لقد راهنت تونس منذ فجر الاستقلال على التربية والتعليم وخصصت لذلك كل الإمكانيات المادية والمعنوية لتعميم التعليم وتنمية الرأسمال المعرفي. وهذا أمر بيّن للقاصي والداني ولا يختلف فيه اثنان. كما تولي كل العائلات الميسورة ومحدودة الدخل على حد السواء تعليم أبنائها وبناتها كل العناية وتبذل في سبيل ذلك الغالي والنفيس. لكن ماذا لو تساءلنا هل أن ما يتعلمه أبناؤنا جيد؟ قد يبدو هذا السؤال استفزازيا للبعض إذ لا يفترض أن يكون هنالك نوعان من التعلم واحد جيد وآخر رديء. فالعلم كما تعودنا على تعريفه نور وجيد وبذلك لا يمكن أن يكون رديئا. كما يولي الموروث الشعبي العلم والعلماء كل التبجيل والتقدير ويشجعنا على طلب العلم ولو في الصين وطلب العلم من المهد إلى اللحد. فكيف يكون التعلم إذا رديئا؟ يتمثل التعلم الرديء في عدم تمكن أكبر عدد من المتعلمين من اكتساب المعارف والمهارات والقيم التي يجب أن يكتسبوها في مرحلة ما من مراحل تعلمهم اكتسابا جيدا. ولعل أبرز معالم الرداءة أن يكون المتعلم فهما سطحيا أو نسبيا أو مغلوطا للمفاهيم الأساسية المتصلة بميدان ما فيكون بذلك تمكنه منها مبتورا أو مشوشا. ولذلك فلا يستطيع أن يستعمل هذه المفاهيم استعمالا صحيحا في اكتساب معارف أخرى أو في تطبيقها على أرض الواقع ولا أن يطورها كلما استدعت الحاجة لذلك. ولو نضرب على ذلك مثل الطالب الذي يحفظ عن ظهر قلب جملة من النصوص الملخصة لمادة ما دون فهمها ودون التمكن من الوقوف على خاصياتها ومميزاتها، ثم يستعرضها أثناء الامتحان من دون أن يقدر على التفريق بينها وبين غيرها من المعلومات فإن هذا الطالب لا يمكن أن يحوّل الحفظ إلى معرفة لأنه ببساطة لا يمكن اختزال التعلم في الحفظ والترديد. الفهم الجيد هو الشرط الأساسي لبناء النسيج المعرفي لا الحفظ. إن المعلومات التي ينساها الطالب بمجرد انتهاء فترة الامتحانات هي معلومات غالبا ما يتذكرها الطالب ولم يتعلمها لأن التعلم يشترط بناء المفاهيم والمعلومات الجديدة وإدماجها في النسيج المعرفي للطالب. إن مثل هذا البناء الذي يمر بالفهم والتمحيص والسؤال والتمرين هو الذي يؤدي إلى معرفة حقيقية ترافق الطالب مدى الحياة وتساعده في المستقبل على تعلم المزيد من المعارف والمهارات. أما المعلومات التي تحفظ عن ظهر قلب من دون فهم فكثيرا ما تنسى ولا تعين الطالب على بناء نسيجه. وحتى وإن تمتع الطالب بذاكرة جبارة فإن التذكر لوحده من دون فهم لا يولد المعرفة. إن ثقافة الامتحانات تولد خريجي تعليم عال يعرفون القليل ويغيب عنهم الكثير بينما تولد ثقافة المعرفة خريجين يعرفون الكثير معرفة جيدة وقادرون على إنتاج المعرفة لا فقط استهلاكها. وأعتقد أن أسوأ ما في الحفظ من دون فهم هو التقاعس الذهني الذي يصيب الطالب فلا يبادر بالفهم والسؤال والتجديد ويكتفي بترديد ما يقوله غيره مما يفضي به في نهاية المطاف إلى التبعية المعرفية وإلى الاقتصار على استهلاك المعرفة دون القدرة على إنتاجها. ومن أوجه رداءة التعلم أيضا، التعلم الذي يقتصر على الجانب النظري