بعد ان كان عنوانا للمعارضة البرلمانية بعد الثورة وخصما سياسيا شرسا لكل الأنظمة المتعاقبة منذ الاستقلال، بدأت قوى وأحزاب اليسار في لفظ «انفاسها» الاخيرة بعد ان خسرت ثلاث جولات انتخابية متتالية لم يتمكن فيها من الحفاظ على طبيعته في المنظومة السياسية. فبعد خسارة اليسار ممثلا في الجبهة الشعبية في الانتخابات التشريعية الاخيرة وحصوله على مقعد «يتيم» في البرلمان القادم ستشهد منظومة المعارضة تغيرا جذريا شكلا ومضمونا. وقد فشلت الجبهة الشعبية في اعادة انتاج خطاب جديد بما يجعلها تتجاوز الارث الايديولوجي وشعاراتها التي تاكل جزءا منها واستثمرت بعضها اطراف سياسية اخرى. ولا يخفى على احد مربع العزلة السياسية الذي عاشته الجبهة الشعبية باختزال صراعاتها مع حركة النهضة مقابل ترك المشهد لبروز مكونات سياسية اخرى قامت بتجديد وتشبيب نفسها و»سطت» ايجابيا على ارث اليسار ما اوصلها اليوم الى تحقيق نتائج تعتبر محترمة في سياق سياسي وتاريخي صعب. تآكل اليسار وحسب الكاتب والمحلل السياسي شكري بن عيسى فان اليسار اليوم في تونس في اصعب لحظاته بعد ما كان لما بعد ما يزيد عن ربع قرن تعبيرة سياسية ونقابية وفلسفية واجتماعية، لكن اليوم يدخل في ازمة عميقة وخسر حتى مربعات مقولاته الثورية والسيادية لفائدة تعبيرات سياسية اخرى مثل قيس سعيد الفائز في الدور الثاني للرئاسية بمقولات الثورة والارادة الشعبية والمجالس المحلية والعدالة الاجتماعية، وائتلاف الكرامة لسيف الدين مخلوف الذي يرفع مقولات الثورة والسيادة على الثروات رغم تصنيفه كيميني و أيضا بعض التعبيرات الاجتماعية الاخرى مثل التيار الديمقراطي وحركة الشعب وحتى المترشح للدور الثاني للرئاسية نبيل القروي الذي يطرح نفسه مدافعا عن الفقراء والمعدومين رغم تصنيفه بالشعبوي. معارضة جديدة.. نتائج الانتخابات التشريعية افرزت حركات معارضة جديدة من خارج الاحزاب التقليدية نتيجة تصحر فكري عاشته المعارضة «الام» في تونس التي ظلت حبيسة منطق الرفض لكل شيء حتى لمطالب الاصلاح التي اطقلت داخلها. ومن المتوقع ان نرى معارضة في البرلمان القادم تحمل مضامين سياسية وفكرية جديدة تختلف جذريا مع الفكر اليساري مثل الحزب الثاني في الانتخابات التشريعية قلب تونس الذي قال عضو مكتبه السياسي اسامة الخليفي ان قلب تونس سيكون ملتزما بالوعود الانتخابية التي قدمها للشعب التونسي معلنا انه في حال تحصل على المرتبه الاولى في التشريعية فانه لن يتحالف مع حركة النهضة وفي حال تحصل على المركز الثاني سيكون في المعارضة. الحزب الحر الدستوري المتحصل على المركز الثالث في الانتخابات التشريعية بنسبة 6.8 بالمائة من الاصوات اكدت رئيسته عبير موسي انها لن تشارك في حكومة فيها النهضة وانها ستتمركز في المعارضة. ومن وجهة نظر بن عيسى التحولات الكبرى ستعرفها الساحة السياسية التونسية مع انكساف شبه كامل لليسار في البرلمان القادم بتراجع الكتلة الاولى في المعارضة ( الجبهة الشعبية) من 15 نائبا وترؤس لجنة المالية الى وجود نائب فقط وتلاش للكتلة البرلمانية فضلا عن التراجع الشعبي في الرئاسية اذ لم يحقق كل من المترشحين الرحوي والهمامي 1 بالمائة من الاصوات بعد ان كان مرشح اليسار حمة الهمامي في رئاسية 2014 الثالث بما يزيد عن 255 الف صوت ونسبة قاربت 8 بالمائة. اسباب الانهيار وقف محدثنا الكاتب والمحلل السياسي بن عيسى على جملة من الاسباب التي ادت الى تآكل اليسار التونسي الى ان فقد دوره التاريخي ولعل ابرز هذه الاسباب تعود الى فتور رأس المال الرمزي الذي تحقق بعد اغتيال الزعيم اليساري شكري بلعيد ولكن بعد الاجترار الكبير لنفس المقولات والمفاهيم والمقاربات التي لم تحقق نتائج فعلية في تغيير الواقع بالرغم من الفشل الحكومي العميق ولم تجدد بما يستوجب في ظل افتقار للديمقراطية والحوار داخل هياكل الجبهة ما قاد الى مزيد الاختلافات الى حد التنازع الحاد داخليا خاصة بين الوطد الذي يتزعمه فعليا منجي الرحوي وحزب العمال الذي يتزعمه حمة الهمامي، في ظل طغيان جارف للزعاماتية وتورم مرض للأنوات تحول عبره الصراع من صراع ضد السلطة الىى صراع داخلي مقيت. والحقيقة لا يمكن تصور وجود برلمان في تونس في ظل غياب اليسار وصوته ومقولاته ومفاهيمه ومرجعياته وشراسته السياسية والميدانية حتى ان كانت بعض تعبيراته حاضرة بطريقة هامشية او منحسرة والادهى هو في وجود اصوات تتحوز المقولات اليسارية وتتاجر فيها وترفع عناوينها بشكل محرف ومشوه في قطيعة عن كل مشروعية ومصداقية سواء تاريخية او ميدانية. اليسار تاريخيا.. قال بن عيسى في سياق حديثه ل «الصباح» ان اليسار تاريخيا وعبر العالم مثل تعبيرات ايديولجية عميقة غيرت وجه الانسانية فكريا وسياسيا منذ بداية اواسط القرن العشرين والى الان تنحسر مساحته ولكنها تتوسع وتستعيد مكانتها في كل مرة، في جنوبامريكا يطرح اليسار مقولات جديدة في تزاوج مع الثقافة والهوية المحلية ويستعيد بذلك النفوذ والالق وفي فرنسا في انتخابات 2017 مثل «ميلونشون» بحركته «فرنسا الابية» تعبيرة سياسية قوية جذبت اليها الملايين ونفس الشيء بالنسبة للخضر الذين يسجلون ارقاما محترمة وهو ما لم نشهد له مثيلا في تونس حيث ساد التشقق في ظل الجمود في انتاج المقالات والمفاهيم والشعارات الجديدة برغم المساهمة الكبرى لليسار في اسقاط الاستبداد وفي الارتقاء بمقولات الثورة سياسيا في 2010 و2011 حيث كان شعار « خبز حرية كرامة وطنية» الساري المرجعية العنوان الابرز للثورة. جهاد الكلبوسي