كانوا عشرات من المثقفين والسياسيين ونخبة من الباحثين في التاريخ والإعلاميين ..تجمعوا حول المائدة المستديرة لمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات لمتابعة عرض شيق قدمه الحقوقي والطبيب والوزير السابق والقيادي في حزب التكتل الديمقراطي سابقا عبد الرحمان الأدغم لكتاب ضخم تضمن شهادات والده عن مسيرته السياسية " الباهي الأدعم الزعامة الهادئة ". قدم عبد الرحمان هذا الكتاب من الحجم الكبير ، بصفحاته ال750 بينها عشرات خصصت للصور وللوثائق، بأسلوب الإبن الذي يخاطب والده الذي يرى فيه خصالا لا تعد ، وكأنه جالس بين يديه. جرأة نجح سي عبد الرحمان في أن يقدم كتاب شهادات والده بأريحية مع طرح جريء وصريح لاشكاليات سياسية كانت تؤرق والده الانسان والمناضل الوطني ضد الاستعمار والدبلوماسي الذي تنقل بين دول العالم للتعريف بمطالب التحرر الوطني لشعبه . شمل العرض والحوار مع المشاركين والمؤرخين ورفاق الفقيد صفحات من النضال الوطني المشترك ضد الاحتلال الأجنبي قبل أن يتوقف عند عدة محطات سياسية شغلت الزعماء الوطنيين بعد اعلان الاستقلال الداخلي وانفجار خلاف كبير بين رفاق الامس وانقسامهم الى شقين : الأول ناصر" الزعيم الكبير" صالح بن يوسف الامين العام للحزب والقائد الفعلي للحركة الوطنية منذ هجرة الزعيم بورقيبة الى المشرق واستقراره به لمدة 5 أعوام ، والثاني كان مواليا " للمجاهد الأكبر" الحبيب بورقيبة رئيس الحزب منذ ابعاد الرئيس الاول محمود الماطري أواخر الثلاثينات تعددية داخل الحزب الدستوري تحدث عبد الرحمان الادغم عند عرض الكتاب وخلال النقاش عن تعدد الاراء والمواقف داخل الحزب الدستوري قبل استقلال تونس عن فرنسا ثم في مرحلة بناء الدولة الحديثة . وتوقف مرارا عند نقطة انحياز والده " سي الباهي " الى الجناح التحرري ومعارضته مواقف " الصقور " أو "المتشددين " في الحزب وفي مؤسسات الحكم . وكان طبيعيا أن يتوقف نجل الفقيد ثم المتدخلون ، وخاصة الاستاذ عبد اللطيف عبيد وزير التربية سابقا والقيادي السابق في حركة الديمقراطيين الاشتراكيين وحزب التكتل والمؤرخ محمد لطفي الشايبي ، عند مرحلة تكليف الزعيم الباهي الأدغم بوزارة الدفاع ثم برئاسة الحكومة وبالوفد العربي رفيع المستوى الذي كلفته جامعة الدول العربية بالوساطة في الأردن أثناء حرب " أيلول الأسود " بين قوات المملكة الأردنية وقوات منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات ، مما تسبب يف سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى . انقاذ عرفات من الاسر والقتل وقد نجح الباهي الأدغم في انقاذ الزعيم عرفات وتهريبه من الاردن الى الكويت ضمن خطة سرية ثم تنقل الى القاهرة . وقد تسبب له نجاحه وربطه علاقات مع الرئيسين عبد الناصر ثم انور السادات وغيرهما من القادة العرب في مضايقات من الزعيم الحبيب بورقيبة وبعض رفاقه فدعوه الى العودة الى تونس ثم دفع نحو الاستقالة والابتعاد عن السياسة . بل لقد تعرض سي الباهي الى انتقادات في بعض خطب بورقيبة الذي حاول التقليل من شانه أكثر من مرة ووصفه بكونه " نفس مؤمنة ".وقد دمعت عينا سي عبد الرحمان وهو يستحضر تلك الصفحة في علاقات الزعيم الباهي الادغم مع الزعيم بورقيبة . قراءة عقلانية ويزخر الكتاب ، مثلما ورد في تقديم نجله عبد الرحمان والاساتذة عبد اللطيف عبيد ومحمد لطفي الشايبي والطاهر بوسمة ، بالمعلومات المفيدة والقراءة العقلانية والهادئة لمرحلة الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي المباشر ثم عن مرحلة النضال من اجل الجلاء العسكري والزراعي وصولا الى مرحلة بناء الاقطاب الاقتصادية . في هذا السياق قدم الكتاب شهادات ومعلومات مثيرة عن الخلافات بين انصار الزعيمين صالح بن يوسف وبورقيبة الذي حسم مطلع الستينات باغتيال بن يوسف بامر من الرئيس بورقيبة في منفاه بالمانيا اثر اجتماع عاصف بينهما فشلت بعده محاولات الصلح . ويورد الكتاب ان ميزان القوى اختل بين الزعيمين وانصار الفريقين منذ انحازت السلطات الفرنسية لبورقيبة وقررت تسليمه البلاد اواسط الخمسينات . وقد انحاز الادغم اول الامر الى بن يوسف مثل اغلب الزعماء الوطنيين لكنه التحق ببورقيبة فيما بعد وعين امينا عاما للحزب بعد طرد بن يوسف . المحاكمات السياسية كما توقف الكتاب والنقاش العام في مؤسسة التميمي أيضا عند ملف المحاكمات السياسية وما وصفه ب" تضخيم " بعض تحركات معارضي بورقيبة ، بما في ذلك تحركات " اليوسفيين " و" الانقلابيين " في 1962 بزعامة مدير الامن الرئاسي الازهر الشرايطي ثم بعد عزل الوزير احمد بن صالح وسجنه ومحاكمته باحكام قاسية . وقد عرف عن سي الباهي أنه كان من بين قيادات الحزب والدولة التي عارضت محاكمة بن صالح وسجنه وعملت على اسناد حقيبة دبلوماسية اليه وتكليفه برئاسة البعثة في اسبانيا مؤقتا . لكن بورقيبة والمتشددين في الحزب اصروا على محاكمته وسجنه ، غير مبالين باعتراضات الدستوريين الذين بدأوا يطالبون بالديمقراطية والانفتاح السياسي . واجمالا فقد قدم الكتاب اضافات كثيرة رغم بنصوصه وشهاداته وصوره الجميلة والمعبرة رغم تأخير موعد نشره لاستكمال اصلاحه وتنفيذا لتوصية من سي الباهي بتاجيل النشر الى ما بعد الافراج عن الزعيم بورقيبة من " الاقامة الجبرية " أو تغيير النظام السياسي في تونس . تستحق كثير من المعطيات الواردة في الكتاب التدقيق والمناقشة من قبل المؤرخين والباحثين المختصين في الدراسات المقارنة للوثائق . وقد بدأ ذلك فعلا من خلال حصتي النقاش العام لهذا الكتاب الوثيقة في المكتبة الوطنية ثم في مؤسسة التميمي للدراسات من قبل نخبة من الأكاديميين كان بينهم الاساتذة نور الدين الدقي ومحمد لطفي الشايبي ومحمد الحصايري ..ونجل الفقيد المناضل الحقوقي عبد الرحمان الادغم .