كسب معركة الأمن الغذائي اختار التجمع الدستوري الديمقراطي شعار مؤتمره الخامس مؤتمر «التحدي» بعد أيام قليلة سيتوافد نواب المؤتمر من كامل جهات الجمهورية لانجاز مؤتمرهم في أجواء مفعمة بمشاعر الاعتزاز بمكاسب التغيير. وكل المراقبين للشأن الوطني كانوا تقريبا ينتظرون شعارا اشكاليا من هذا النوع في هذا الحيز الزمني بالذات، شعارا يترجم عن مدى ملامسة أكبر حزب في البلاد تاريخا ونضالا وتموقعا لقضايا الحاضر ومستحقات المستقبل بعين بصيرة وروح ناقدة ومتحفزة لما تفرضه هذه المرحلة من تحديات ورهانات تستوجب من الجميع مزيد رص الصفوف لرفعها تأمينا لمستقبل آمن لهذا البلد الصاعد. وحسنا فعل التجمع الدستوري الديمقراطي باختياره المدروس لهذا الشعار لأنه بذلك يثبت مدى التصاقه بمشاغل الوطن والمواطن. كما يكرس هذا الاختيار جدارته بأن يكون حزب الأغلبية أي الحزب الوطني الذي يحمل بين جنباته وأضلعه القضايا الوطنية الكبرى ويلتزم بمعالجتها ضمن ما يرسمه من استراتيجيات وبرامج ومخططات بوعي ومسؤولية ومصداقية كاملة. وهي لعمري من سمات الاحزاب القوية المتجذرة في النضال والقادرة على أن تتجدد بتجديد خطابها السياسي وأساليب عملها، وان تنقد ذاتها وتطور مرجعياتها الفكرية، وأن تكون قدوة ومرجعا للأحزاب الاخرى وقاطرة نحو الأرقى دائما. ولذلك فإننا لا نستغرب من الحرص الذي ما انفك يبديه رئيس الدولة في الآونة الاخيرة على التعاطي مع المسألة الاقتصادية بأكثر التزام وصراحة ومصارحة، في ظل ما يشهده العالم اليوم من تقلبات وأزمات ومنعطفات بفعل تصاعد أسعار المحروقات والارتفاع المشط لأسعار الحبوب والمواد الاساسية ومدخلات الانتاج الفلاحي وتحذير سيادته في اكثر من مناسبة من تبعات ونتائج هذه التقلبات المتسارعة وغير المسبوقة. ويشكل القطاع الفلاحي في هذه الظرفية الاقتصادية الشائكة قطب الرحى ضمن المعادلة التنموية في الفضاء المعولم حيث بدأنا نلحظ بدهشة متناهية من خلال وسائل الاعلام حديثا جديا عن أزمة غذاء وشيكة وعن شبح الفقر العائد بقوة في أصقاع عدة من العالم. وحول هذا الموضوع تحديدا أردت بدءا أن اشيد بما تحقق في العشريتين الماضيتين من مكاسب وانجازات واصلاحات عميقة شملت فلاحتنا وجعلت منها قطاعا محوريا في العملية التنموية، بل وتلعب دورا مركزيا متناميا على مستوى النتائج الجملية للاقتصاد التونسي. وقد مكن هذا الجهد التنموي والحق يقال من تطوير معدلات الانتاج وسد الحاجيات الاستهلاكية للمواطن وتنويع سلته الغذائية وتوفير فائض تصديري ساهم بصفة تكاد تكون منتظمة في توازن الميزان التجاري الغذائي على مر السنين الفارطة، بل واكتسب القطاع الفلاحي من عناصر القوة والفاعلية والجذب بفعل انتظام زخم المبادرات والاجراءات الرئاسية ما ساعد الفلاحين على تطوير مردودية مستغلاتهم وترقية أنشطتهم. ويمكن القول اجمالا أن الدولة قد قامت في ظل قيادتها الحكيمة بما هو موكل اليها من أدوار للأخذ بأيدي المنتجين ودعم البنية التحتية والمرافق الأساسية وتعبئة الموارد المائية ومقاومة الانجراف والتصحر والعناية بعنصر البيئة البالغ الأهمية في مجالات محددة كالقطاعات الواعدة والبيولوجية وتهيئة المسالك الفلاحية وغيرها من المشاريع الكبرى التي أعطت لفلاحتنا وجها جديدا أغرى عددا لايستهان به من المستثمرين وتيسير المناخ العام لتعاطي فلاحة عصرية وحديثة ومستجيبة قدر المستطاع لشروط المنافسة وهو عمل جليل يتكامل مع ما أنجزته دولة الاستقلال. ويخطئ من يعتقد أن القطاع الفلاحي قد استكمل بعد شروط تعاطيه على قاعدة صلبة وفي اطار تنافسي compétitif منفتح على العولمة الاقتصادية وعلى ضوابطها المقننة دوليا نتيجة هذه السياسة الارادية بل أن العوائق والمكبلات والنقائص لازالت عديدة ودون حصر وينوء بحملها القطاع ومن أهمها احتواء الادارة للنشاط الفلاحي بالكامل وسيطرتها على كافة مكوناته وهو ما افرز لدى المنتجين على مر السنين حالة من التواكل وضعف الاعتماد على الذات ونقص المبادرة الخلاقة الى جانب تفاقهم ظاهرة تشتت الأراضي الفلاحية والتجزئة والاهمال وتقدم معدل سن الفلاحي (43% من المستغلين الفلاحيين الناشطين اعمارهم تفوق 60 سنة خلال استقصاء 2005) وضبابية تحديد مهنة الفلاح وشروط تعاطيها وطغيان ما يعرف بالفلاحة الصغرى على حساب الفلاحة الكبرى (75% من المستغلين الفلاحيين يستغلون أراضي لا تتجاوز مساحتها 10هك) وهو ما شكل عائقا كبيرا لمنظومة الانتاج الفلاحي اعتبارا لوزن صغار الفلاحين وحجمهم ضمن التركيبة الفلاحية لبلادنا. كما لايزال مفهوم القرض الفلاحي يشكل حالة اخرى من عدم الفهم واللبس لدى العديد من النشطاء في الحقل الفلاحي فهم يعتبرونه غاية في حد ذاتها وهو تصور خاطئ بلا شك وأدى الى تفقير الكثير منهم وناجم عن التسهيلات التي ترافق عادة العملية التمويلية من منح وحوافز وجدولة وامهال وتسوية وغيرها من التسهيلات وهو ما حدا ببعض الخبراء الاقتصاديين الى اعتبار عنصر القرض سلاح ذو حدين، فهو عامل ازدهار وتنمية حقيقية اذا ما استعمل لتمويل مشروع ذي جدوى اقتصادية مؤكدة وعامل افلاس اذا ما استعمل في انشطة عديمة الجدوى كما هو حال قطاع عريض من المنتجين. وتعتبر السيطرة الضعيفة على ظاهرة استنزاف الموارد الطبيعية وعدم التحكم في رصيدنا الوراثي النباتي والحيواني من النقاط الهامة التي تستدعي بحثا ودراسة وتعمقا برؤية استشرافية ثاقبة من قبل نواب المؤتمر الى جانب محاور اخرى لا تقل أهمية مثل محدودية توظيف نتائج البحث العلمي الفلاحي وعدم وجود قنوات تنسيق وربط بين البحث وأهل المهنة خاصة وقد تأكدت اليوم في ظل ارتفاع أسعار الحبوب في الاسواق العالمية ضرورة إيلاء عناية فائقة لموضوع البذور المحلية بما يكفل تحسين مردودية قطاع الحبوب وتحسين قدرات الفلاح على التحكم في الحزمة الفنية وفي تقنيات الانتاج. اما بخصوص قطاع الصيد البحري الذي أنفقت عليه دولة التغيير الأموال الطائلة لتأهيله وتطويره وتجويد بنيته التحتية وتشجيع العاملين فيه فهو يحتاج الى عناية خاصة ليكون بحق قطاعا تصديريا بلا منازع ولن يتسنى ذلك إلا بمعالجة جدية وجريئة لظواهر استنزاف خيرات البحر ومقاومة الاستغلال الجائر والمفرط الذي تسبب فيه الكثير من الغرباء عن القطاع ومعالجة ظاهرة ثقل مديونيته التي باتت تشكل عامل تهرئة متواصلة للعاملين فيه. غير أن أهم نقيصة يشكوها القطاع الفلاحي في نظري وأنا الذي عايشت العمل المنظماتي لأكثر من ربع قرن هي ضعف هياكل التأطير والإحاطة بالفلاحين عموما في بلادنا نتيجة غياب ارادة حقيقية للتنظم لدى مختلف الاطراف المتداخلة في القطاع، وهو ما أفرز ما نشهده حاليا من ظواهر الانحلال والتسيب في صلب معظم الهياكل المهنية كالتعاضديات المركزية التي يشكو بعضها عجزا ماليا مستداما الى جانب ضعف أداء منظمة الاتحاد التونسية للفلاحة والصيد البحري وأرجو هنا أن يتقبل مني القائمون على هذه المنظمة العزيزة على هذا التشخيص بلا خلفيات ولا عقد ولا حسابات ضيقة وإلا فإنني سأكون مضطرا لارفاق هذا النقد بالتحليل المفصل والدقيق والمشفوع بالأرقام