تُحيي تونس اليوم الأربعاء الموافق ل10 ديسمبر مناسبة كونيّة هامّة تتمثّل في الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان الذي يصادف هذه السّنة الذّكرى الستّين لانبعاثه، إذ أعلن هذا الإعلان الكوني المتعلّق بوضع البشر في كامل أنحاء العالم سنة 1948 أي مباشرة بعد انتهاء الحرب العالميّة الثّانية بثلاث سنوات (1945)، بعد أن تبيّن أنّه من الضّروري أن يصدر نصّ إعلان يحمي البشر جميعا ويضمن لهم حقوقهم الطّبيعيّة والمعنويّة وحرّياتهم الأساسيّة، ولا يقرّ للعنصر أو للجنس أيّ دور في التّمييز بينهم أو المفاضلة. وقد صيغ نصّ هذا الإعلان استلهاما من مبادئ الثّورة الفرنسيّة 1789 وفكّر فلاسفة الأنوار وميراث قيم الحقّ والعدالة للإنسانيّة جمعاء، كما كان لهذا الإعلان صلة متينة بالمبادئ التي ظهرت إثر الحرب العالميّة الثّانية، وكان من أهمّها إرساء حقّ الشّعوب في تقرير مصيرها، ورفع كلّ أشكال الاستعمار والتسلّط والقهر على أيّ شعب أو أمّة. وتعدّ تونس من ضمن مجموعة قليلة من الدّول العربيّة والإفريقيّة التي أمضت على هذا الاتّفاق وأخذت به، بل إنّ حقوق الإنسان صارت ثقافة سياسيّة واجتماعيّة راسخة في تونس العهد الجديد، وهي أساس كلّ قرار سياسي أو تشريع قانوني، فسواء تعلّق الأمر بالسّياسة الخارجيّة أو الأوضاع الداخليّة، فإنّ الإنسان بما هو إنسان رأس مال رمزي ومدار ومقصد نبيل في الآن نفسه إلى حدّ أمكن لنا معه أن نتحدّث من وجهة نظر الفلسفة السياسيّة La philosophie politique عن براديغم Paradigme حقوق الإنسان في تونس. ومصطلح Paradigme الذي دخل لغة الضّاد ليستخدم في صيغته الأجنبيّة (براديغم) يستعمل عادة بمعنى النّموذج النّظري، ويمكن ترجمته من الوجهة المعجميّة البحتة بكلمة "مثال" أو "ميزان" أو "صيغة" أو "تصريف". وبهذا فإنّ حديثنا عن براديغم حقوق الإنسان في تونس يعني حتما الكلام في الصيغة التي اتّخذتها ثقافة حقوق الإنسان في تونس إجراءات وإنجازات وأصبحت بموجبها ميزانا تصرّف به القوانين والتّشريعات ومثالا نظريّا في الثّقافة الحقوقيّة، والأخلاق السياسيّة لكلّ مواطن مهما كان موقعه في المجتمع. بل إنّ هذا المثال النّظري لثقافة حقوق الإنسان الذي شرع في إرساء لبناته صانع التّغيير الرّئيس زين العابدين بن علي منذ فجر التحوّل السّعيد سنة 1987 أصبح نموذجا يحتذى في بلدان كثيرة، وصار محلّ تقدير ومضرب الأمثال على صعيد دولي، وفي المناسبات العالميّة الكبرى. ونحن لا نهدف هنا إلى ذكر أو تعداد إنجازات حقوق في تونس، وهي كثيرة ومتنوّعة بتنوّع مجالات الحياة، وهي التّي صارت ثقافة راسخة لدى كل مواطن ولدى الشّباب الذي نشأ في ظلّ السّياسة التّربويّة والثّقافيّة لتونس العهد الجديد. وقد كتب الكثير في هذا الشّأن. سنكتفي فحسب بالإشارة على نحو من الاختزال إلى الآليات النظريّة والقيم الفكريّة المرجعيّة التي في ضوئها تكوّن براديغم حقوق الإنسان المشار إليه أعلاه والذي أمسى ثقافة يعتزّ بها كلّ مواطن، وفلسفة يستوجب