المطلوب إحداث معهد للتكوين الحضري وتخطيط المدن حتى لا ينقرض هذا الاختصاص يشهد العالم بأسره نهضة عمرانية كبرى، ونحن في تونس تشغل بالنا مسألة تخطيط المدن ومختلف الأنماط العمرانية لاسيما العربية الإسلامية منها، لذلك رأينا من المفيد أن يتمحور حديثنا حول هذا الموضوع مع الدكتور مرشد الشابّي رئيس الجمعية التونسية لمخططي المدن، ضيفنا له خبرة طويلة في إقليمتونس التابع لوزارة الداخلية، وخبرة في التدريس خارج تونس وتحديدا بجينبف وزوريخ ثمّ عاد إلى إقليمتونس، وله تجارب عديدة، يحمل ضيفنا العديد من الشهادات العلمية سواء في علم الاجتماع أو في تخطيط المدن. ينبغي لمخططي المدن أن يكونوا قادرين على تشخيص الإشكاليات والخروج بخلاصة تحليلية وتبليغ الإدارة أوالمسؤول السياسي بعض الاختيارات الأساسية النشاز في الأنماط العمرانية يعكس تعدّد الانتماءات الاجتماعية واختلافها في الرؤى بات من الضروري الاهتمام بالوصفات العمرانية والتجميلية في مختلف أنماط البناء * في البداية، حاول أن تقدّم لنا الجمعية التونسية لمخططي المدن للتّعرف إليها؟ - جمعيتنا تأسست سنة ,1981 وكانت آنذاك تضمّ 40 منخرطا، حاليا بلغ عددهم ,140 والانخراط فيها مرتبط بالاختصاص، ففي القانون الأساسي يوجد بند جاء فيه بالخصوص: يخول الانخراط في هذه الجمعية كل من يحمل شهادة في التخطيط الحضري وتخطيط المدن أو لديه شهادة في التعليم العالي ولكنه مارس لمدة ثلاث أو أربع سنوات مهنة أو تجربة في تخطيط المدن، حاليا ليس هناك فروع داخل الجمهورية ولكن لدينا منخرطون من الداخل منهم 7 منخرطين بصفاقس. تسعى جمعيتنا إلى نشر المعلومات المتعلقة بالتخطيط الحضري وتخطيط المدن وتركيز البحوث العلمية المتخصصة في ذلك، ولها أيضا أهداف أخرى منها تنمية الفكر المتعلق بعامة الناس والتحسيس بضرورة الاستدامة في المدن لدى متساكنيها، هذه هي أبرز الأهداف التي وردت في قانونها الأساسي. ومن المفيد أن نشير إلى أنّ الجمعية قد تأسست بعد أن وقع سنّ قانون في الإدارة التونسية يحدّد وظائف ومهام مخطط المدن العامل بالإدارة التونسية، في الحقيقة هناك عدّة وظائف موكولة إليه منها أنّ لديه الأدوات اللازمة والمعرفة الضرورية للقيام بتحليل لكلّ ما يتعلّق بالمدينة بما في ذلك المسائل الاقتصادية والطرقات والنقل والتنقل، أي كلّ ما من شأنه أن يؤثّر على نمو المدينة، فينبغي له أن يكون قادرا على تشخيص الإشكاليات وتبليغ الإدارة أوالمسؤول السياسي بعض الاختيارات الأساسية التي تأخذها فيما بعد بعين الاعتبار بعد الموافقة عليها، بالمناسبة نشير إلى أنّه لدينا مخطّطو مدن يعملون في إعداد الدراسات البيئية أي بكلّ ما يتعلّق بالشريط الساحلي ودراسات لها تأثير على البيئة مما يتطلّب تعدّد الاختصاصات، وهذا لا يعني أنّه يعوّض الجميع وإنّما هورجل قادر على الخروج بخلاصة تحليلية وذلك بتحليل عدّة جوانب من المدينة ثمّ يجسّم هذه العناصر ومختلف الاختيارات وفق المعطيات والأدوات التي يستعملها. * هل ثمّة عوائق في بعث بعض فروع للجمعية داخل الجمهورية على الأقلّ في صفاقس وسوسة ونابل أي المدن الكبرى بعد العاصمة؟ - المسألة مرتبطة بالتكوين في تخطيط المدن، جيلنا من المؤسسين لهذه الجمعية معظم أفراده زاولوا دراستهم بالخارج، بعدها بقينا على امتداد خمس وعشرين سنة دون أيّ نظام تكويني في هذا المجال ما عدا ما تمّ بعثه بالمدرسة المعمارية في مستوى المرحلة الثالثة في تخطيط المدن ولكنّ ذاك لا يكفي، في السنة الماضية (2007) تخرّجت أوّل دفعة ممن درسوا خمس سنوات بعد الباكالوريا في هذا الاختصاص لهم نفس رتبة المهندس المعماري والمهندس المدني، لذلك ليس هناك عدد كاف من المتخصّصين يبرّر بعث فروع داخل الجمهورية. * بعد أكثر من ربع قرن من بعث هذه الجمعية، ما أبرز ما حققته منذ ذلك الوقت إلى اليوم ؟ - تحسيس المسؤولين بضرورة بعث مؤسسة تكوينية في هذا الاختصاص وهذا يعدّ أهمّ أمر، فهومرتبط بمستقبل هذه المهنة، وما دام التكوين في هذا المجال مفقود يبقى عدد المتخصّصين محدودا باستثناء عدد قليل تكوّنوا بالخارج، والحل الذي كنّا نصبوإليه لم نبلغه، لقد أنجزنا دراسة في هذا المضمار وطالبنا وزارة التعليم العالي بذلك، وخلال سنة 2000 اتصلنا بالوزير، هذه الدراسة تبيّن كيفية بعث معهد في هذا المجال ومحتوى برنامج التعليم وسنوات الدراسة وكنّا ننتظر بعث معهد كامل الشروط لمختلف المستويات والشهادات العلمية من المرحلة الأولى والثانية إلى شهادة الدراسات المعمّقة والدكتوراه، ولكن وقع قبول مرحلة دراسية لمدة خمس سنوات وذلك في معهد عال يتخرّج منه طلبة مستواهم «باك زايد 3» وذلك بصفة استثنائية، أي أنّه لا وجود لدينا لمعهد كامل الشروط متخصص في التخطيط الحضري وقد كنّا اقترحنا بعثه منذ سنة ,2000 وهذا يمكن تحقيقه في تونس والحال أنه ثمّة في بلادنا معاهد يشكّ أحيانا في أهمّيتها نظرا لأنّ تكوينها غير معروف وهشّ ومع هذا فهي موجودة ومعهدنا الذي نصبوإليه غير موجود، حاليا لدينا 144 أو145 منخرطا، ثلثاهم سنّهم يفوق 55 سنة يعني أنّهم على مشارف سنّ نهاية الخدمة، وأعضاء الثلث الباقي سنّهم دون 35 سنة، لوكان لدينا معهد تكويني لارتفع عدد المتخصصين، من غير المعقول أن نترك بعدنا الفراغ التام، نخشى دون معهد من هذا القبيل انقراض هذا الاختصاص، ولوكان لدينا هذا المعهد لكان عدد المنخرطين يفوق 300 ولأمكن لنا بعث فروع داخل الجمهورية. * من المؤسف أن نرى شوارع مثل شوارع مدينة صفاقس التي تعدّ المدينة الثانية في البلاد ضيّقة في غياب التخطيط بسبب قصر النظر وعدم استشراف المستقبل، هذه الإشكالية ليست مطروحة بالنسبة إلى بعض المدن الساحلية الأخرى، فكيف ترى المسألة...؟ - تخطيط المدن لا يعود بالنّظر إلى شخص واحد، فالمتخصّص يقدم مقترحه ثمّ يمرّ عبر البلدية وأصحاب الأراضي واضعي القنوات وغيرهم، يعني تعدّد المتدخّلين، في نهاية المطاف، يمكن أن أعدّ مخطّطا، ولكنّ تخطيطي هذا لا يؤخذ بعين الاعتبار بحذافره مثل الطبيب الذي يقدّم وصفة لمريضه تتضمّن خمسة أدوية، يشتري دواء واحدا ولا يشتري الأربعة المتبقية، بطبيعة الحال لا يشفى المريض، وفي هذه الحالة لا ينجح التخطيط الذي أعددناه، فنحن كمخططي مدن نقدم المشروع لأصحاب القرار وهم يتحاورون مع مختلف الأطراف كالمالك والبلدية والولاية والمواطن ومن يرغب في اقتناء أرض، وفي الأثناء تقع تعديلات إلى أن نصل إلى النتيجة التي ذكرتها في سؤالك وهي أن الطريق يصبح ضيّقا بهذه الكيفية، ويتجاوز عدد الطوابق المسموح بها، إلى أن يستحيل دخول الشمس إلى المباني الموجودة بهذا الشارع. * نلاحظ في العديد من المدن التونسية تعدّد الأنماط العمرانية في المنطقة الواحد ة في تداخل مفرط وفي غير نظام ودون ملاءمة إلى حدّ النشاز وقد يصل الأمر إلى الإزعاج فالقرف، فليس ثمّة هياكل تراقب هذه المسألة أو تنظمها...؟ - هذا النشاز يعكس تعدّد الانتماءات الاجتماعية واختلافها في الرؤى، لقد كنّا في وضعية خلال الخمسين سنة الماضية نعاني من الفقر الشامل، ثمّ تطوّرت الحالة شيئا فشيئا فتحسّن المستوى التعليمي، بعدها حصل النشاز باعتبار أنّ كلّ واحد من أفراد المجتمع يريد أن يعكس اهتماماته بفرض أشكال وأنماط مختلفة مما شكّل فوضى واضحة لا تستطيع أيّة بلدية التحكّم فيها، فهي تتحكّم في تطبيق أمثلة التهيئة أو التقسيمات الموجودة في تلك المدينة، ولا تستطيع التحكّم في الواجهات والشبابيك والأمور الشكلية الأخرى ما عدا كلّ ما يمكن أن يشكّل خطرا على صحّة المواطنين، من قبل أثناء الاستعمار كان هناك تصنيف في الأشكال الهندسية بصفة مضبوطة فمنطقة سيدي بوسعيد مثلا تخضع إلى قرار يتمثل في إلزام مالكي العقارات بطلاء الجدران بالجير الأبيض والشبابيك والأبواب بالطلاء الأزرق أي ما يسمّى ب«الوصفات العمرانية» أو «وصفات التجميل»، كلّ ذلك أضعناه، فالشعب من قبل كان يعيش أزمة السكن، فكان هذا الأمر هوالشغل الشاغل للمسؤول والإدارة والحكومة لإعطاء الفرصة للجميع للحصول على مسكن، ولكن منذ سنوات تغيّر الوضع فلم يعد لدينا ذلك الضغط الناتج عن هذه المسألة، وقد انخفض عدد الأحياء العشوائية، إلاّ أنّه بات من الضروري الاهتمام بهذه الوصفات العمرانية والتجميلية. * ظهرت مؤخّرا العمارات البلّورية وهي متناقضة تماما مع ما تدعو إليه الجهات الرسمية بخصوص الاقتصاد في الطاقة، فهي عمارات باردة في الشتاء وتحتاج إلى وسائل التدفئة وساخنة في الصيف مما يضطرنا إلى استعمال وسائل التبريد والمكيّفات، وهذا من شأنه أن يكلّفنا الثمن باهظا نظرا لما تستهلكه من طاقة بكيفية مهولة، فماهو موقفكم من هذه الظاهرة السلبية؟ - موقفنا واضح، فنحن لا نقبل هذه الأشكال التي تعدّ أشكالا غير مستدامة لأنّها تثقل كاهل المجموعة الوطنية بأموال باهظة ومصاريف مرتفعة لاسيما بخصوص الاستهلاك المفرط للطاقة، المطلوب في اعتقادنا من قبل الأطراف المسؤولة والرسمية توعية كلّ أصحاب المهنة الذين يسعون إلى تشييد مثل هذه العمارات ومطالبتهم بالكفّ عن القيام بذلك، وخاصّة توعية المهندسين المعماريّين فهم ينفّذون أوامر رجال الأعمال، فهؤلاء يعتبرون أنّهم بمثل هذا الصّنيع قد أكسبوا عماراتهم رونقا وجمالا، وهذا الأمر أصبح منتشرا بكيفية مهولة، وذلك في حدّ ذاته كارثة بالنسبة إلى الطّاقة وله انعكاسات وخيمة على اقتصاد البلاد. * تخصّصت في علم الاجتماع والجغرافيا وتخطيط المدن، فما هي العلاقة بين هذا الفسيفساء من الاختصاصات؟ - من لا يتعرّف إلى المجتمع وخصائصه الاجتماعية ومختلف الخصائص الجغرافية وكذلك الخصائص التخطيطية لا يستطيع القيام بتخطيط المدن، فيوجد في المدينة تعدّد الوظائف وتعدّد الاختصاصات وتنوّع المجتمع، لذلك من الضروري أخذ هذا التعدّد وهذا التنوّع بعين الاعتبار حتّى نتمكّن من وضع الإشكاليات بالكيفية اللازمة ونلقي نظرة استشرافية على مختلف جوانب المجتمع، فالدراسة الواحدة في اختصاص واحد مثل الدراسة السوسيولوجية أوالدراسة الجغرافية، لا يمكن لها أن تشمل كلّ جوانب الواقع العمراني. * تقوم بعض البلديات بدراسات استشرافية في حدود سنة 2015 وهذا الموعد يعدّ قريبا، فما يتمّ التوصّل إليه من دراسات ونتائج قد يتجاوزه الزمن لاسيّما إذا تأخّر التنفيذ، فكان من المفروض القيام بدراسات استشرافية في حدود سنة 2040 أوسنة ,2050 فماهو تعليقكم على هذه المسألة؟ - نظرا للتحوّلات السريعة، الأمر لا يستوجب العمل على 50 سنة بل نعمل على 10 أو15 سنة ونعدّل التحليل والمقترح، والمشكلة الأساسية تتمثّل في أنّ الأطراف المتدخّلة في التنفيذ متعدّدة ومتنوّعة، هذه الأطراف ليست لها نفس النسق في التدخّل، ففي منطقة سكنية معيّنة مثلا تزويدها بشبكة الماء الصّالح للشراب أوشبكة قنوات التطهير تتطلّب تدخّل أطراف متعدّدة،والتزامات ديوان التطهير مثلا لا تسمح له بالتدخّل في نفس الوقت مع الشركة التونسية لتوزيع واستغلال المياه، هذا فضلا عن أنّ صاحب القرار لم يستوعب بعد كلّ خصائص ومكوّنات وعناصر المشروع، حاليا وقع إقرار المثال التوجيهي لتونس الكبرى لسنة 2021 من قبل الحكومة، هذا القرار سيتبعه فيما بعد تدخّل أطراف متنوّعة وكثيرة، فمن سيقوم بعملية التنسيق عند التنفيذ، فالممارسة القطاعية ما زالت قائمة الذات، أحيانا البلدية لا تسمح لها إمكانياتها بالتنسيق بين مختلف الأطراف. * هذا الكلام منطقي ولكن أحيانا تكون الدراسة جاهزة وتبقى على الرفوف سنوات يتراكم عليها الغبار ويلفّها النسيان فتتجاوزها الأحداث فتصبح عديمة الجدوى بما يحصل من تطوّرات وتغيّرات سريعة على أرض الواقع، فهل هذا معقول...؟ - ذلك يعود إلى برمجة التمويلات في مخطّط معيّن لمدّة خمس سنوات، ثمّ تنفيذ المخطط يحصل عن طريق الميزانية... أحيانا عوض أن نبدأ في السنة الأولى من الفترة التخطيطية نبدأ في السنة الثانية بسبب بعض الضغوطات، من كان يتصوّر أنّ أسعار الطاقة ستكبّدنا تكاليف إضافية لم نقرأ لها حسابا، قبل 15 سنة كان بصندوق التعويض 350 مليارا للخبز والنفط وغيرهما، أما اليوم فقد بلغ هذا المبلغ ألف مليار أوأقلّ من ذلك بقليل، فمن كان يتصوّر بلوغ هذا المبلغ. * لديك تجربة تمثّلت في تدريس تخطيط المدن بجينيف وزوريخ، فأين نحن من هؤلاء..؟ - درّست في معهد للتنمية تابع لجامعة جينيف متخصّص في بلدان الجنوب، في أوروبّا يوجد أناس لديهم معرفة ببلدان الجنوب، قبل 25 للتعليق على هذا الموضوع: