تلقت "الصباح نيوز" رأي من الدكتور الأردني المهدي عيد الرواضية حول كفاءة علمية تونسية أسندت لها مهمة الرئاسة العليا للمجمع الملكي الاردني لبحوث الحضارة الاسلامية وهو الدكتور إبراهيم شبوح الذي سطع وتبوا مكانة هامة في الأردن بفضل درايته وسعة معارفه ومستواه المتميز. وفي ما يلي نص المقال: لم أكن حتى سن الثالثة من عُمري أعرف شيئاً عن تونس سوى الإشارات العابرة التي تضمنها الكتاب المدرسي في حقل الجغرافية، وأنها قطر عربي في شمال إفريقيا مندرج في جملة قول البارودي: "بلاد العُربِ أوطاني"، وأنها تُعرف بتونس الخضراء، مثلما أن هنالك بلد اسمه اليمن السعيد، يعضد هذه المعرفة اقتناء أهل قريتي لزيتها الجيد "زيت قرطاج"، مما كانت تغالي في اقتنائه الأسر البسيطة، يصلهم في علب حديدية ذات لون أخضر، وتبقى الاستفادة من "السَّطْل" في حاجيات المنزل لسنوات طويلة بعد استهلاك محتواه. وساقتني الأقدارُ للعمل في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (الأردن)، وهي مؤسسة علمية وازنة تنهض بمشاريع علمية كبرى، وتحظى برعاية ملكية واعتبار عال، وتحت النظر المباشر للأمير الحسن بن طلال، ورئاسة العلامة ناصر الدين الأسد يرحمه الله، وتحتضن عدداً كبيراً من مفكري وعلماء الأمة الإسلامية من مختلف المشارب والأقطار. وكان عملي، أول الأمر، في قسم الفهرس الشامل للتراث الإسلامي المخطوط، وأُخبرت أن المشرف الأعلى المباشر على هذا المشروع هو عالم تونسي، يحذره الزملاء ممن سبقوني في العمل ويقع بينهم الارتباك وقت زيارته لهم، كان قد تولى في العام 1994م منصب الأمين العام للمجمع، في خطةٍ استُحدثت له خصيصاً، ولم تكن لأحدٍ قبله ولا بعده، وأدركت عندما عرفته وجه الخشية والرهبة التي كان يُبديها زملائي؛ فقد واضب على تفقُّد سير المشروع في أوقات غير منتظمة، يأتي بغتة على نحو مفاجئ، وينظر بشكل عشوائي في البطائق المنجزة، والمشتملة على عناوين المخطوطات وأسماء مؤلفيها وبيانات حفظها، يُقلّبها بين يديه سريعاً فلا تقع عينه إلا على الأخطاء! فيتولى التوجيه الصارم بانفعال شديدٍ؛ غايته سلامة العمل والحث على بذل المزيد من التثبت والحرص. ثم انتقلت في عام 1996م إلى مكتبة المجمع، وأصبحت تحت النظر المباشر للأستاذ شبوح، المتابع بحرص شديد لأحوال المكتبة، والمراقب لانضباطها، ووسائل الحفظ فيها، وإدامة تزويدها بكل ما يستجد من إصدارات ومنشورات. ولم يلبث قليلاً حتى أسندت له خطة الرئاسة العليا للمجمع، في العام 1999م، حاملاً بعزم وعزيمة حملاً ثقيلاً، تحدوه رغبة واندفاع في مسيرة التطوير والتحديث، فأنجز لأول توليه المبنى المستقل للمجمع بعد نحو عشرين عاماً من محاولات إيجاد مبنى يليق بهذه المؤسسة. وبسبب دواعي العمل ومتابعته الدائمة وحرصه الشديد على ملاحقة أدق التفاصيل مع أصغر المراتب الوظيفية، وأنا أحدهم، فقد توثّقت صلتي بالرجل كثيراً، وازداد إعجابي به مع توالي الأيام، وتعلّمت عليه أشياءً كثيرة ما كان لي إدراكها في مكان آخر، وقربني من التراث العربي والإسلامي، وشجعني على الولوج إلى بعض المعارف التي كانت بالنسبة لي مستغلقة الفهم عَسِرَة التناول، وطوّف بي في مجالات العلوم على اختلافها، وتقيّلت طريقته ومنهجه حتى أن خطي صار مُشابه لخطه الجميل ويصعب التفريق بينهما، وما زال يتعهدني بالنصح والتوجيه ويوليني من بره وأفضاله ما الله عالم بمقداره. وكنت أتعجَّب من سعة حافظته، واستحضاره للتراث في كل مسألة؛ كنتُ مرة في مجلسه وعنده المرحوم الحبيب اللّمسي والعلامة العراقي بشار عواد معروف، ودار نقاش حول لغة أهل البادية وموافقتها لأقيسة الفصيح، فجال وصال في شواهده، وطوّف بنا شرقاً وغرباً، وكان مما استشهد به كلام للرحالة العبدري أثناء مروره بمجالات العرب في صحراء برقة، وتعرضه للغاتهم، فساق الأستاذ شبوح كلامه؛ ولما انقضى المجلس، ذهبت إلى مكتبة المؤسسة واستخرجت كتاب الرحلة وعاينت موضع اقتباسه، فجاءت متطابقة كأنما كان يقرأ من الكتاب!. وصفاته الحميدة تضيق عن الحصر في هذا الحيز، ففيه كرم نفس، وإيثار، وتواضع جمّ، وأعجبُ من رجل عاش في عصر الباشوية بالقاهرة مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، واختلط برجال هذه الطبقة وتقاليدهم الرفيعة، وعايش أعيان الشام والعراق، واتّصل بطبقة الاستشراق في أوروبا، ومع ذلك بقي على تُونسيته الأصيلة، ولم يتخلَ عن التقاليد التي ربي عليها في تفكيره وبساطته ومنطوقه ولهجته!. وبهذا القُرب، تعرَّفتُ على تونس؛ العاصمة والبلاد، وقدَّرتُ عِظَم هذه الأرض التي أنجبت الأستاذ شبوح وأقرانه، وأدركت مكانتها وجامعها الأعظم "الزيتونة"، حتى أسبغَت اسمها القديم "إفريقية" على عموم القارة، وسلّمتُ بقول الشريف الإدريسي (نُزهة المشتاق 1: 284) في وصفه القَيروان، المدينة التي أنْجَبَته، وأنها: "أمّ أمْصار، وعاصمة أقطار، وكانت أعظم مدن الغرب قُطراً، وأكثرها بَشَراً، وأيسرها أموالاً، وأوسعها أحوالاً، وأتقنها بناءً...". ومن لسان شبوح تعرَّفت على أعلامها الكبار، من شيوخه أو أقرانه ومعاصريه: الشَّيخ الإمام محمد الطّاهر ابن عاشور، وابنه العلامة محمد الفاضل، والباشا حسن حسني عبد الوهاب، والمؤرخ عثمان الكعاك، ورموز حركة التحرر والاستقلال الناشطة، ثم مَن أقام بتونس من أعلام المستشرقين: ليفي بروفنسال Lévi-Provençal، وليون برشيه Leon Bercher، روبير برنشفيك Robert Brunschvig، إلى غير ذلك من الأسماء الكبيرة التي تفوق الألقاب. وامتدّت الصلة بأن خلطني بصاحبه وبلَديهِ ولي الدين ابن خلدون، وبمفتي القيروان الشيخ محمد الجودي الذي أخرجت له كتاب رحلته الحجازية (مؤسسة الفرقان، 2020م)، وكنت شاهداً على مرحلة الكفاح والعمل لإخراج تاريخ ابن خلدون "كتاب العبر"، وأعرفُ كثيراً من سيرته في خدمة الكتاب ومعاناته والأموال الكثيرة التي أنفقها لتحصيل بعض النسخ من تركيا وبلدان أوروبا، وكنت أتردّد إلى منزله الواقع في حي الرابية؛ أحد أحياء عمان الرائقة، صحبة زميلي الدكتور إحسان ذنون، وكنا نشفق عليه من تراكم أكداس النسخ المصورة من مخطوطات الكتاب، التي والى النظر فيها لتمييز أوثق النسخ المعتمدة للتحقيق. وقد زرته ذات يوم، من أيام الجمع في عام 2006م، وكان في غاية الضيق والانزعاج، يكاد يتميز ألماً وحرقة حتى خشيت عليه؛ كان في الليلة السابقة قد أتم تهيئة الجزء الثاني من مقدمة ابن خلدون لدفعه للطباعة والتنضيد، وحشَّاه بالتعليقات وفروق النسخ، باللونين الأحمر والأخضر، وأجرى ضبط النسخة بقلم الحبر السائل، في حصيلة ليال طويلة من العمل والسهر والملاحقة، وهو الجزء الضام لأصعب محتويات المقدمة: أسرار الحروف وتفسير الزايرجة وفي آخره الموشحات والأزجال وأشعار العرب غير المعربة القريبة من ألفاظ العوام، بذل فيها غاية جهده في ضبطها مبنى ومعنى، وعندما خلد إلى النوم انسكب كأس الماء على المسودة فتشرَّبته، وفشا حبرها، وذهبت تعليقاته وفسدَت، وما كان منه إلا معاودة العمل بالصبر والتسليم!. وحاصله، فإذا كانت البلاد لا تُعرف إلا برجالها؛ فإن تونس لم تعد في نظري بلد الزيتون الجيد فقط، بل صارت قبلة علمية وحاضرة ثقافية انجذبُ لكل ما يتصل بها باهتمام بالغ، وأتابع أحوالها وأخبارها ومنجزات علمائها، مصحوباً بعلاقة البنوة والقربى التي غَذاها شبوح ونماها. حفظ الله تونس وشعبها، وأمدّ في عمر العلّامة شبوح، ممتعاً بالصحة والعافية.