلماني بعد الثورة بسبب فشلها في تحسين ظروف العيش والقضاء على مظاهر الفساد والمحسوبية.. كما ان هذه الفئة التي أرادت هذه المرة إيصال صوتها، تضم أيضا شبابا مثقفا واعيا يتمتع بحس ادراكي سياسي مختلف تماما عن طريقة تفكير الطبقة السياسية التي شغلت المشهد منذ سنة 2011، كما أن الفئة العمرية تضم أيضا جامعيين وإطارات عليا تشغل خططا وظيفية في الدولة وفي القطاع الخاص. وقد يكون لها شأن في المشهد السياسي المتغير وقد تحاول فرض وجودها لتكون قوة اقتراح مساندة لمن يرغب فعلا في التغيير والثورة على السائد، متجندة لدعم كل من يرفع شعار محاربة الفساد والمحسوبية والمحاباة فعلا لا قولا.. هي فئة الشباب التي رفعت يوم 14 جانفي 2011 وما قبله شعار "شغل، حرية، كرامة وطنية." جدير بالذكر أن دراسة ميدانية أنجزتها الهيئة المستقلة للانتخابات قبل انطلاق الاستحقاقات الانتخابية، وبنت على ضوئها خطتها لتسجيل اكبر عدد ممكن من الناخبين الجد خلال سنة 2019، كشفت عن وجود مليون و850 ألف إمرأة غير مسجلة ومليون 640 ألف رجل غير مسجل وعدد لا يُستهان به من التلامذة والطلبة والعمال في القطاعين الصناعي والفلاحي ومعطّلين عن العمل.. رفيق بن عبد الله