قوة المصطلح في فكر ابن خلدون «قراءة مقدمة ابن خلدون» ذلك هو عنوان كتاب جديد جاء باللغة الفرنسية للأستاذ المنصف محلة اصدره في 188 صفحة من الحجم المتوسط، عزز به الاحتفالات الوطنية بالذكرى المائوية السادسة لابن خلدون ولكن ايضا جاء الكتاب لبنة اخرى ثابتة في قراءات اخرى لفكر هذا الرجل الذي ما يزال يشغل العلماء والفلاسفة والسياسيين لعمقه وثرائه وقوة نفاذه في التاريخ الانساني منذ خروجه الى الناس. وما يجب ان نبدأ به الحديث عن هذا الكتاب، هو ان مؤلفه الاستاذ المنصف محلة لم يردد «كلام» غيره من الباحثين والدارسين انما حاول ان يكون متفردا وطريفا بشكل ملفت للانتباه. ويمكن ملاحظة هذا التفرّد انطلاقا من التوطئة التي صاغها بدقة معتمدا فيها على اهمية المصطلح الحامل للمفاهيم الجديدة المختلفة بثها ابن خلدون في الفكر الانساني ولا فقط في الفكر العربي الاسلامي. فلقد انطلق المنصف محلة في كتابه من المصطلحات التي حملها عنوان الكتاب الاساسي لابن خلدون. كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر. وهو يعتقد ان مجموع مؤلفات ابن خلدون تشكل وحدة متكاملة يمكن وصفها بالموسوعية، الا ان المقدمة وحدها قادرة على ان تحدد فكر ابن خلدون وشخصيته العلمية وموسوعيته في شتى العلوم والفنون وهي قادرة لوحدها ان تجعل من ابن خلدون مفكرا مشعا وذا حضور قوي على مر العصور. منذ البداية يعلن ابن خلدون انه لا يسجل التاريخ.. ولا الاحداث.. انما يرى في التاريخ عبر «اي فائدة» اي دروس، وكتابه هو المتبدأ.. وهو الخبر، اي الموضوع،.، ومعناه او المسألة والتعليق عليها. ومن البدء ايضا نقول بان اهمية ابن خلدون تكمن في صياغة جديدة للمصطلح الذي يستعمله. وفي هذه الصياغة مفهوم آخر يدخل ضمن تشكلات الرأي الجديد الذي يطرحه مثل «العمران البشري» و«العصبية» و«العدوان» و«التاريخ» و«الاجتماع الانساني» و«عمران العالم» و«التوحش» و«الأنس»، و«التغلبات»، «الريف» (البساطة والقناعة) و«الحضارة» (نهاية العمران وخروجه الى الفساد، ونهاية الشر). لقد حملت هذه الكلمات معنى المصطلح، والمصطلح حمل معه مفهومه، والمفهوم هو الذي اسس الفكر الخلدوني. وتفطن ابن خلدون منذ البداية انه اكتشف فن العمران او علم العمران وعلم مبكرا انه لا يمكن لهذا العلم ان يتشكل ويصاغ بشكل متكامل اذا لم يعتمد على المصطلح فهو الحامل للمعنى وهو الباث للمفهوم. وما هو معروف الان ان مبدع العلم هو القادر على ابداع المصطلح والمفهوم في آن واحد، ونحن نرى اليوم ان كل المفاهيم الرائجة في العالم روّجها «المبدعون» في الحضارة الغربية خاصة، فالغرب اليوم هو المتقدم فكريا.. وهو الغالب علميا.. والمهيمن سياسيا وهو المسيطر عسكريا. ولذا فهو قادر على الترويج لمفاهيمه وقادر على جعل العالم في محيطه ومتشبه به. ابن خلدون يعرف هذه الحقيقة على مستويين: 1) الناس على دين ملوكهم. 2) الضعيف يتشبه بالقوي. وانطلاقا من قضية المصطلح كانت قراءة المنصف محلة، قراءة علمية، نظر فيها انطلاقا من عصر ابن خلدون.. وانطلاقا من الفكر الذي تشكل في الغرب بعد بضعة مئات من السنين على رحيل ابن خلدون. لقد نظر في قراءة عميقة الى مسألة الطبيعة البشرية والحياة الاجتماعية، كما درس مصطلح «العصبية» وعلاقتها بالنسب والتغالب متعمقا بالخصوص في مسألة العصبية التي هي اساسية في نشأة الدول ونشأة الحضارة. ودرس في شكل تفصيلي ايضا مسألة النسب، والقوة، والهيمنة وانواعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية ويعود الباحث في كل ذلك الى مسألة العصبية دائما بقراءة جديدة اعتمد فيها على العلم الحديث انطلاقا من علم اللغة (ونحو المعاني) وعلم الاجتماع ما بعد ابن خلدون، وعلم النفس (مسألة الرمز والجنس). وفي الملخص نجد المنصف محلة يتوصل بعد تحليل مستفيض الى ان ابن خلدون مفكر فريد من نوعه، صاحب عقل مبدع ولا مبالغة ان وصفناه بانه عبقري ولئن كانت بعض تحليلاته حاملة لبذور التناقض الناتج ربما عن وجوده في عمق السلطة والى جانب السلطان فانه يبقى مهما في الفكر الانساني ذلك انه لم يخرج عن الفكر الاسلامي ولم ينحرف عن الشريعة وتمكن من اثراء الفكر الاسلامي بالفكر الاوروسطي والافلاطوني دون سقوط في الخلط، اي انه تمكن من صهر كل ذلك في رؤية تعتبر متكاملة وان داخلتها بعض التناقضات.