استمعوا إلى العالم الأبيض/ مرهق إلى حد الفظاعة لكل ما يبذله من جهود هائلة/ مفاصله المتمردة تقرقع تحت النجوم القاسية / قساواته الفولاذية الزرقاء المخترقة،الثاقبة للحم الزاهد / استمع إلى انتصاراته المشبوهة تنفخ في بوق هزائمه / استمع إلى أعذاره الفخمة وتعثره الحقير / الشفقة للعارفين السذج المنتصرين علينا!.. هذا مقطع من قصيدة «الرحمة للمنتصرين علينا» للشاعر المارتينيكي «ايمي سيزار» الذي رغبت فرنسا مؤخرا في تكريمه وخصصت له مكانا في مقبرة «البانثيون» يليق به كشاعر وكمدافع شرس عن القيم الإنسانية وكمناضل من اجل إلغاء كل ما هو ميز عنصري في التعامل بين البشر. و»البانثيون» هي مبنى بالحي اللاتيني في باريس أو مقبرة تضم رفات عدد كبير من عظماء الفرنسيين منذ «اونوريه غابرييل ريكيتي» أول من دفن فيها سنة 1791 مرورا ب»فولتير» و»ايميل زولا» و»جان جوريس» و»لوي برايل «و»جان مونيه «و»اندريه مالرو» و»الكسندر دوماس «الأب و»فيكتور هوقو» وصولا إلى «البير كامو» الذي أذن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بإدخال رفاته إلى «البنثيون « سنة 2009 رغم اعتراض ابنه «جان» وابنته «كاترين» بتعلة ان والدهما عاش طيلة حياته رافضا لكل ما هو تمجيد سياسوي مفضلا حريته الفكرية والإبداعية بعيدا عن كواليس السلطة. اما «ايمي سيزار « فهو الشاعر الذي رفض سنة 2005 استقبال « نيكولا ساركوزي « بصفته وزيرا للداخلية الفرنسية على خلفية إقرار قانون عن الدور الإيجابي للوجود الفرنسي في أقاليم ما وراء البحار ولم يمكنه من لقاء الا سنة 2006بعد إجرائه تعديلات على هذا القانون وأهداه كتابه «حديث حول الاستعمار». توفي هذا الشاعر سنة 2008ودفن في بلده ولكن ساركوزي ومواصلة لمحاولاته استمالة المثقفين واعترافا له بجميل المحافظة على اللغة الفرنسية سعى إلى جلب رفاته لدفنه في مقبرة العظماء تماما كما سبق ان طالبت به «سيغولين رويال «التي دعمها الكثيرون وقد تم تحرير عريضة من أجل تحقيق ذلك أمضى عليها عدد كبير من المثقفين الفرنسيين بعد شهر من وفاته لأحقية هذا الشاعر بهذه المكانة وبهذا التكريم ولكن الجميع تفاجأوا على ما يبدو بما اثبت للكل ان «ايمي سيزار» عاش كبيرا ومات وقد ضمن العزة والكرامة لأهله وأصله من بعده وسعى لان يترك لهم منارة مضيئة يحج لها كبار الأدباء والمناضلون من اجل العدالة الاجتماعية في العالم اجمع. هذا المناضل أوصى بان لا يدفن إلا في المارتينيك بلده الأصلي اعتزازا بجذوره وببلده وجنسه وهذا ليس بغريب عن الشاعر «ايمي سيزار الأب «الروحي للفكر الزنجي والذي كتب عن عدم المساواة الاجتماعية بين سكان المارتينيك الأصليين وفرنسيي البلد الأصلي وكان أبرز وجوه تيار الزنجية في الشعر الفرنكوفوني صاحب مقولة «نعرف عن أنفسنا عبر العودة إلى جذورنا واكتشاف ذاتنا». وينتمي «ايمي سيزار» الذي فارق الدنيا يوم 17 افريل 2008 إلى عائلة متواضعة مكونة من سبعة أطفال. وكان جده أول مدرس أسود في ال مارتينيك أما جدته، وخلافا للكثير من النساء من بنات جيلها، فقد كانت تتقن القراءة والكتابة، ولذلك اهتمت بتدريس أحفادها في وقت مبكر جدا مما مكن «ايمي» من اتقان اللغة الفرنسية والانتقال إلى باريس بعد أن تحصل على منحة من الحكومة الفرنسية تخول له متابعة دروس القسم التحضيري بالمدرسة الثانوية «لويس لو غران «حيث التقى فيها منذ اليوم الأول بالشاعر السينغالي ليوبولد سيدار سنغور الذي أقام معه صداقه استمرت حتى وفاة الأخير. واعتمادا على هذه الوصية بقي إدخال «إيمي سيزير» إلى مقبرة عظماء الأمة مجرد فعل رمزي إذ سيبقى جثمانه في جزر «الأنتيل» وهكذا وبهذه الوصية وضع «سيزار « وهو ميت الفرنسيين في مأزق ولم يترك أمامهم إلا خيارا واحدا يمكنهم من التكفير عن أخطائهم تجاهه وتجاه الزنوج وبلدان ما وراء البحار والاعتراف له بالجميل وهو التفكير في إدخال كتبه وأشعاره المختلفة الأغراض رغم ما تطفح به كلماته من سياسة ومسرحياته ودراساته النقدية ومقالاته السياسية ضمن المنهج الدراسي في فرنسا بداية من التعليم الأساسي وصولا إلى الجامعة حتى لا يفنى.