تلاوة القرآن على مدار الساعة وعلى امتداد السنة بجامع عقبة بادرنا بردّ الاعتبار الى الدين الإسلامي إيمانا منّا بأنه جوهر حضارتنا وقوام حياتنا «بسم الله الرحمان الرحيم معالي الدكتور عبد العزيز التويجري المدير العام للمنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة «ايسيسكو» معالي السيد الحبيب بن يحيي الامين العام لاتحاد المغرب العربي اصحاب المعالي والسعادة والفضيلة ضيوفنا الكرام حضرات السادة والسيدات افتتح اليوم على بركة الله برامج الاحتفال بالقيروان عاصمة للثقافة الاسلامية لسنة 1430 للهجرة الموافقة لسنة 2009 للميلاد متوجها بالشكر الجزيل الى السادة ممثلي المنظمات الثقافية الاقليمية والسادة ممثلي المنظمات العلمية الاسلامية وكذلك الى اصحاب المعالي والسعادة والفضيلة والعلماء والمفكرين من البلدان الشقيقة والصديقة الذين لبوا دعوتنا لمشاركتنا هذا الحفل المتميز تقديرا منهم لبلادنا ولما تحظى به مدينة القيروان من منزلة رفيعة في قلوب المسلمين خاصة وفي تاريخ الثقافة الانسانية عامة. فاهلا وسهلا بالجميع ومرحبا واتوجه بالشكر الى اهالي القيروان ونخبها الادارية والثقافية على الجهود التي بذلوها لاحتضان هذه التظاهرة الكبرى والترحيب بضيوفهم بافضل ما عرفوا به من حسن الاستقبال وكرم الوفادة. كما اشيد بالتعاون المحمود القائم بين تونس والمنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة (ايسيسكو) مثنيا على الجهاز التنفيذي لهذه المنظمة وعلى مديرها العام الدكتور عبد العزيز التويجري لحرصهم على ابراز المساهمات الثقافية والحضارية لمدن اسلامية كان لها دور نشيط وحاسم في نشر ديننا الحنيف وترسيخ قيمه وتوسيع اشعاعه ومن اشهر هذه المدن مدينة القيروان. فما ان اسس عقبة بن نافع مدينة القيروان سنة 50 للهجرة الموافقة لسنة 670 للميلاد وقد حل معه بافريقية خمسة وعشرون من اجلة الصحابة ومجموعة فاضلة من كبار المهاجرين والانصار والتابعين حتى اصبحت القيروان بوجود هؤلاء كافة مدينة مخصوصة بالشرف. فالقيروان ارض منازل اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهي الارض التي تحتضن قبر ابي زمعة البلوي صاحب الرسول الاكرم وممن بايعوه تحت «الشجرة» وهي اقدم قاعدة للاسلام والمسلمين ببلدان المغرب. وهي رابعة المدن الاسلامية المقدسة مكة والمدينة وبيت المقدس وهي التي دعا عقبة بن نافع عند تاسيسها «بأن يملأها الله علما وفقها ويعز بها الاسلام والمسلمين الى اخر الدهر». وفعلا من القيروان انطلقت الفتوحات نحو المغرب والاندلس وصقلية وجنوب الصحراء.. وفي القيروان تاسست اكبر مدرسة فقهية لمذهب مالك تشيع الاعتدال والوسطية وترفض الغلو والشبهات وتتجنب اسباب الخلاف والفتنة. وفي القيروان نشات ارقى المدارس الفقهية والادبية والتربوية والطبية ودارت بها اثرى المناظرات والمساجلات الفكرية وراجت فيها اشهر كتب الطبقات والتراجم والمناقب.. وفي القيروان ساد التعايش والوئام وحرية المعتقد بين المسلمين وابناء الديانات الاخرى من اهل الكتاب. وفي القيروان تميز الرواد والاعلام في كل الاختصاصات بتكريس الحوار والتكامل مع غيرهم فاقتبسوا وابتكروا ونبغوا وتالقوا وكانوا حلقة وصل امينة ومتينة بين المشرق والمغرب. وفي بلدة رقادة من احواز القيروان اسس الامير الاغلبي ابراهيم ابن احمد سنة 264 للهجرة الموافقة لسنة 878 للميلاد «بيت الحكمة» اسوة ببيت الحكمة البغدادي الذي اسسه الخليفة المامون. فجلب ابراهيم الثاني الى «بيت الحكمة» الاغلبي امهر الاطباء والفلكيين والعلماء والمترجمين كما جلب اليه نفائس الكتب من مختلف اللغات. ومن القيروان عاصمة الاغالبة ثم عاصمة بني زيري سطعت اسماء مرجعية مشعة في الفقه امثال اسد بن الفرات وسحنون بن سعيد وعبد الله بن ابي زيدي. وفي الادب امثال عبد الكريم النهشلي وابراهيم الحصري وعلي الحصري وابن شرف وابن رشيق.. وفي الطب امثال اسحاق بن عمران واحمد بن الجزار وزياد بن خلفون. وفي القيروان ساد احترام حقوق المراة في العلاقات الزوجية من خلال ما عرف «بالصداق القيرواني» وشاعت العناية بتعليم البنت كما فعل اسد بن الفرات مع ابنته اسماء والامام سحنون مع ابنته خديجة حتي اشتهرت هاتان البنتان برواية الحديث والفقه وحذق اللغة العربية وعرفت ايضا الاميرة مهرية الاغلبية بعمق الثقافة ونظم الشعر. وقد ازدهرت المدرسة التربوية والتعليمية القيروانية بظهور مؤلفات شهيرة اختصت بهذا الجانب امثال «اداب المعلمين» لمحمد بن سحنون و«سياسة الصبيان وتدبيرهم» لابن الجزار و«الرسالة المفصلة لاحوال المتعلمين واحكام المعلمين والمتعلمين لابي الحسن القابسي. وصارت القيروان كذلك مركز عبور اساسي ونشيط تنتهي اليها المسالك وتتفرق منها الطرق الى المشرق والمغرب وجنوب الصحراء.. تعج بالمساجد والدواوين والاسواق والصناعات وتشهد تطورا عمرانيا بالغ القيمة لاسيما على مستوى بناء الحصون والجسور والمواجل والفسقيات واقامة المؤسسات وتشييد الرباطات. وكان وعي العرب بقيمة الماء في اعمار المدن قد دفعهم الى بناء عديد السقايات والاسبلة داخل الاحياء السكنية وفي المؤسسات الدينية والاجتماعية ابرزها فسقية الاغالبة التي تقوم اليوم دليلا قويا علي مدى تقدم تقنيات الهندسة المعمارية بالمغرب الاسلامي. اما المسجد الجامع بالقيروان او«جامع عقبة» المبارك الذى نحن اليوم في رحابه فقد كان اول معلم اختطه عقبة بن نافع عند تاسيس القيروان. وهو يحتوى على عناصر معمارية محكمة الصنع لاقت انتشارا واسعا مشرقا ومغربا لبساطتها واناقتها لاسيما في المئذنة الفريدة من نوعها في العالم الاسلامي الى جانب المنبر الذى يعد من اقدم المنابر المعروفة في الاسلام واشدها ابداعا واكثرها شهرة. وقد اخترنا ان تتزامن التظاهرات الثقافية للقيروان مع ليلة المولد النبوى الشريف تعظيما للنبي الاكرم وتكريسا لهذه السنة الحميدة التي داب اهل القيروان على الاحتفال بها منذ عهد بعيد حيث يستعرضون السيرة النبوية ويستخلصون منها العبرة والحكمة. كما اخترنا ان نفتتح التظاهرات الخاصة بالقيروان انطلاقا من هذه المؤسسة الدينية والتعليمية والعلمية الكبرى التي كانت تزدحم علي مر الازمان بحلقات المقرئين والفقهاء والمحدثين واللغويين والعلماء وتنشر انوار الايمان والمعرفة على الطلاب من سائر الامصار والاصقاع. واذا كانت القيروان قد ظلت خمسة قرون عامرة مزدهرة ومبدعة شعة فانها ابتليت في بعض الفترات بالاضطرابات والمحن التي اخلت باستقرارها واعاقت نشاطها لاسيما اثر زحف بني هلال عليها في القرن الخامس الهجري الموافق للقرن الحادي عشر الميلادي. لكن القيروان كان لها من قوة الشخصية وثراء التاريخ ما مكنها في فترات