ودّعت تونس أمس أحد رجالاتها الذين نذروا حياتهم لخدمة الوطن من مختلف المواقع قبل الاستقلال وفي مرحلة بناء الدولة الحديثة وهو المرحوم حامد القروي الذي رحل جسدا بعد عطاء كبير في المجالين الرياضي والسياسي وفي حركة التحرير الوطني، وستظل صورته عالقة في الأذهان واسمه راسخا في الذاكرة الوطنية ومطروحا على مختبر التاريخ. ويكون من واجب البلاد ألاّ تفسخ باسم الثورة رموز البلاد وأن تنظر إلى مسيرتهم نظرة رصينة. ولذلك يبدو ضروريا استعادة تجربة المرحوم حامد القروي في مجالاتها المتعدّدة حتى تكون متداولة بين الأجيال حيث تاريخها يعود إلى زمن النضال من أجل الإستقلال. ومن هنا تنطلق وتستمر مترابطة غير منفصلة بحيث لا يمكن اختصارها في زمن دون غيرها حتى تكون زاوية النظر مفتوحة على التجربة بالكامل غير مجزّأة. مناضل وسياسي...من الكشافة إلى الحكومة وكان المرحوم وطنيا خالصا و انخرط منذ بواكير شبابه في النضال من أجل القضاء على المستعمر في مواقع عديدة ،كان منطلقها الكشافة التونسية التي ساهمت بحزم ونجاعة في معركة التحرير الوطني حيث كان الفقيد قائد الكشافة في منطقة الوسط وتم تكليفه في منتصف الأربعينات بنشر صحيفة الكفاح التي كانت تعمل في السرية وتشحذ الهمم للكفاح من أجل الإستقلال والسيادة . واستمر نضاله في مستويات أخرى حيث وبعد حصوله على الباكالوريا غادر الى فرنسا لدراسة الطب ونشط في صفوف الحزب الدستوري الجديد والاتحاد العام لطلبة تونس وكان همهما الوحيد الدفاع عن القضية التونسية في عقر دار المستعمر . ولما تخرج طبيبا متخصصا في الأمراض الصدرية عمل في القطاع العمومي بمستشفى فرحات حشاد وكان رئيسا لقسم الأمرا ض الصدرية وساهم في القضاء على مرض السل الذي كان منتشرا في البلاد وتعلم على يديه عديد الاطباء. المرحوم حامد القروي على يسار الزعيم بورقيبة في منفاه بجزيرة لاقروا الفرنسية 1954 ودخل المرحوم حامد القروي العمل السياسي واستمر في صلب الحزب الدستوري الجديد الذي تحول فيما بعد الى الحزب الاشتراكي الدستوري في عهد بورقيبة فالتجمع الدستوري الديمقراطي في عهد بن علي وكان مديرا للحزب تحت تسميته القديمة. وانتخب لولايات متتالية نائبا في مجلسي الأمة في عهد بورقيبة والنواب في عهد بن علي وشغل منصب وزير الشباب والرياضة ثم وزير العدل وانتهى الى منصب وزير أول من 27 سبتمبر 1989 خلفا للمرحوم الهادي البكوش حتى 17 نوفمبر 1999 وقد خلفه محمد الغنوشي أطال الله في عمره. يسلّم مشعل الحزب الدستوري إلى عبير موسي ورأس المرحوم حامد القروي لسنوات بلدية سوسة في الثمانينات. وبعد الثورة سعى الى استعادة دور الدساترة لكن الحزب الذي كونه فشل في انتخابات التشريعية لسنة2014 وانسحب نتيجة ذلك مرشحه للرئاسة عبد الرحيم الزواري من السباق حيث أصبح موثوقا به أن الناخبين يريدون القطع مع الماضي ولكن كان ثابتا أن تشتت الدساترة هو الذي أدى الى تلك الهزيمة المدوية. فسلم المرحوم حامد القوروي المشعل إلى أشخاص آخرين حتى يلعبوا دورهم في تطوير الحزب وضمان تموقعه في المشهد السياسي بعد الثورة وهو ما سيتحقق في انتخابات 2019 مع عبير موسي. وتعد التجربة السياسية للمرحوم حامد القروي متنوعة وثرية وسيجد المؤرخون متسعا من الوقت لدراستها من جميع الجوانب خاصة وأن المرحوم قد تكلم كثيرا بعد الثورة عن هذه التجربة وخفاياها وخاصة علاقته مع الرئيس بن علي وخلافه معه في خصوص الإعتراف بحركة النهضة من عدمه. والعلم عندي أن المرحوم قد خطّذكرياته دون طباعتها وربما ستتكفل عائلته بجمعها ونشرها حتى تكون من الشواهد المهمة على تاريخ تونس الحديث وخاصة في جانبه السياسي. حامد القروي الرياضي ...من لاعب إلى رئيس للنجم الساحلي تولى الفقيد حامد القروي رئاسة جمعية النجم الرياضي الساحلي طيلة عشرين عاما من 1961 الى 1981 . وقبل ذلك لعب المرحوم في موسم 1945-1946 في صفوف أواسط فريق كرة القدم قبل أن يتحول إلى فرنسا لدراسة الطب. وكانت كرة القدم الاختصاص الوحيد للجمعية قبل الاستقلال وفي السنوات الأولى التي تلته. إجازة المرحوم حامد القروي في صفوف أواسط النجم الساحلي لكرة القدم ورأس المرحوم الجمعية بعد عودة فريق كرة القدم إلى النشاط إثر شطبه بقرار من الرئيس الحبيب بورقيبة نتيجة الأحداث التي شهدتها مباراة ربع النهائي للكأس بين النجم والترجي في ملعب محمد معروف بسوسة في 5 مارس 1961. ورغم قرار إدارة الشباب و الرياضة