بعد الموعد الأول في المكتبة الوطنية وندوة يوم 21 ديسمبر من العام المنقضي يحط كتاب " الباهي الأدغم الزعامة الهادئة " رحاله في مؤسسة التميمي في ندوة ثانية التأمت يوم السبت 11 جانفي الجاري ليعاد النقاش والحوار من جديد حول مضمون هذا المؤلف الضخم الذي جاء في 750 صفحة وترك انطباعا طيبا عند تقديمه الأول وفتح نوافذ عديدة في مسائل كثيرة تهم تاريخ الحركة الوطنية وأحداث تاريخ تونس المعاصر بعد أن حاول الكثير من المهتمين بالتاريخ غلقها . في هذه الندوة التي أثثها كل من ابن صاحب الكتاب السيد عبد الرحمان الأدغم والأستاذ الطاهر بوسمة والمؤرخ محمد لطفي الشابي والوزير السابق عبد اللطيف عبيد وحضرها ثلة من أصدقاء المؤسسة من مفكرين ومثقفين وإعلاميين كان من بينهم السياسي وعضو مجلس النواب سالم الأبيض، تم الحديث عن الملابسات التي دعت المرحوم الباهي الأدغم إلى كتابة مذكراته عن فترة حكمه إلى أن غادر عالم السياسة في بداية السبعينات من القرن الماضي بعد خلاف مع الرئيس الحبيب بورقيبة وهو الذي كان عضده الأيمن وأحد وزرائه المقربين وأحد بناة الدولة الوطنية وأحد الآباء المؤسسين بعد الاستقلال كما تم تناول موضوع الوصية التي تركها لأبنائه بعدم نشر الكتاب إلا بعد خروج الزعيم بورقيبة من سجنه الذي وضعه فيه الرئيس بن علي حيث يعتبر أن بورقيبة كان مسجونا بعد تنحيته عن الحكم وبعد مغادرة الانقلابي بن علي الحكم وهو الوصف الذي أعطاه للمجموعة التي قادت عملية التغيير في 7 نوفمبر 1987 وهي قضية حظيت باهتمام كبير لمعرفة السبب الذي منع الباهي الأدغم من نشر كتابه في زمن ما قبل الثورة وهي أسباب ذكرها السيد عبد الرحمان الادغم ولكننا نرجح أنها تعود في نظرنا إلى سلوكه الديمقراطي الرافض لافتكاك السلطة بالقوة والغصب ومن خلال الانقلابات حيث وصف بن علي ومن معه بالانقلابيين وبالتالي فإنه من الأخلاق والقيم الديمقراطية أن لا ينشر كتاب عن بورقية في زمن الانقلابيين وكذلك بسبب انتقاده للرئيس الذي عمل معه وكان عضده الأيمن في فترة صعبة من تاريخ البلاد فلم يرد أن يوجه إليه النقد وهو لا يزال على قيد الحياة خاصة وأن الكتاب يعد مساءلة ومحاكمة لسنوات مهمة من حكم الرئيس بورقيبة منذ الاستقلال حتى بداية السبعينات من القرن الماضي. قيمة الكتاب في كونه قد حوى على الكثير من المعلومات والتفاصيل والمعطيات الدقيقة عن الكثير من القضايا التي تخص تاريخ الحركة الوطنية و التي لا تزال إلى اليوم محل جدل فكري وسياسي وتاريخي والإطلاع عليها من وجهة نظر أحد الفاعلين في أحداثها وأحد السياسيين الذين كانوا قريبين من سلطة القرار يفرض بالضرورة إعادة فتح كتاب التاريخ الذي أغلقوه ويفرض كذلك إعادة فهم التاريخ التونسي وإعادة القراءة التاريخية للكثير من الملفات الحارقة نحو كتابة جديدة للتاريخ التونسي المعاصر. فهذا الكتاب بما تضمنه من معلومات مهمة للغاية عن أدق مرحلة عرفتها البلاد بعد الاستقلال هو دعوة للتفكير في التأسيس الجديد للتاريخ فكما أن هناك اليوم من يطالب بتصحيح المسار السياسي للثورة التونسية من خلال فكرة التأسيس الجديد فإن هذا الكتاب هو بدوره دعوة لإعادة الكتابة التاريخية نحو التأسيس التاريخي الجديد