فهمها وتمثّلها لدى المسؤول السّياسي والقانوني في ظلّ تونس العهد الجديد. فأوّل هذه الآليات التي تبلور في سياقها خطاب حقوق الإنسان في تونس العهد الجديد هو أنّ التّشريع لحقوق الإنسان الطبيعة والمدنيّة وحرّياته الأساسيّة يجري في ضوء معالم منهج يقوم على ترسيخ مبدأ المشاركة السياسيّة. وقد ورد تأكيد ذلك باعتباره من خيارات أسس النّظام الجمهوري وهدفه إرساء حياة سياسيّة عصريّة، وفي هذا يقول سيادة رئيس الجمهوريّة: "كان انخراطنا في الخيار الدّيمقراطي التعدّدي وضمان حقوق الإنسان بأشمل معانيها وأوسعها. وكان سعينا إلى توسيع دائرة المشاركة السياسيّة وتمكين المواطن من المساهمة في تصريف شؤون البلاد فأنجزنا الإصلاحات السياسيّة المتلاحقة واعتمدنا الأسلوب الاستشاري في كلّ القضايا البارزة المتعلّقة بالمسيرة الوطنيّة (من خطابه في حفل افتتاح الندوة الدوليّة العشرين للتجمّع الدّستوري الدّيمقراطي "المشاركة السياسيّة في عالم متغيّر" 3 نوفمبر 2000). وفي هذا المسار تجري كلّ الإصلاحات السياسيّة من ذلك التّحوير الجوهري الذي شهده الدّستور سنة 2002، وهو "تحوير قد وفّر إجراءات وآليات جديدة عزّزت أسس الممارسة الدّيمقراطيّة ووسّعت دائرة المشاركة السياسيّة ورسّخت أركان التعدّدية من ذلك بعث مجلس المستشارين والتّنصيص ضمن الدّستور على تنظيم الاستفتاء الشّعبي العام حول القضايا التي تهمّ مستقبل البلاد ومصيرها كلّما دعت الحاجة إلى ذلك" (المرجع نفسه). ثانيا: الرّبط المتين بين السّياسي والاقتصادي بين ثقافة حقوق الإنسان والتّنمية والتّضامن، إذ يتأكّد مسار بناء الحقوق من خلال ماهو معنوي واجتماعي وعبر ماهو مادّي واقتصادي. وفي هذا السّياق يمكن أن نفهم دعوة سيادة رئيس الجمهوريّة إلى إيلاء المدّ التّضامني المكانة اللاّزمة. ثالثا: إنّ مسار التّأسيس لحقوق الإنسان في تونس ثقافة وممارسة لم ينجر على حساب عناصر الهويّة الوطنيّة في بعدها العربي الإسلامي بل من خلال تناغم عميق معها، إذ وكما جاء في الميثاق الوطني الذي أبرم سنة 1988 فإنّ سياسة تونس العهد الجديد تستلهم المبادئ السّاميّة والقيم والمثل العليا التي جاء بها الإسلام رغم أنّها تنشد الحداثة والتقدّم للمجتمع، وهذا بدوره نابع من فلسفة دقيقة ورؤية عميقة للدّين (الإسلام) الذي لا تناقض أسسه الجوهريّة التقدّم والتّحديث في أيّ مجال من مجالات الحياة ما دام ذلك في صالح الإنسان ورفاهه. ومن ثمّة لم يكن هناك أيّ تشريع أقدمت عليه تونس العهد الجديد يختلف مع مبادئ الإسلام وتعاليمه السّمحة أو يناقضها، وأولئك الذين يتّخذون من الدّين غطاء لخياراتهم الإيديولوجيّة باسم الالتزام بتعاليم الإسلام هم يبحثون في الحقيقة عن تبريرات لخيارات ذاتيّة، ويرون أنّ الحلّ الأنجع لانتشار أحزابهم السياسيّة هو دهنها بسراج الشّريعة حتى وإن كان ذلك - مثلما هو الأمر لدى أغلب التّنظيمات السياسيّة والسّلفيّة الجهاديّة التكفيريّة المعاصرة - مناقضا لروح العقيدة الدّينيّة ومقاصد الشّريعة الإسلاميّة.