الهدوء الحذر الذي خيم على جزيرتي غوادالوب والمارتينيك من جزر الانتيل الواقعة في بحر الكارييب قد لايكون سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة بعد اكتمال كل الاسباب التي من شانها ان تهيئ للاعصار القادم بكل ما يحتمله المشهد من سيناريوهات قائمة... لقد اختلف الامر هذه المرة عن تلك الصور واللقطات والمشاهد السياحية الدعائية المغرية التي تعود عليها المشاهدون على مختلف الفضائيات الفرنسية لجميلات المحافظات الفرنسية المعروفة باقاليم ماوراء البحار من ذوات البشرة السمراء وهن يستعرضن اجود انواع الثمار النادرة على الشواطى الرملية بعد ان اختفت او تراجعت تلك المشاهد السياحية لتفسح المجال لمشاهد الغضب الشعبي والاضرابات والاحتجاجات والاصوات الحانقة التي عادت لترتفع مذكرة الرئيس الفرنسي بالواقع الماساوي لتلك الاقاليم التي باتت في الساعات القليلة الماضية قبلة الوفود الفرنسية المتواترة بحثا عن امكانية نزع الفتيل قبل امتداد العدوى واستفحال الازمة المتعددة الوجوه لا سيما بعد جريمة قتل احد الوجوه النقابية الامر الذي لم يعد معه مجال للحكومة الفرنسية للاستمرار في سياسة النعامة على امل عودة الهدوء بما يمكن ان يساعد على تجاوز الازمة باقل التكاليف الممكنة. ولاشك ان في امتداد موجة الاضرابات والاحتجاجات من غوادالوب الى المارتينيك مع نذر انتقالها الى لاريونيون ما كان كافيا لاقناع اصحاب القرار في الاليزيه بان الامر اكثر من مجرد سحابة عابرة وان ما خلف الازمة الاجتماعية والاقتصادية الظاهرة ازمة اكثر تعقيدا بعد استشراء البطالة وتفاقم مظاهر الفقر التي جعلت سكان تلك الاقاليم يفتحون عيونهم على احدى الحقائق التي طالما تجاهلتها فرنسا وهي ان تلك الاقلية من البيض التي لا تتجاوز نسبتها الواحد في المائة من السكان والمنحدرة من المستعمرين السابقين لحقول ومزارع القطن تحتكر اكثر من تسعين في المائة من النشاط الاقتصادي وتنفرد بالسيطرة على مراكز صنع القرار المتعلقة بمصير تلك الشعوب التي تعود بالنظر الى فرنسا... ربما اعتقد البعض للوهلة الاولى ان ما تتناقله القنوات الفرنسية من مشاهد قادمة من وراء البحار انما يتعلق ببعض الاحياء الباريسية المنبوذة التي يقطنها مهاجرون من اصول افريقية يعانون من ازمة هوية ولم ينجحوا في تحقيق ما كانوا يحلمون به من اندماج صلب المجتمع الفرنسي قبل ان يدرك المتتبع لسير الاحداث ان الامر يتجاوز حدود الخارطة الفرنسية الى ما هو ابعد من ذلك. بل لعل نظرة سريعة بحثا عن تعريف لتلك الاقاليم المعنية من شانها ان تذكر بان غوادالوب والمارتينيك جزيرتان من جزر الانتيل الواقعة بالبحر الكاريبي وهما اقليمان يتمتعان بنفس الوضع الاداري لباقي الاقاليم الفرنسية المائة وهي من بين الاربعة المعروفة باسم "اقاليم ماوراء البحار" وتضم غوادالوب خمس جزر يقطنها اربعمائة الف شخص اما المارتينيك فجزيرة واحدة بنفس عدد السكان والاقليمان ممثلان في البرلمان الفرنسي ويخضعان لحاكم يعينه الرئيس الفرنسي ومع ذلك فقد اثرت فرنسا ان تتعامل مع تلك التحركات الشعبية كما تتعامل دول العالم الثالث مع شعوبها فكشفت بذلك عن بقية متبقية من شعور استعماري بغيض لم تنجح فرنسا في التخلص منه نهائيا بل وقد جاء ت مصادقة الرئيس الفرنسي على قانون يمجد الاستعمار ليعكس ذلك الجانب... لقد اختار الرئيس الفرنسي في انتظار الظروف الملائمة لزيارة تلك الاقاليم ان يلوح بدفتر الشيكات لتهدئة النفوس واقناع ذلك الجزء من "مواطنيه" بانضوائه تحت المظلة الفرنسية الا ان الارجح انه ومع تفاقم الازمة المالية العالمية فقد يكون في تقديم السند المالي ما يمكن ان يخفف وقع الازمة ولكنه لن يكون بالتاكيد الحل النهائي المطلوب لتجاوز إرث استعماري ثقيل فقد لا تكون تلك الشعوب مستعدة للانفصال النهائي عن فرنسا قريبا ولكن الامر ليس بالمستبعد او المستحيل اذا اكتملت الشروط ونضجت النزعة بوجود زعيم انفصالي قادر على تحقيق ذلك الهدف.. غوادالوب والمارتينيك ليست المستعمرة البريطانية هونغ كونغ ولا المستعمرة البرتغالية ماكو التي استعادتها الصين بعد عقود طويلة ولا هي ايضا كوسوفو ومع ذلك فلاشيئ يمكن ان يقتلع النزعة الانفصالية يوما ما من شعوبها...