ولا يعطي الطالب التدريب الضروري لاكتساب المهارات التي تمكنه من جسر الهوة بين ما يوجد في الكتب وما يقتضيه الواقع. إن الطالب الذي لا يستطيع تطبيق المعارف على أرض الواقع طالب اكتسب المعارف دون اكتساب القدرة على تطويعها، يستهلك المعرفة ولا ينتجها. لا يمكن لتونس أن تفكر في كسب رهان المعرفة بطلبة يفنون حياتهم في تعلم ما توصل إليه الآخرون من غير أن يستطيعوا توظيف معارفهم في سد حاجيات المحيط الذي يعيشون فيه. التعويل على النفس ولعله أيضا من الرداءة أن نعود شبابنا على عدم التعويل على أنفسهم في ما يخص ما الذي يتعلمونه وكيف يتعلمونه. يبدو الكثير من طلابنا في حيرة تامة إذا ما توجب عليهم تعلم شيء ما دون أن يرافقهم في ذلك أستاذ. لقد أصبح من الضروري الآن أن نعلم أبناءنا مهارات التعلم الذاتي وأن يتعودوا على أن يعولوا على أنفسهم في ذلك. إن الفترات التي يتوجب على المرء أن يتعلم فيها بدون أساتذة لكثيرة ومتزايدة بحكم نسق تطور المعارف. تشير كل التقارير الخبيرة حول إرساء اقتصاد المعرفة أن تمكين أكبر عدد ممكن من العاملين في شتى القطاعات من أسباب التعلم مدى الحياة ليعتبر العمود الفقري للتنمية المستديمة ولتوطين المعارف والتكنولوجيات الحديثة. كيف لنا أن نتوقع من طالب قضى كل فترات التعلم مستكينا معولا على أساتذته وولي أمره ومدرس الدروس الخصوصية في تقرير ما يتوجب عليه تعلمه وكيف يتعلمه أن يتحول بين عشية وضحاها إلى شخص يستعمل تقنيات التعلم مدى الحياة التي تقتضي منه أن يقرر ما يتعلمه وكيف يتعلمه ومتى يتعلمه؟ يجب ألا نستغرب نفور الطلبة من التعلم الذاتي وهم من لم يتعودوا منذ نعومة أظفارهم على عكس ذلك. الدروس الخصوصية ولا يسعنا أن نذكر بعض أوجه التعلم الرديء من غير ذكر الدروس الخصوصية التي تنخر كل مجالات التعليم من السنة الأولى تعليم أساسي إلى الثانوي إلى التعليم الجامعي. لعل أكبر مصيبة أنتجتها الدروس الخصوصية هي أنها شرعت ثقافة الامتحانات لا ثقافة اكتساب المعرفة وأصبح المتعلم لا يركز في القسم ولا يعتبر القسم المجال الطبيعي للتعلم إذ يعول على الدروس الخصوصية لضمان العدد والنجاح. وبذلك لا يتعلم الطالب لا في القسم ولا أثناء الدروس الخصوصية إذ تستعمل هذه الأخيرة في إنجاز التمارين المماثلة لتلك التي تكون في الامتحان وبذلك يضمن الطالب العدد عبر "التقمير" وأساليب أخرى يتفنن فيها متواطئا مع الأستاذ الذي يعطيه الدروس الخصوصية سواء كان هذا الأخير من يدرسه في المؤسسة أو أستاذا آخر. وأصبح الجميع متواطئين لكسب العدد لا لكسب المعرفة تحت أنظار الأولياء ومباركتهم وتحت أنظار الجميع وسكوتهم. لن أخوض في الجانب الاقتصادي للدروس الخصوصية فهذا أمر يسير يمكن حله بجرة قلم على حسب اعتقادي. ما يؤرقني هو التواطؤ العام والسكوت عما تنتجه الدروس الخصوصية وترسخه من تعلم رديء. لقد ذكر لي متفقد تعليم أساسي منذ فترة أنه يدفع شهريا مبلغا وقدره مائة وخمسين دينارا دروسا خصوصية لابنته التي تدرس في السنة الأولى تعليم أساسي لأنه يخاف أن تهمل المعلمة