بعين ساهرة وقلقة ترقب العواصم الاوروبية عودة الروح للجاسوسية الروسية بعد أكثر من 15 عاما على تجميد نشاط أحد أشهر أجهزة التجسس في العالم ألا وهو ال«الكا.جي.بي» هذا الجهاز الذي أقفلت أبوابه عام 1991 بعد أن تم القبض في 22 أوت من تلك السنة على رئيس الجهاز "فلاديمير كريتشكوف" بعد تورّطه في محاولة اغتيال الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف ليحل محله الجنرال "فاديم باكاتين" وهو الرجل الذي تمّ تكليفه بحل الجهاز نهائيا لتنتهي بذلك الصلاحيات الرسمية لجهاز المخابرات الروسي. وقد اعتقد وقتها العالم أن زمن العمليات القريبة من الخيال التي كان ينفذها هذا الجهاز قد ذهب بلا رجعة بيد أنه وبعد سنوات عاد شبح الجاسوسية الروسية ليخيّم من جديد على العالم وتحديدا على أوروبا. وبدأت الاصوات تتعالى في العديد من العواصم الاوروبية بوجوب درء هذا الخطر المحدق المتمثل في صحوة الجوسسة الروسية وهي صحوة أوجدتها - حسب الخبراء - مجموعة من العوامل على رأسها صعود الرئيس السابق فلاديمير بوتين (المتخرّج من هذا الجهاز) إلى سدة الحكم وكذلك إلى الانتعاش الذي يشهده الاقتصاد الروسي.. فروسيا في نظر الخبراء هي قوّة عظيمة ولديها الكثير من الذهب والموارد النفطية كما أنها - وهو الاهم - لا تعاني من المديونية ولديها ثروة وطنية عكس نظيرتها الولاياتالمتحدة وحلفائها الذين يتخبطون في المشاكل الاقتصادية التي تلقي بظلالها على الاوضاع السياسية لتلك البلدان. وحسب المراقبين فإن روسيا التي استعادت قدراتها المالية والاقتصادية باتت تولي أمر الدفاع عن مصالحها الامنية وذلك عبر إنعاش سوق العمل الاستخباراتي في الخارج خصوصا أنها تعاني من عدة مشاكل على الصعيد الامني لا سيّما مع الشيشان دون اعتبار عمليات تهريب الاموال والاسلحة عبر حدودها. تاريخ حافل بالعمليات منذ إنشاء جهاز الاستخبارات الروسي في 20 ديسمبر من سنة 1917 والعالم ينظر إليه على أنه "سيف ودرع" للثورة البلشفية والحزب الشيوعي وقد أمكن لهذا الجهاز في مراحله الاولى تحقيق نجاحات عدة مازال العالم ينظر إليها على أنها إنجازات خارقة من ذلك أنه احكم استغلال حالة السلام والطمأنينة التي كانت تعيشها الدول الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة وأحكم زرع عملائه داخل أجهزتها الحكومية بل داخل أجهزتها الامنية أيضا والتاريخ يشهد أن أعظم إنجاز حققه ال"كا.جي.بي" هو حصوله على سر القنبلة الذرية من قلب مشروع مانهاتن بفضل عملائه المزروعين جيدا هناك كما يشهد التاريخ أنه - خلال الحرب الباردة - لعب الجهاز المذكور دورا رياديا في المحافظة على الاتحاد السوفياتي كدولة الحزب الواحد وذلك عبر وأد الافكار السياسية المعارضة لفكر الحزب الشيوعي. ومن النجاحات التي تحسب للجهاز الاستخباراتي الروسي هو قدرته على غرس عملاء له داخل جهاز الاستخبارات البريطاني نفسه حتى أن رئيس قسم الاستخبارات المضادة للسوفيات داخل الجهاز البريطاني كان عميلا لل"كا.جي.بي". ولم يكن نشاط الجهاز يقتصر على تنفيذ العمليات خارج الحدود بل كان بالتوازي مع ذلك يراقب - وبدقة متناهية- الحياة العامة في الاتحاد السوفياتي ويقمع المعارضين ويخمد الثورات المناهضة للنظام قلق ألماني أول المناهضين لعودة نشاط الجوسسة الروسية داخل أوروبا كان ألمانيا حيث اتهمت هذه الاخيرة موسكو بتصعيد نشاطها على شركاتها وعلى الاتحاد الاوروبي ومختبرات الاسلحة. وفي تقرير لدائرة مكافحة التجسس الالمانية وجهت أصابع الاتهام لروسيا بالسعي لاستخدام نفوذها الاقتصادي المزدهر في العالم لتحقيق أغراض سياسية مركزا - أي التقرير - على عملية تعيين رئيس الوزراء السابق ميخائيل فرادكوف رئيسا لدائرة التجسس الخارجي بما يعطي انطباعا أن موسكو تعتزم عبر هذا التعيين توسيع نطاق نشاطها التجسسي ليصبح اقتصاديا وسياسيا وهذه السطور الواردة في التقرير تدعم الفكرة السالفة: "إن دائرة التجسس الخارجي الروسية وسعت من نشاط التجسس الاقتصادي بعد أن ترأسها ميخائيل فرادكواف الذي شغل في السابق موقعا نافذا في سلّم السلطة العليا الروسية مما يعني أن الكرملين وضع أمام دائرة التجسس الخارجي مهمة العمل بنشاط لحماية المصالح الاقتصادية والسياسية الروسية في الخارج". تركيز خاص على الاتحاد الاوروبي أشار التقرير الذي أعدته دائرة مكافحة التجسس الالمانية أن جهاز الاستخبارات الروسي صب اهتماما كبيرا في عام 2007 على سياسة الاتحاد الاوروبي على اعتبار أن ألمانيا ترأست حين ذاك ولمدة نصف عام هذا الاتحاد وأمكنه - أي الجهاز- الحصول على معلومات عبر عملائه في برلين عن العمليات السياسية الجارية داخل الاتحاد ولا سيما المتعلقة باتفاقية لشبونة التي من المقرر أن ينطلق العمل بها في 2009 إذا ما تمت الموافقة عليها بالاجماع من قبل الدول الاعضاء في الاتحاد. واستند واضعو التقرير إلى معلومات تؤكد أن الجواسيس الروس أولوا أهمية خاصة لتقديرات البلدان لسياسة موسكو حيال بلدان رابطة الدول المستقلة وبدرجة أخص أوكرانيا وجورجيا كما اهتم الجواسيس أيضا بجمع معلومات عن خطط نشر عناصر من الدرع الصاروخي الامريكي في شرق أوروبا مع رصد مفصل لموقف زعماء الاتحاد الاوروبي من هذا المشروع الذي تعارضه موسكو حتى أن الرئيس الروسي الجديد ديمتري مدفيف أعلن مؤخرا أن الترتيبات الامنية التي تمّ إرساؤها في أوروبا في نهاية الحرب الباردة قد تنهار إذا واصلت الولاياتالمتحدة تدمير أساساتها تدريجيا لا سيما من خلال نشر أجزاء من درع صاروخية في شرق أوروبا مضيفا أنه تم تحذير الاتحاد الاوروبي من أن نشر هذه المنشآت يجعل الوضع أسوأ مهددا بأن روسيا ستكون بحاجة للرد على ذلك وبشكل ملائم.. وبينما ترى روسيا وعلى لسان كبار مسؤوليها أن هذه المنشآت هي تهديد لامنها القومي تعتبر الولاياتالمتحدة أن هذا المشروع لا يستهدف روسيا وإنما هو موجه بالاساس إلى دول تعتبرها أمريكا مارقة. وبالعودة إلى تقرير دائرة مكافحة التجسس الالمانية فقد أوضح أن موسكو اهتمت - كدأبها - بالجديد في مجال الانتاج العسكري في العديد من الدول الاوروبية مشيرا إلى العملية التي ألقي خلالها القبض في برلين على مواطن ألماني يدعى فيرتير فرانتس متهم بالتجسس لصالح المخابرات الروسية كان اعترف بأنه ينقل - منذ 2004- لعناصر استخباراتية روسية وثائق تتعلق بمشاريع تستخدم فيها التكنولوجيات الراقية للاغراض المدنية والعسكرية نظير الحصول على المال. بنفس الهمّة وبذات النشاط جاء في ذات التقرير المعد من قبل دائرة مكافحة التجسس الالمانية أن الاستخبارات الاوروبية رصدت في الفترة الاخيرة تحركات للعملاء الروس تعكس تصاعد نسق نشاط الجاسوسية الروسية معترفة بأن مستوى هذا النشاط يضاهي المستوى ذاته الذي كانت عليه في زمن الاتحاد السوفياتي السابق مشيرة إلى الحادثة التي عاشتها النمسا في الصيف الماضي والتي أثيرت على إثرها أكبر فضيحة للجاسوسية الروسية في أوروبا حيث تم خلال شهر جوان قبل الماضي (2007) القبض على فلاديمير فوغوف الذي كان اشترى تصاميم المروحية العسكرية "ينغر" وتبيّن فيما بعد أن المتهم يمت بصلة قرابة للرئيس السابق فلاديمير بوتين. موقف موسكو وفيما تتعالى أصوات التنديد بسياسة الجوسسة التي تنتهجها روسيا في أوروبا بادرت موسكو بالرد على مجمل الاتهامات الموجهة إليها بالقول أنها تتعامل بالمثل متهمة بدورها حلف الناتو بتكثيف أنشطته التجسسية على الحدود الروسية وحول هذا الاتهام يقول ألكسندر زيلين القائد العام للقوة الجوية الروسية أن طائرات الاطلسي تمارس تحليقات تجسسية على الطائرات المضادة للغواصات الجاثمة على سفن الاسطول الحربي الروسي مبينا أن طائرات سويدية من طراز "غولف ستريم" تتجسس على روسيا منذ سنوات وذلك عبر تنفيذ مهام في مضيق "غدانسك" الذي يبعد عشرات الكيلومترات عن مدن روسيا التي تطل على بحر البلطيق. وفي سياق آخر اعترف مسؤولون روس أن عودة الروح لنشاط الجاسوسية الروسية هو أمر تستوجبه حماية مصالح الشعب الروسي.