والأسانيد التي لا تقبل التشكيك أو التنصل من المسؤولية. ولنتذكر في البداية الهدف الطموح الذي وضعه سيادة الرئيس زين العابدين بن علي والمتمثل في بلوغ نسبة تأطير القطاع الفلاحي في حدود 50% في أفق سنة 2009 وهو هدف سهل البلوغ ولا شك لو تعلقت همة المشرفين على هياكل التأطير وفي مقدمتها منظمة الفلاحين فعلا وصح العزم على تحقيقه وهي الهيكل المهني الذي يجب أن يحاسب قبل غيره على تراكمات اخطاء الماضي والحاضر وعلى هشاشة الهياكل المهنية الاخرى باعتبارها مكونة بالأساس من الفلاحين. أما والحالة لم ولن تتغير في ظل هياكل تأطير موسومة بالعقم ولا تعمل في تناسق تام مع برامج الدولة بقدر ما يتخذ منها أهل الحل والعقد آليات اضافية لتحقيق الاهداف السياسوية والاستمتاع بالكراسي الهزازة حتى أضحى بعضها أشبه شيء بالجهاز السياسوي (Politisé) أو الجمعية الخيرية ولربما وكالة اسفار اكثر منه منظمة وطنية عتيدة تعاضد بالفعل قبل القول مجهودات الدولة في مجالات التأطير والتوعية والتبصير بالتوجهات الكبرى في الميدان الفلاحي وبما هو متاح ومقرر للمنتجين من حوافز وتشجيعات مختلفة. ولنصارح انفسنا واعتقادي أن الكثير من الاطارات والفلاحين يشاطرونني الرأي أن هذه المنظمة التي تعد رافدا ومكونا اساسا من مكونات المجتمع المدني الحداثي قد انكفأت على ذاتها مع الأسف في السنوات القليلة الماضية، بل وحادت عن الدور التنموي المنتظر منها اذ عوض أن تكون أداة فاعلة ومجدية للنهوض بالفلاحة والأخذ بأيدي الفلاحين بالتوازي مع دورها كمحامي الفلاحين لدى الدولة في غير الشطط وفي نطاق مراعاة المصلحة الوطنية فقد اضحت مطية ومأربا لكل من يرنو الى تحقيق المكاسب الشخصية على حساب جموع الفلاحين وتحضرني هنا عديد الشواهد عن حالة الانفصام التي تشكوها هذه هياكل هذه المنظمة بين واجب الاضطلاع بدورها في الأخذ بأدي الفلاحين وترقية مساهمتها في مساعدة الدولة على تنفيذ برامجها التنموية وتحقيق الاهداف الوطنية، فلا هي رعت وحمت منظوريها ولا هي ساعدت الدولة وآزرت جهودها وكل ما يسمع ويشاهد ويلامس يجوز فيه القول دونما حيف أو مبالغة «تسمع جعجعة ولا ترى طحينا». إن فلاحتنا التي وفر لها رئيس الدولة كل مقومات الاستدامة ستكون في المدى القريب والمتوسط في اختبار جديد لمجابهة السيل الهادر للضغوطات والمتغيرات الداخلية والخارجية التي لا ننكر أن لها وقعا مرتقبا ومباشرا على تنمية القطاع الفلاحي وعلى ديمومته ومناعته وهو ما يجعلنا نعول على نواب مؤتمر التحدي حتى يولوا هذا القطاع في نقاشاتهم ومداولاتهم حيزا مهما من الاهتمام للخروج بتصورات جديدة ومقترحات عملية وحلول جذرية حفاظا على النسيج الفلاحي الوطني واستحثاثا لنسق نموه وإكسابا لجهازنا الانتاجي المرونة اللازمة والقدرة على التأقلم مع خصوصيات المحيط الدولي خاصة أن عامل الوقت أصبح ضاغطا بعد بروز مؤشرات ونواقيس خطر تدعو فعلا الى إعادة النظر في بعض اختياراتنا الفلاحية والتحلي كما عودنا دائما رجل التغيير بالشجاعة المثلى والحكمة العميقة والروح الوطنية الخالصة لاصلاح كل مظاهر الخلل والاعوجاج وبناء فلاحة جديدة، فلاحة تضمن الانتاج الوفير والمنتظم وذي الجودة العالية خصوصا في القطاعات الاستراتيجية والتصديرية ويجد فيها الفلاح متنفسا لتحسين دخله ونحت كيانه وما ذلك بعزيز على من جعلوا من قرطاج مطمورة روما في الزمن الغابر. وهم قادرون ولا شك على تحقيق المعجزات وكسب الرهانات في زمن بن علي. أخيرا: إن التحديات الجسام لا يرفعها إلا رجال عظام.