لحظة اصطدام سيارة الوزير الصهيوني المتطرف بن غفير وانقلابها (فيديو)    نبيل عمار يؤكد الحرص على مزيد الارتقاء بالتعاون بين تونس والكامرون    أبطال إفريقيا: موعد مواجهتي الترجي الرياضي والأهلي المصري في النهائي القاري    الكاف..جرحى في حادث مرور..    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف لطيران الاحتلال لمناطق وسط وجنوب غزة..#خبر_عاجل    حالة الطقس لهذه الليلة..    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    طبيبة تونسية تفوز بجائزة أفضل بحث علمي في مسابقة أكاديمية الشّرق الأوسط للأطبّاء الشّبان    بعد دعوته الى تحويل جربة لهونغ كونغ.. مواطن يرفع قضية بالصافي سعيد    التعادل يحسم مواجهة المنتخب الوطني ونظيره الليبي    عاجل/ ايقاف مباراة الترجي وصانداونز    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    القضاء التركي يصدر حكمه في حق منفّذة تفجير اسطنبول عام 2022    بنزرت: ضبط كافة الاستعدادات لإنطلاق اشغال إنجاز الجزء الثاني لجسر بنزرت الجديد مع بداية الصائفة    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    الرئيس المدير العام لمركز النهوض بالصادرات: واقع المبادلات التجارية بين تونس وكندا لا يزال ضعيفا وجاري العمل على تسهيل النفاذ إلى هذه السوق    سيدي بوزيد: ورشة تكوينية لفائدة المكلفين بالطاقة في عدد من الإدارات والمنشآت العمومية    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    وقفة احتجاجية لعدد من أصحاب "تاكسي موتور" للمطالبة بوضع قانون ينظم المهنة ويساعد على القيام بمهامهم دون التعرض الى خطايا مالية    منظمات وجمعيات: مضمون الكتيب الذي وقع سحبه من معرض تونس الدولي للكتاب ازدراء لقانون البلاد وضرب لقيم المجتمع    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    تكوين 1780 إطارا تربويا في الطفولة في مجال الإسعافات الأولية منذ بداية العام الجاري    ''تيك توك'' يتعهد بالطعن أمام القضاء في قانون أميركي يهدد بحظره    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    منوبة: الاحتفاظ بصاحب مستودع عشوائي من أجل الاحتكار والمضاربة    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    وزارة التجارة تقرّر التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    رقم قياسي جديد ينتظر الترجي في صورة الفوز على صن داونز    تم انقاذها من رحم أمها الشهيدة: رضيعة غزاوية تلحق بوالدتها بعد أيام قليلة    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    تقلص العجز التجاري الشهري    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأسس والأبعاد
دراسة: نظرة على المجلة الجديدة للديوانة
نشر في الصباح يوم 26 - 10 - 2008

1- إن النظم الديوانية شديدة التأثر بالنظم التي تحكم التجارة الدولية، لذا لا يمكن في عصرنا الحاضر التعويل على نظم ديوانية جعلت في الماضي لأوضاع غير الأوضاع التي نعيشها اليوم.
وعندما ننظر في حالة القانون الديواني «Le droit douanier» تباعا لحالة النظم الديوانية نلاحظ أن هذا القانون وإن حافظ على "أساسياته" فإنّه شهد تطويرات كبيرة وتغييرات عميقة - لا سيما في البعض من جوانبه- في جل الدول وعلى رأسها الدول المتقدمة. وفي هذا الإتجاه سارت الدولة التونسية التي سعت منذ بضع سنوات إلى تحديث تشريعها الديواني ليكون مواكبا للتطورات وللمتطلبات الحالية.
لا ننسى أن مجلة الديوانة الحالية التي تجسد التشريع الديواني للبلاد التونسية هي في واقع الأمر مجلة قديمة نسبيا، خصوصا وأنها مدعوّة إلى أن تحكم مجالا حيويا يتمحور أساسا حول التجارة الدولية للسلع وما يرتبط بذلك من أوضاع ومسائل ونزاعات.
قلنا أن مجلة الديوانة الحالية مجلة قديمة نسبيا من حيث أنها صدرت بمقتضى الأمر العلي المؤرّخ في 14 جمادى الأول لسنة 1375 هجرية الموافق للتاسع والعشرين من شهر ديسمبر لسنة 1955 الميلادية.
وقد جاء ذلك الأمر العلي ليضع مجلة جامعة للمادة الديوانية بحيث تحلّ محلّ عدد وافر من الأوامر العلية التي تناولت هذه المادة التي كان يطلق عليها بالمادة "القمرقية" والتي (أي تلك الأوامر العلية) صدرت لتنظيم نواح متنوعة من هذه المادة طوال الفترة الممتدة من عام 1884، إلى غاية عام 1955، فطوال تلك الفترة صدر ما لا يقل عن 24 أمر عليّ تعلقت بالمادة "القمرقية" وصولا إلى وضع مجلة ديوانية شاملة.
2- لقد شكلت مجلة الديوانة الصادرة بالأمر العلي المؤرّخ في 29 ديسمبر 1955 التشريع المعبر بصورة رئيسية عن القانون الديواني الذي له كفرع من فروع القانون وعلى تواضعه مقارنة بفروع أخرى كالقانون الجبائي مصادر متنوعة من بينها المعاهدات الدولية لكون المادة الديوانية مادة تتمحور حول التجارة الدولية ودخول السلع وخروجها من البلاد الأمر الذي أبرمت بشأنه منذ وقت بعيد معاهدات مع دول أخرى غالبا ما انصبت على مسألة المعاليم الديوانية Les droits de douane من حيث مستوى هذه المعاليم ومدة الإعفاء أو التخفيض منها على أساس المعاملة بالمثل من ناحية وعلى أساس إعمال ما يسمى في قانون المعاهدات بشرط الدولة الأكثر رعاية La clause de la nation la plus favorisée من ناحية أخرى.
3- ومع وجود قانون ديواني في تونس منذ القرن التاسع عشر الميلادي ودون إعتبار قدم مؤسسة الديوانة في الحضارات المختلفة ومنها الحضارة العربية الإسلامية، فإن هذا القانون شأنه شأن القانون الجبائي يشكل نظرا لوظيفته الحمائية التقليدية، ونظرا لوظيفة تغذية خزينة الدولة، أداة لسياسة الدولة.
وبما ان القانون الديواني أداة من أدوات السياسية على أهميّة قانونيّته «sa juridicité» فإنّه كان خلال فترة الحماية أداة من أدوات نظام الحماية الذي هو في الواقع نظام إستعمار حيث وظفت السلطة الفرنسية كسلطة حماية «Autorité protectorale» القانون الديواني الذي يصدر شكليا «Du point de vue formel» عن طريق الباي لفائدة الإستعمار وتحديدا لفائدة الإستيطان. وقد سعى المعمرون الفرنسيون في تونس إثر إنتصاب الحماية إلى جعل البلاد التونسية تتمتع بنظام قمرقي يوفر نفس التسهيلات التي تمّ إقرارها في نطاق الإتحاد القمرقي «L'Union douanière» بين فرنسا والجزائر باعتبار الجزائر إمتدادا للإقليم الأصل «La métropole» أي إمتدادا للتراب الفرنسي. وعلى هذا الأساس بدأ إصلاح النظام الديواني التونسي «Le régime douanier tunisien» عن طريق التشريع الفرنسي إنطلاقا من قانون 19 جويلية 1890 الذي صدر في فرنسا والذي منح السلع التونسية معاملة متميزة لتشجيع التوريد من فرنسا والتصدير إليها. وفي الواقع كان ذلك النظام المتميز الممنوح للسلع التونسية قد إعتمد بصورة خاصة لخدمة المعمرين والتجار الفرنسيين المقيمين في تونس. ولما إتضح أن ما جاء به القانون الفرنسي لعام 1890 لم يكن كافيا، طلب المقيم العام من الباي عام 1898 إصدار أوامر عليّة من شأنها أن تعطي للسلع وللمنتوجات الفرنسيّة نظاما أفضل عند التوريد وعند التصدير مما تتمتع به دول أخرى كانت تربطها بتونس معاهدات شاملة للمادة القمرقية، فكانت الأوامر العلية الصادرة في 2 ماي 1898، والتي إعتبر البعض أنّها كانت في الواقع في مصلحة كل من تونس وفرنسا كما ذهب إلى ذلك الباحث «Clément Saint Pierre» في أطروحته للدكتواره التي قدمها عام 1901 بكلية حقوق ليون وكان عنوانها «Le régime douanier franco-tunisien» .
ففي هذه الأطروحة دافع فيها صاحبها آنذاك (1901) على فكرة إقامة إتحاد ديواني إندماجي بين فرنسا وتونس «Une Union douanière» على غرار الإتحاد الديواني الإندماجي بين فرنسا والجزائر.
لقد تواصل بناء القانون الديواني التونسي بداية من عام 1898 بمقتضى أوامر علية إمتدت من عام 1908 إلى عام 1955 حيث تم إصدار مجلة الديوانة التي بقيت نافذة إلى اليوم، وبالتالي فإن تلك المجلة التي صدرت قبيل الإستقلال هي التي صارت مجلة الديوانة لدولة الإستقلال ومجلة الديوانة لدولة ما بعد الإستقلال.
وقد مكنت تلك المجلة الدولة التونسية من بناء نظام ديواني عصري خصوصا أنه مستوحي من النظم الغربية، كما مكن من تحقيق الحماية اللازمة للإقتصاد الوطني وفق الفلسفة التي تقوم عليها النظم الديوانية العصرية، إلا أن العالم تغيّر بشكل جوهري فيما يتعلق بالتجارة الدولية منظمة وآليات ومعايير. لقد تغير العالم جراء العولمة التي تم إطلاقها في مطلع التسعينات من القرن الماضي وتغيّر العالم جرّاء الإنتقال من منظومة "الغات" «GATT» إلى منظومة المنظمة العالمية للتجارة «Le système de l'OMC» مع إعتماد إتفاقات دورة الأروغواي «L'Uruguay Round» عام 1994، تلك الإتفاقات التي تم التوقيع عليها في مراكش والتي أحدثت المنظمة العالمية للتجارة. فمنذ ذلك الوقت صار العالم إطارا قانونيا تندرج فيه جلّ القواعد القانونية المتعلقة بالتجارة الدولية للسلع والخدمات.
وعلى ذلك الأساس لم يعد من الممكن للمنظومة الديوانية أن تعمل بصورة تقليدية بحتة بل أصبح عليها -طالما أن الدولة منخرطة في العولمة وفي منظومة المنظمة العالمية للتجارة- أن تحقق التأقلم المطلوب للمنظومة الديوانية الوطنية مع المبادئ والمعايير الجديدة - كمبادئ ومعايير دولية وعالمية- للتجارة عبر البلدان وعبر مختلف مناطق العالم. وهذا الاعتبار ليس مجرد إعتبار نظري بل هو اعتبار جدي وترتبط به إلتزامات دولية دقيقة ولا يمكن لأي دولة في وقتنا الحاضر أن تغض الطرف عنه أو أن تتجاهله، فالتجارة الدولية أمر حتمي بالنسبة لجميع الدول سواء أكانت متقدمة ومصنعة أو غير متقدمة وفقيرة، فالأمر يتعلّق هنا بقانون من القوانين التي تحكم العالم اليوم وقد ينتج عنه الخير والرفاه، كما قد تنتج عنه المتاعب، ولكن يبدو أن ذلك "القانون" يمنح فرصا ثمينة لمن يعرف كيف يستخدم آلياته بصورة سليمة وعلى أسس صحيحة ومتبصرة.
4- من أبرز متطلبات نظام التجارة الدوليّة كما يتمحور حول المنظمة العالمية للتجارة التقليص من المعاليم الديوانية والتخفيف من الحواجز الديوانية «Les barrières douanières» كل ذلك حتى تنجز التجارة الدولية في جو من الشفافية وإنعدام الفساد وعدم التمييز إضافة إلى الأخذ بمقتضيات الإنصاف.
هذا المناخ الجديد للتجارة الدولية المنطلقة من العولمة ومن منظومة المنظمة العالمية للتجارة كان له أثر حقيقي على القانون الإقتصادي التونسي أسوة بالقانون الإقتصادي في عديد الدول الأخرى. وأكثر من ذلك فإنّ تونس كانت قد دخلت في رهان تاريخي كبير لما أبرمت إتفاق شراكة «Accord d'association» مع المجموعة الأوروبية ودولها الأعضاء «La Communauté européenne et ses Etats membres» والتي صارت مشمولة فيما بعد بالإتحاد الأوروبي «L'Union européenne» وهو الإتفاق الذي تمّ التوقيع عليه في بروكسل في 17 جويلية 1995 وصادقت عليه تونس في 20 جوان 1996.
لقد تضمن ذلك الإتفاق كمان نعلم عددا من الأحكام والترتيبات التي تتعلق بالمادة الديوانية وعلى رأسها ضرورة إزالة التعريفة «Démantèlement tarifaire» التي تولّت تونس الإستجابة لها بصورة مبكرة في غرة جانفي 1997 مع مواصلة إعمال التراتيبات الديوانية الأخرى التي نص عليها الاتفاق والتي أدخلت حركية كبيرة على المنظومة الاقتصادية التونسية.
يضاف إلى ذلك أنّ المادة الديوانية صارت تتناغم مع متطلبات تحديثية أخرى كتلك الصادرة عن منظمة دولية متميزة ومتخصصة في تلك المادة هي المنظمة العالمية للديوانة L'Organisation mondiale des douanes (OMD)«.
تشمل هذه المنظمة اليوم 173 دولة عضوا من بينها تونس ومجموع تلك الدول الأعضاء في المنظمة ينجز قرابة 98%من التجارة العالمية. والجدير بالذكر هنا أن المنظمة العالمية للديوانة تحث الدول الأعضاء فيها على تعصير منظومتها الديوانية وتوفر أو تعرض عليها خدمات من أجل تعزيز قدراتها في المجال الديواني بالإضافة على كونها (أي المنظمة العالمية للديوانة) إطارا انبثقت عنه عديد المعاهدات (الدولية) الخاصة بالمادة الديوانية والتي يتشكل منها جانب وافر من القانون الدولي الديواني المكمّل في الواقع لقانون التجارة الدولية. ويمكن الإشارة هنا إلى أن تونس طرف في ما لا يقل عن سبع (7) معاهدات منبثقة عن المنظمة العالمية للديوانة.
فكل تلك العوامل المتمثلة أساسا في إلتزام تونس بأحكام ومعايير وتوجيهات المنظمة العالمية للتجارة وبدرجة ثانية المنظمة العالمية للديوانة وكذلك الإلتزام بمقتضيات إتفاق الشراكة مع الإتحاد الأوروبي، إضافة على إقتناع الدولة التونسية بضرورة تحديث القانون الديواني وتطويره وجعل التشريع الديواني منسجما مع المعايير العالمية الحالية للتجارة الدولية، كل ذلك دفع إلى مراجعة التشريع الديواني النافذ في إتجاه إعتماد تشريع جديد من خلال مجلة جديدة للديوانة.
5- يمكن القول أن عملية مراجعة التشريع الديواني بصورة معمّقة إنطلقت مع القانون عدد 92 لسنة 2001 المؤرّخ في 7 أوت 2001 المتعلق بتنقيح وإتمام مجلة الديوانة وهو القانون الذي خصص لمسألة "القيمة لدى الديوانة للبضائع الموردة «La valeur en douane de la marchandise importée» والذي جاء تكريسا وإستجابة لمقتضيات إتفاقية المنظمة العالمية للتجارة. فلقد كان ذلك القانون مؤذنا لإجراء مراجعة شاملة لمجلة الديوانة بل لوضع مجلة جديدة للديوانة تكون عاكسة بصورة رئيسية للمتطلبات وللمعايير الجديدة للتجارة الدولية على أساس من الإنسجام والموائمة كما سبق ذكره مع مقتضيات منظومة المنظمة العالمية للتجارة الدولية وعلى أساس من الإنسجام والمواءمة كما سبق ذكره مع مقتضيات المنظمة العالمية للتجارة «Le système de l'OMC» ومع مقتضيات عدد من المعاهدات الحديثة المطوّرة للمادة الديوانية.
وفعلا منذ عام 2001 شرعت الدولة في إنجاز مجلة جديدة للديوانة وهي المجلة التي تمّ وضعها بصورة نهائية حديثا حيث تم إعتمادها من قبل مجلس النواب في 13 ماي 2008 ومن قبل مجلس المستشارين في 22 ماي 2008 فيما تولى رئيس الجمهورية ختم القانون المتعلق بالمجلة الجديدة للديوانة في 2 جوان 2008 على أن تدخل حيز النفاذ في غرة جانفي 2009.
6- جدير بالذكر هنا، إضافة على ما أوردناه من دوافع أغلبها دوافع دولية أدت إلى صياغة واعتماد مجلة جديدة للديوانة، أن الاتجاه إلى وضع هذه المجلة الجديدة حسب ما أوضحته الحكومة من خلال مذكرة في شرح أسباب التشريع الجديد أملته الأهداف التالية:
أولا : دعم القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني من خلال إعادة هيكلة الأنظمة الديوانية وفق المعايير الدولية مع تيسير شروط ما يسمى بالأنظمة التوقيفية Les régimes suspensifs وتبسيط الإجراءات الديوانية.
ثانيا: دعم الضمانات للمتعاملين مع الإدارة وإضفاء المزيد من الشفافية على المعاملات وذلك من خلال إحداث "لجنة المصالحة والاختبار" بدلا عن "اللجنة العليا للتعريفة" وتفعيل دور القاضي عند الفصل في النزاعات الديوانية الجزائية وتنظيم إجراءات البيع بالمزاد العلني وإجراءات إتلاف البضائع.
ثانيا : دعم الضمانات للمتعاملين مع الإدارة وإضفاء المزيد من الشفافية على المعاملات وذلك من خلال إحداث لجنة المصالحة والإختبار بدلا من اللجنة العليا للتعريفة وتفعيل دور القاضي عند الفصل في النزاعات الديوانية الجزائية وتنظيم إجراءات البيع بالمزاد العلني وإجراءات إتلاف البضائع.
ثالثا: ملاءمة التشريع الديواني للمنظومة القانونية الوطنية من حيث ضمان ملاءمة أحكام مجلة الديوانة للدستور من جهة وضمان ملاءمة أحكام المجلة مع الإلتزامات الدولية المترتبة عن المعاهدات التي قبلت تونس أن تكون طرفا فيها من جهة ثانية، يضاف إلى ذلك ضمان ملاءمة إجراءات النزاعات الديوانية مع قواعد المنظومة القانونية الوطنية وبخاصة فيما يتعلق بالقضايا الديوانية الجزائية.
فعلى أساس مجمل تلك الاعتبارات سواء المتعلقة منها بمعايير التجارة الدولية أو بمتطلبات القانون الوطني تم وضع مجلة جديدة للديوانة جاءت ثرية للغاية خصوصا أنها تتكوّن من 420 فصلا في انتظار أن يكتمل البناء المكتوب للقانون الديواني بصدور العدد المطلوب من الأوامر التطبيقية والتراتيب المتعلق بالمادة الديوانية.
7- لقد تناولت المجلة الجدية للديوانة بإسهاب وتفصيل في جلّ الحالات عددا وافرا من المسائل التي يتشكل منها اليوم القانون الديواني والتي تتمثل في المسائل التالية :
- المبادئ العامة لنظام الديوانة.
- تنظيم وسير عمل إدارة الديوانة
- توجيه البضائع إلى الديوانة سواء عن طريق التوريد أو عن طريق التصدير.
- فضاءات الأنظمة اللوجستية.
- الأنظمة التوقيفية
- الأنظمة الديوانية الاقتصادية
- التصدير المؤقت
- الإيداع الديواني
- العمليات المنتفعة بامتيازات
- جولان البضائع ومسكها داخل التراب الديواني.
- الملاحة المخصصة.
- الرسم الاضطراري والحطام البحري.
- المعاليم والاداءات المستخلصة من قبل إدارة الديوانة.
- إرجاع المعاليم الديوانية عند التصدير.
- المناطق البحرية الحرة.
كل تلك المسائل التي هي في معظمها مسائل تقنية خصصت لها الفصول الممتدة من الفصل الأوّل إلى الفصل 388 من المجلة الجديدة وهي تشكل ما يمكن أن نسميه بالقانون الديواني الأساسي والتقني «Le droit douanier fondamental et technique» وهو الشق من القانون الديواني المتمثل في مجموعة القواعد القانونية الحاكمة للعلاقات والروابط بين إدارة الديوانة والمتعاملين معها، كما يشمل القواعد القانونية الحاكمة بصورة تقنية لمختلف النظم الديوانية" Les régimes douaniers.
وأما الجزء المتبقي من المجلة الجديدة والذي يمتد من الفصل 301 إلى الفصل 420 وهو الفصل الأخير فقد خصص لما يمكن أن نسميه بقانون النزاعات الديوانية «droit du contentieux douanier» ويشمل مجموعة القواعد القانونية الحاكمة للنزاعات الديوانية لا سيما من الناحية الإجرائية سواء تعلق الأمر بالنزاعات الديوانية المدنية «Contentieux douanier civil» أو بالنزاعات الديوانية الجزائية «Contentieux douanier pénal ou répressif».
8- وإذا كان المقام لا يتسع هنا لإستعراض ما توخته المجلة الجديدة للديوانة من تطوير لأوجه العلاقة بين إدارة الديوانة أو مصالح الديوانة من جهة والمتعاملين معها من جهة أخرى وبخاصة ما أدخلته المجلة من تطوير ومن إضافات تعلقت بالنظم الديوانية، فإنّه من الممكن إلقاء بعض الضوء على ما جاءت به المجلة الجديدة من إضافات ومن تطويرات أو من تغييرات على صعيد منظومة النزاع الديواني «Le système du contentieux douanier».
9. عندما ننظر فيما جاءت به المجلّة الجديدة للديوانة بشأن منظومة النزاع الديواني يمكننا القول أنّ المجلة سعت إلى تطوير جانب من النزاع الديواني المدني مع إدخال بعض التعديل على إختصاص المحاكم الإبتدائية فيما يتعلق بالنزاع الديواني المدني العام، كما سعت الى إجراء مراجعة لم تخل من بعض الإضافات فيما يتعلق بالشق الجزائي لمنظومة النزاع الديواني.
ففيما يتعلق بالنزاع الديواني المدني تميزت المجلة الجديدة للديوانة بكونها أدخلت آلية جديدة لحسم النزاع الذي قد ينشأ بين مصالح الديوانة والمتعاملين معها فيما يخص التصريح المتعلق بنوع البضائع أو بمنشئها أو قيمتها وهو ما يمكن أن نطلق عليه بنزاع التصريح «Le contentieux de la déclaration».
فبخصوص هذا النصف من النزاعات الديوانية المدنية والذي يكمن في وجود خلاف حول صحة البيانات المدلى بها بشأن البضائع عند خضوعها للمراقبة الديوانية من حيث نوعها أو منشئها أو قيمتها فإنّه قبل اللجوء إلى القضاء ممثلا إبتداءا في المحكمة الإبتدائية (العدلية) يتم رفع النزاع أمام هيئة جديدة تمّ إحداثها بمقتضى المجلة الجديدة للديوانة لتحل محل هيئة سابقة (جاءت بها المجلة القديمة وتسمى باللجنة العليا لتعريفة القمارق «Le comité supérieur du tarif des douanes».
فالهيئة الجديدة التي تم إحداثها بالمجلة الجديدة للديوانة تسمى "بلجنة المصالحة والإختبار الديواني" «Commission de conciliation et d'expertise douanière» وهي هيئة ذات طابع إستشاري وإن كانت تركيبتها يغلب عليها الطابع القضائي من حيث أنها تتكون من قاض عدلي كرئيس ومن مستشار من المحكمة الإدارية ومن مساعدين يعينان على أساس إختصاصهما الفني.
وإذ أحدثت المجلة الجديدة للديوانة هذه الهيئة المسماة "بلجنة المصالحة والإختبار الديواني"، فإنّها نقلت في الواقع على التشريع إلى النظام الديواني التونسيين نموذج الهيئة (التي تحمل نفس التسمية) التي جاء بها القانون الذي صدر في فرنسا بتاريخ 31 ديسمبر 1968 والذي أحدث ما سمي بلجنة المصالحة والإختبار الديواني «La commission de conciliation et d'expertise douanière». علما أن القانون الفرنسي المذكور والذي صدر في المادة الديوانية تمّ تنقيحه عام 2004. وهكذا فإن المجلة الجديدة للديوانة نقلت عن ذلك التشريع الفرنسي الآلية المتمثلة في لجنة المصالحة والإختبار الديواني التي يتم اللجوء إليها قبل عرض النزاع على القضاء، إذا كان النزاع الديواني متعلقا كما تمّ ذكره بنوع أو بمنشإ أو بقيمة البضائع إنطلاقا من البيانات التي يقدمها المصرح Le déclarant والتي لا توافق عليها مصالح الديوانة.
وأما فيما يتعلق بالنزاع الديواني المدني العام والذي كان يحكمه الفصل 227 من مجلة الديوانة فقد تم تعديل مضمون هذا الفصل الذي أصبح - من حيث محتواه- الفصل 330 من المجلة الجديدة والذي جاء ناصا على أن "تختص المحاكم الإبتدائية المنتصبة للبت في المادة المدنية بالنظر في النزاعات التي تتعلق بالإمتناع عن دفع المعاليم وعدم إبراء سندات الإعفاء بكفالة وبصفة عامة في كل القضايا الديوانية الأخرى ذات الصبغة المدنية، والتي لم يسند فيها النظر لغيرها بموجب نص خاص".
ويلاحظ من خلال هذه الصياغة الجديدة المتعلقة بالإختصاص في مادة النزاع الديواني المدني العام أن المجلة الجديدة للديوانة أخرجت الإعتراض على بطاقات الإلزام الصادرة في المادية الديوانية من نطاق إختصاص المحاكم الإبتدائية العدلية.
وأما فيما يتعلق بالنزاع الديواني الجزائي فإن المجلة الجديدة للديوانة تضمنت مراجعة شاملة لمنظومة هذا الشق من النزاع الديواني وقد تمّ التركيز على إجراءات معاينة المخالفات والجنح الديوانية والتي جاء بشأنها عدد من المقتضيات الجديدة، كما تمت مراجعة أصناف ومقادير العقوبات المقررة لكل نوع من أنواع المخالفات والجنح الديوانية.
ولعلّ من أبرز الإضافات إن لم يكن أبرز إضافة جاءت بها المجلة الجديدة للديوانة في المجال الجزائي الإضافة التي تتمثل في الإعتراف للقاضي الجزائي وتمكينه لأول مرة في تاريخ التشريع الديواني التونسي المعاصر وهو تشريع ذو أصل فرنسي، من تطبيق ظروف التخفيف في القضايا الجزائية الديوانية.
تجدر الإشارة هنا أن مجلة الديوانة الصادرة عام 1955 والنافذة إلى اليوم كانت قد إعتمدت القاعدة السائدة في القانون الديواني الفرنسي منذ الفترة السابقة لثورة 1789 والتي بمقتضاها يحجّر على القاضي الجزائي في المادة الديوانية الأخذ بظروف التخفيف.
ذلك القيد الذي وضع على سلطة القاضي الجزائي الفرنسي منذ زمن بعيد كان محلّ نقد في فرنسا لكونه يشكل في واقع الأمر مساسا بالسلطة القضائية حيث ورد التحجير المذكور المفروض على القاضي الجزائي في التشريع الديواني الفرنسي تحت عنوان «Défenses faites aux juges» بمعنى: «Interdictions imposées aux juges»، وهو ذات العنوان الذي تم نقله عام 1955 إلى مجلة الديوانة التونسية فيما يتعلق بنص المجلة باللغة الفرنسية. وقد تم ترجمة عبارة Défenses faites aux juges» في نص المجلة باللغة العربية بعبارة "ما لا يسوغ للمحاكم توخيه".
مثل ذلك التحجير الذي يرجع كما ذكرنا إلى فترة ما قبل الثورة الفرنسيّة (1789) تمّ تجاوزه بل إلغاؤه في فرنسا عام 1987 بمناسبة إعتماد قانون جديد للديوانة. وها أن المجلة الجديدة للديوانة في تونس قد نسجت على ذلك المنوال وأقرّت للقاضي الجزائي إمكانية الأخذ بظروف التخفيف في المادة الديوانية وهو ما يشكل مظهرا من مظاهر المراجعة الشاملة التي أجرتها المجلة الجديدة للديوانة لمنظومة النزاع الديواني الجزائي والتي أتت على جوانب أخرى لهذه المنظومة لا يتسع المجال لإستعراضها هنا، ولكن يكفي تسجيل أن المجلة الجديدة للديوانة شكلت فرصة لتطوير منظومة النزاع الديواني المدني كما شكلت فرصة لإجراء مراجعة شاملة لمنظومة النزاع الديواني الجزائي وهي مراجعة تراوحت في الواقع بين الصرامة والمرونة.
10- مثل تلك الإشارات السريعة التي إتجهت إلى بعض النواحي من منظومة النزاع الديواني، كما تناولتها المجلة الجديدة للديوانة، يجب ألا تحجب عنا أن هذه المجلة وإذ إهتمت بتلك المنظومة، فإن الجانب الأوفر منها خصص لتيسير العلاقة بين إدارة الديوانة والمتعاملين معها كما خصص لإنجاز التطوير المطلوب للنظم الديوانية حتى يكون التشريع الديواني في مجمله مواكبا لمتطلبات التجارة الدولية ولمعاييرها العالمية، فذلك ما إبتغته المجلة الجديدة للديوانة بصورة أساسية وهو ما من شانه أن يحقق نقلة نوعية للمادة الديوانية.
(*) أستاذ مبرّز بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.