في تونس حينها باقتصار العقوبة على منع إجراء مباريات النجم في سوسة فإن الرئيس بورقيبة تمسك بالشطب مرتكزا على رشق حافلة سياح بالحجارة إثر المباراة ،في زمن كانت فيه السياحة في البلاد تخطو خطواتها الأولى ولا تحتمل أي اضطراب، باعتبار وأن اقتصاد البلاد كان يعوّل على تطوّر القطاع لتحقيق نسب أرفع من النمو ودعم مدّخرات البلاد من العملة الصعبة. وانضم لاعبو النجم وفي مقدمتهم عبد المجيد الشتالي إلى جمعية الملعب السوسي والتي ترأّسها الدكتور حامد القروي قبل أن يستعيد فريق النجم نشاطه فأصبح رئيسا للنجم وواصل بالتوازي مع ذلك لفترة سنة رئاسة الملعب السوسي حتى يستمر الفريق قويا بعد عودة لاعبي النجم إلى جمعيتهم. تربية الناشئة على أخلاقيات الرياضة وكسب العلم. وعمل المرحوم حامد القروي طيلة العشرين عاما من رئاسة النجم الرياضي الساحلي على تربية الناشئة وتكوين الأجيال على أسس متينة بما يمكنها من المساهمة في بناء الدولة وتطوير البلاد وتنمية الرياضة. وتحمل الفقيد رئاسة الجمعية ولم تمض سنوات خمس على الإستقلال وكان الزعيم بورقيبة ينشر في البلاد الصحة والتعليم معوّلا على رجال ساهموا في حركة التحرير الوطني واستمروا بنفس الحماس في بناء دولة الإستقلال وخاصة النخبة المتعلمة التي عادت من فرنسا بشهادات جامعية ،وكان من بينها الدكتور حامد القروي ،الذي حرص على جمع أطفال سوسة وشبابها صلب جمعية النجم حتى يتربوا فيها على قيم البذل والعطاء والأخلاق الرياضية ويكتسبوا فيها مبادىء الوطنية التي تعلمهم حب الوطن والذود عنه والعمل على إشعاعه في المحافل الدولية في شتى المحالات ومنها الرياضة. وكان أبناء سوسة وجهة الساحل عموما كما أبناء تونس كلها يتوقون إلى العلم الذي كان يدعو اليه الزعيم بورقيبة ولكن لم تكن ظروف البلاد تتيح في ذلك الوقت التعلم للجميع رغم إجباريته .فلم يكن هناك في بداية الإستقلال ما يكفي من مدارس وإطار تدريس حتى يكون جميع الأطفال البالغين سن السادسة في المؤسسات التربوية، وكثير منهم يغادرها بعد سنوات قليلة من الدراسة لأسباب مختلفة ،مادية بالخصوص. تعدّد التخصصات الرياضية في الجمعية وتطور عدد المجازين. وكانت جمعية النجم الرياضي الساحلي تحت قيادة الدكتور حامد القروي كما الجمعيات الرياضية الأخرى في البلاد تحث الناشئة على التعلّم والدراسة ، فالرياضة لا تنمو بالجهل والأمية . وساهمت جمعية النجم في دفع الناشئة نحو المدارس واحتضنتهم في ملعب لمين الذي كانت تتدرب فيه جميع اصناف فرع كرة القدم من المدارس حتى الأكابر كما في مقر الجمعية قبالة شاطئ بوجعفر وسط المدينة حيث كانت تتدرب جميع الأصناف في كرة اليد والسلة والطائرة في الهواء الطلق وعلى أرضية صلبة وكانت هذه الرياضات الجماعية وأخرى فردية نشأت في الجمعية في فترة الدكتور حامد القروي فتكثفت أعداد المجازين في مختلف الرياضات وانطلقت الجمعية نحو أفق جديدة. المرحوم حامد القروي وسط عدد من لاعبي النجم الشبان واستطاعت جمعية النجم الرياضي الساحلي طيلة رئاسة المرحوم أن تكوّن وتربي أجيالا متلاحقة من لاعبين كان لهم شأن على الصعيد الوطني في الرياضة باختصاصاتها المختلفة وفي قطاعات أخرى .وحققت الجمعية في عهد الدكتور حامد القروي رغم نقص التجهيزات تتويجات في عدة رياضات، منها ثلاث بطولات وأربع كؤوس في كرة القدم صنف الأكابر، وتتويجات أخرى في الرياضات الجماعية والفردية . وأنجز النجم في بداية رئاسة الدكتور حامد القروي سابقة في كرة القدم التونسية حيث فاز ببطولة تونس لكرة القدم دون هزيمة وأضاف إليها الكأس. غادر الدكتور حامد القروي رئاسة النجم سنة 1981 لإيمانه بضرورة التداول والتجديد ولأن مشاغله السياسية والحكومية أصبحت تمنعه من التولي الكامل لشؤون الرئاسة فسلّم المشعل وظل إلى آخر حياته متابعا للفريق ومساندا وداعما له. وكان يتدخل بالحكمة والرأي في الظروف التي كانت فيها الجمعية وخاصة فرع كرة القدم في وضعيات حرجة. عسى أن يكون عرض التجربة النضالية والسياسية والرياضية للمرحوم حامد القروي طريقا إلى معرفة هذا الرجل خصوصا وأن الإعلام لم يوفه حقّه من الحديث يوم وفاته وأرى أن ذلك كان غير مدروس بالمرة ولا يمكن لأي كان تحت أي مبرّر أن يقطع حبل التاريخ. سيظل الدكتور حامد القروي رمزا من رموز النجم الرياضي الساحلي والرياضة التونسية وتونس عموما رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الجنة.