ابنته في القسم إن لم يفعل واعتبرت الأمر مؤشرا سيئا للغاية إذ بدا لي الولي وكأنه بصدد دفع رشوة للمعلمة للقيام بواجبها الذي تتقاضى عليه أجرا. لا يستطيع أحد أن يلوم وليا على خوفه على مستقبل أبنائه حتى وإن كان الولي من العاملين في قطاع التربية. وأصبح من العادي أن ترى أبناء المدرسين أنفسهم يقصدون الدروس الخصوصية وكأنها أمر مفروغ منه أو شر لا بد منه وذلك يبين مدى استفحال داء الدروس الخصوصية ويفرض في الآن نفسه ضرورة التصدى له في أقرب الآجال. لا نستطيع أن نورث الأجيال القادمة مثل هذا المشكل وأن نتوقع منهم حله. إذا ما تعسرت علينا الآن محاصرة هذه الظاهرة وبيننا العديدين الذين جربوا التعلم الجيد من غير دروس خصوصية فكيف نتوقع من الأجيال القادمة حل هذه المشكل وهي التي لم تواجه امتحانا قط من غير الدروس الخصوصية التي أصبحت تعطى في كل المواد حتى في مادة الرياضة البدنية في الأقسام النهائية؟ يكفي أن تصبح مادة تعليمية ما مادة امتحان وطني أو أن يرتفع ضاربها حتى يعلو شأنها في سوق الدروس الخصوصية ويكثر عليها الطلب, يجب أن نفكر في حل جذري وجماعي لهذا المشكل يوازي تواطؤنا وسكوتنا الجماعي عنه. ماذا نجني؟ تثبت كل الأبحاث أن التعلم يحتاج للوقت والجهد والتوجيه الصحيح ونرى أطفالنا وأبناءنا وهم يهرولون من القسم إلى الدروس الخصوصية ومن الدروس الخصوصية إلى القسم حتى أنهم لم يعودوا قادرين على القيام بنشاطات أخرى سواء كانت رياضية أو ثقافية كل هذا لنجني ماذا؟ لنجني أعدادا منتفخة في الامتحانات لا يصحبها بالضرورة كسب معرفي جيد. من يدفع ثمن التعلم الرديء؟ المجموعة الوطنية ككل والأجيال القادمة أكثر من غيرها. لطالما تعودنا أن الجهل هو عكس العلم وأن العلم نور وبذلك نستبعد فكرة أن للتعلم درجات تتراوح بين الرديء والسيئ والمتوسط والجيد والممتاز. لعل أكبر حقيقة يجب أن نواجهها ونحن في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين أنه يمكن لأبنائنا أن يؤموا المؤسسات التعليمية بمختلف مراحلها وأنواعها لفترة قد تصل إلى سبعة عشر عاما أو أكثر ليتخرجوا بتعلم رديء أو متوسط وبنقائص عدة في نسيجهم المعرفي وفي المهارات التي يجب اكتسابها والتي فشلوا في اكتسابها في القسم وفي الدروس الخصوصية. لقد أطلقت الولاياتالمتحدة صيحة فزع سنة 1983 للمستوى المتدني الذي وصل إليه الطالب الأمريكي آنذاك في تقرير شهير كان عنوانه أمة في خطر. وقد استهل التقرير بجملة شهيرة مفادها أنه لو فعل أناس آخرون بالأمريكيين ما فعلوه بأنفسهم في مجال التربية لاعتبروه إعلان حرب. وتلت هذا التقرير عدة سياسات إصلاحية نجح بعضها وفشل البعض الآخر. لعل ما يجب أن نبدأ به في تونسنا العزيزة هو أن نقر بأننا نواجه عدة مظاهر للتعلم الرديء يجب أن نقف لها كلنا بالمرصاد وأن نعي أنه يجب أن ندخل مرحلة جديدة لا نضمن فيها النجاح لكل طالب بل نضمن فيها جودة التعليم والتعلم لكل تونسي وتونسية مهما كلفنا ذلك من جهد ومال ووقت. (*) كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس