عاش لبنان خلال الساعات القليلة الماضية على وقع موجة جديدة من الاشتباكات المسلحة الخطيرة كان مسرحها كما في المرات السابقة منطقتي باب التبانة ذات الاغلبية السنية وجبل محسن ذات الغالبية العلوية في مدينة طرابلس شمال لبنان.. او هكذا على الاقل ما حاولت وتحاول الاطراف المستفيدة من استمرار الصراع الترويج له على انه يأتي في اطار التطاحن الطائفي المستمر في لبنان بما يوحي بان نهاية الازمة السياسية في لبنان وتشكيل حكومة وحدة وطنية ليس سوى بداية الطريق الصعب في اتجاه تحقيق خلاص لبنان من القيود التي طالما كبلته وجعلته اسيرا للخلافات والصراعات الطائفية فيه.. ولا شك ان في تلك الحصيلة الدموية من الضحايا وعودة الموت المجاني الى احدى افقر المناطق اللبنانية واكثرها معاناة من انتشار البطالة والامية والافتقار للبنى التحتية، ما يؤكد مجددا تأجيل موعد الانفراج على الساحة اللبنانية وهشاشة الهدنة المعلنة بين الاطراف المعنية لوقف اطلاق النار الذي يعود في كل مرة باكثر عشوائية ليتسبب في اكبر ظاهرة نزوح يعيشها لبنان منذ السبعينات هربا من صوت الرصاص والصواريخ التي تهدد امن الاهالي وسلامتهم. قبل ايام وعندما تجمع اللبنانيون بكل انتماءاتهم السياسية والدينية مسلمين دروز وسُنّة وشيعة ومسيحيين لاستقبال الاسرى العائدين من السجون والمعتقلات الاسرائيلية وفي مقدمتهم عميد الاسرى سمير القنطار، غابت كل انواع الانقسامات والاختلافات واختفى ما يسمى بالمعارضة والموالاة ليبقى علم لبنان وحده مرفرفا فوق الجميع.. الا ان المؤسف ان تلك الاحتفالات التي دفعت كل اللبنانيين الى الاجماع حول اهداف المقاومة اللبنانية وانجازاتها سرعان ما اختفت لتفسح المجال للحسابات الضيقة ولغة البارود... والحقيقة ان الاحداث الدموية التي لا تكاد تختفي الا لتعود في لبنان تبقى اختبارا للجيش اللبناني اولا وللحكومة اللبنانية ثانيا وهي المدعوة اكثر من اي وقت مضى للحفاظ على ما تم تحقيقة من انفراج سياسي بعد طول اختلاف كلف اللبنانيين الكثير سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا في بلد كان ينعت بهونغ كونغ الشرق الاوسط... والامر طبعا لا يتعلق فقط بتجارة السلاح غير المشروعة والمستشرية في لبنان، والعصابات التي تستثمر ذلك على حساب دماء وارواح وامن واستقرار اللبنانيين الى درجة انه لم يعد بيت من البيوت يخلو من السلاح ولكن ايضا الامر يتعلق بما يمكن ان تعكسه تلك الظاهرة من انعدام الشعور بالامن بين اللبنانيين بما يدفعهم الى اللهث وراء الحصول على السلاح بكل الطرق الممكنة وحالة التأهب المستمر لمواجهة المجهول الذي يتهددهم في كل حين... ولاشك انه عندما يتحرر اللبنانيون من عقدة الخوف التي ترافقهم ومن الاسباب الكامنة وراء ذلك يمكن للبنان ان يتحرر من اسر وقيود الصراعات الطائفية والانتماءات السياسية... إن المتأمل في المشهد اللبناني من شانه ان يدرك بعض الحقائق التي لم تعد خفية على ملاحظ وهي حقائق لا يمكن للبنانيين الا ان يتعايشوا بها ومعها لان فيها قوة لبنان وحصانته سواء امام التحديات الداخلية او الخارجية بحكم موقعه الجيوستراتيجي وحدوده مع اسرائيل وهو ما يجعله على فوهة بركان قابل للانفجار في كل حين، خاصة انه يظل عرضة للمزايدات والاغراءات حينا وللتهديدات والمساومات حينا آخر من جانب اطراف كبرى يسعى كل واحد منها لفرض سيطرته على المنطقة بطريقته الخاصة عبر البوابة اللبنانية. ولهذه الاسباب وغيرها فان تعدد الاطياف السياسية والانتماءات الدينية في لبنان إذا ما اقترن بوحدة الصف وتغليب المصلحة العليا للوطن على المصالح الذاتية، فإنه يشكل عنصر قوة وتعزيزا للتعددية والديموقراطية في هذا البلد ووقاية له من سيطرة او تفرد فئة أو طائفة على اخرى.. ومن هذا المنطلق فان التوافق والحوار يبقيان اساس التعايش والتطور في هذا البلد الصغير جغرافيا، الكبير تاريخيا والذي طالما قدم للعالم دروسا في النضال والمقاومة ورفض التبعية ايا كان مصدرها..