بعد أن بدأت تظهر في السنوات الأخيرة الكثير من الكتب لزعماء وفاعلين سياسيين من الجيل البورقيبي الأول وهي كلها شهادات ومذكرات مهمة تصلح مادة للمؤرخين من أجل أن يعيدوا النظر في الكثير من القضايا الخلافية ومن أجل إعادة كتاب التاريخ في بعض مراحله التي بقيت غامضة أو ملتبسة واليوم مثل هذه المؤلفات قد تعيد الفهم والقراءة والكتابة الجديدة من أجل كتابة تاريخية لتاريخ الحركة الوطنية بطريقة تقربه إلى حقيقة ما حصل فعلا وبرؤية موضوعية بعيدة عن الكتابة الموجهة والكتابة الاقصائية والكتابة المادحة والتي حصرت كل المنجز التاريخي للحركة الوطنية في شخص الزعيم الواحد الرئيس بورقيبة. الكتاب هو قراءة موضوعية في تجربة سياسية لأحد الفاعلين السياسيين المؤثرين في بناء دولة الاستقلال و تجربة حكم جديرة بالاهتمام والدراسة خاصة وأنها جاءت حاوية للكثير من المعطيات والتفاصيل عن المرحلة الاستعمارية و مرحلة بناء الدولة الوطنية فمن القضايا التي تناولها الباهي الأدغم ملف الصراع اليوسفي البورقيبي حيث في صفحات عديدة تحدث عن هذا الخلاف الذي يعود إلى سنوات قبل الاستقلال وتحديدا إلى الثلاثينات من القرن الماضي عندما بدأت تظهر البوادر الأولى للصراع حول الزعامة والقيادة وهو خلاف تواصل حتى الاستقلال وما ظهر من خلاف حول مفهومه وحقيقته ومن الإضاءات المهمة في هذه المسألة و التي جاءت في هذا الكتاب أن الباهي الادغم لما عاد من الولاياتالمتحدة أين كان يناصر القضية الفلسطينية وجد الخلاف على أشده بين الزعيمين والبلاد على شفى انقسام حاد وفتنة مدوية فحاول التوفيق واحتواء الخلاف وإزالة الجليد بينهما غير أنه توقف عن الوساطة والصلح لما تيقن بأن فرنسا قد حسمت أمرها بخصوص الشخصية التي سوف تأتمنها على البلاد بعد خروجها وإنهائها الاحتلال وانحازت إلى الزعيم بورقيبة على حساب صالح بن يوسف وهذه الشهادة هي في غاية من الأهمية حتى نفهم كيف سارت الأمور اثناء الاستقلال وبعده وحتى تفهم لماذا تم التخلص من صالح بن يوسف وتغييب كل القيادات الحزبية الوطنية الأخرى حتى لا يبقى في المشهد إلا رجل واحد.. من القضايا الأخرى التي تناولها الكتاب بكثير من التدقيق تجربة التعاضد وفشل التجربة الاشتراكية أو ما سماه عبد السلام القلال في كتابه " بالمنعرج الخطأ " والترتيب لمحاكمة أحمد بن صالح وتحميله بمفرده كامل المسؤولية في هذا الفشل وفي هذا الخيار الاقتصادي والحال أن المسؤولية حسب الباهي الأدغم هي جماعية من دون أن يبعد أي طرف عن هذه المسؤوليته وفي هذا الخصوص فقد كان الباهي الأدغم غير موافق على محاكمة أحمد بن صالح ولم يكن يرغب في أن تسير الأمور على هذه الشاكلة التي أرادها بورقيبة ونفس الموقف اتخذه في ملف محاولة الانقلاب سنة 1962 والتي انتهت بإعدام مجموعة من الضباط العسكريين بشبهة التدبير لانقلاب عسكري ضد بورقيبة حيث كان الباهي الأدغم يعتبر أن المسألة اخذت حجما أكبر من حجمها وأن بورقيبة قد وظفها لصالحه وضخمها كثيرا من دون أدلة واضحة وقاطعة على وجود انقلاب حقيقي وقد كان يرى أن أقصى ما كان يمكن الحكم به تجاه المتهمين هو توجيه تهمة محاولة الانقلاب وتسليط عقوبة أقل بكثير من عقوبة الاعدام . في الكتاب حس ديمقراطي كبير فكل قارئ له يلحظ الروح التحررية والنفس الديمقراطي الموجود في الكثير من فصوله وهي مسألة مهمة في تاريخ الحركة الوطنية فكتاب الباهي الأدغم الزعامة الهادئة هو كتاب يفتح نافذة كبيرة للبحث في موضوع مغيب ومنسي بل قل عدم التحدث فيه متعمد وهو موضوع وجود تيار ديمقراطي في الحركة الوطنية وفي الحزب الحر الدستوري الذي غيبه كل من كتب التاريخ التونسي المعاصر وتجاهله الكثير من المؤرخين فحينما تقرأ هذا الكتاب تخرج بانطباع واضح على أن صاحبه من ذاك الرعيل الأول المشبع بالقيم والمبادئ الديمقراطية ومن الزعماء الذين حلموا بتونس بعد الاستقلال دولة عصرية وديمقراطية وهذا الحلم تم الاجهاض عليه بعد الاستقلال بالتصور الذي قدمه بورقيبة عن الدولة وعن الحكم الذي يرى أنه يحتاج إلى دولة ماسكة بكل شيء وزعيم اوحد وحزب واحد أما مسائل الاختلاف والتعددية والديمقراطية فقد تم تغييبها وإقصاؤها من مشروع الدولة الوطنية لاعتقاد بورقيبة أنها مفسدة للحكم في تلك الفترة والحال أننا نكتشف اليوم مع صدور الكثير من المؤلفات عن دولة الاستقلال أن الكثير من الرموز الوطنية كانت رموزا مشبعة بالفكر والثقافة والحس الديمقراطي غير أن بورقيبة غيبهم جميعا وفرض الرأي الواحد والحزب الواحد ومن العلامة البارزة على أن الباهي الادغم كان واحدا من المنتمين إلى الخط الديمقراطي في الحزب الحر الدستوري أنه لما خلف بورقيبة على رأس الدولة في سنة 1970 بعد مرض ألم به واضطره إلى العلاج في ألمانيا جاءته فرصة لكي يصبح هو الرئيس الفاعل والحقيقي فكل الظروف كانت مواتية لتسلم السلطة خاصة بعد أن اتضح وأن بورقيبة قد انتهى سياسيا ولم يعد قادرا على الحكم جراء كل الهزات التي اعترضته وبعد أن أشار عليه الكثيرون بأن الفرصة مواتية للانقلاب على الرئيس والتحول إلى الرئيس الفعلي غير أنه لم ينصت إلى كل هذه الأصوات التي تحرضه على الانقلاب وهو أمر كان يسهل وقوعه وقتها وواصل في خلافة الرئيس على رأس الدولة إلى أن عاد بورقيبة من ألمانيا ليسلمه الأمانة وفي هذا دليل على أن الرجل كان له حس ديمقراطي عال جدا وكان يتصرف من منظور رئيس دولة مدنية ولم يكن له نزعة انقلابية لأنه لم يكن عسكريا فالانقلابات يقوم بها العسكريون ولا يفكر فيها المدنيون والديمقراطيون. في الكتاب قضايا أخرى مهمة مثل إشاراته إلى وجود حزب عربي ثوري تأسس في تونس منذ الثلاثينات وأن الكثير من زعماء الحركة الوطنية كانوا ينتمون إليه وهي قضية مهمة يمكن الحفر فيها للتأريخ للبدايات الأولى للقومية العربية في تونس وقضية رسم الحدود مع الجارة الجزائر وكيف خسرت تونس الكثير من المساحة الموجود بها أبار للنفط لسوء إدارة هذا الملف سياسيا وقضية الاقتتال الفلسطيني الأردني في بداية السبعينات والدور الذي لعبه الفريق التونسي الذي كان متواجدا وقتها في انقاذ الرئيس عرفات من الاغتيال وقضية الصراع على خلافة بورقيبة وكل المناخ السياسي الذي رافق انهاء تجربة التعاضد والمراهنة على الهادي نويرة لإنقاذ البلاد وقضايا أخرى مهمة من الضروري العودة إليها لفهم الكثير من المعطيات الدقيقة يرويها في هذا الكتاب رجل عاين وعايش أدق مرحلة عرفتها تونس في تاريخها المعاصر.