الضعف والتراجع من الصمود في وجه موجات الاضطراب الداخلي والغزو الخارجي ومن استعادة زمام المبادرة للتجدد الذاتي مع كل مرحلة دون قطيعة مع هويتها او تنكر لجذورها. وما تزال هذه السمات نفسها ثابتة في تقاليدنا الاجتماعية واختياراتنا السياسية اذ اننا حرصنا على ان تبقى الروح الاسلامية في هذه الربوع راسخة ومترابطة الحلقات على مر العصور منذ عهد عقبة بن نافع الي عهدنا هذا الذي نتشرف فيه باحياء علوم الدين ومعالم الايمان. وما احتفالنا هذه السنة بالقيروان عاصمة للثقافة الاسلامية الا دليل علي سعينا المتواصل من اجل ربط الماضي بالحاضر والعمل على ان تبقى شخصية تونس الدينية والثقافية حصينة صامدة وحية متجددة طبقا لما نص عليه الفصل الاول من الدستور تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة الاسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها. وعملنا من ناحية اخرى على الاعتناء بتراثنا الفكري والمادي بكل مكوناته لاعتقادنا ان الابداع الفردي والجماعي هو افضل تعبير عن الهوية الوطنية. فلنا اليوم سبعة مواقع ثقافية مسجلة ضمن قائمة التراث العالمي في مقدمتها مدينة القيروان. كما لنا اكثر من 35 متحفا عموميا وخاصا موزعة على مختلف انحاء الجمهورية تجمع تراثا حضاريا تليدا يخلد ما تزخر به هذه البلاد من ماثر وابداعات على مدى ثلاثة الاف سنة. وأنشأنا دعما لهذه المؤسسات «المعهد الوطني للتراث» و«وكالة احياء التراث والتنمية الثقافية» واصدرنا «مجلة حماية التراث الاثري والتاريخي والفنون التقليدية» وذلك للمحافظة على معالمنا التاريخية وثقافتنا الشعبية واحكام التصرف فيها وتوظيفها لخدمة السياحة الوطنية. وكنا بادرنا منذ التغيير سنة 1987 بحماية ثقافتنا من كل اشكال التغريب والتشويه ومن طغيان السوق واخطار الانتاج المنمّط. وثابرنا علي التمسك بقيمنا وخصوصياتنا ورعاية مبدعينا وتشجيعهم وتنشيط التبادل والتكامل مع الثقافات الاجنبية. كما بادرنا برد الاعتبار الى الدين الاسلامي ايمانا منا بان ديننا الحنيف هو جوهر حضارتنا وقوام حياتنا. وقد عملنا على رعايته واحياء شعائره واتباع تعالميه. واتخذنا في سبيل ذلك مجموعة من الاجراءات العملية منها تاسيس «مركز الدراسات الاسلامية بالقيروان» وتحويل الكلية الزيتونية للشريعة واصول الدين الى «جامعة زيتونية» متكاملة الاختصاصات والمناهج وانشاء وزارة للشؤون الدينية وبعث «كرسي جامعي لحوار الحضارات والاديان» ونشر الفكر الاجتهادي المستنير والارتقاء بالخطاب الديني في وسائل الاعلام وتنظيم عدة ندوات اقليمية ودولية مع المنظمات الدولية المختصة حول الحوار بين الحضارات والثقافات والاديان لاسيما وان بلادنا كانت طوال تاريخها المجيد ارض تسامح وسلام ووئام تعمل على اشاعة هذه القيم في علاقاتها مع الامم التي التقت بها او تمازجت معها. ووجهنا عنايتنا كذلك الى المعالم الدينية من الجوامع والمساجد فازداد عددها من 2390 سنة 1987 الى 4550 سنة 2008 وعززنا هذا التوجه بالاهتمام بالقران الكريم اذ اذنا بطبع مصحف الجمهورية التونسية لاول مرة في تاريخ بلادنا ونظمنا مسابقات سنوية في تلاوة القرآن وحفظه على المستويات الجهوية والوطنية والدولية واذنا ببعث اذاعة الزيتونة للقرآن الكريم وأحدثنا جائزة رئيس الجمهورية العالمية للدراسات الاسلامية. وتواصلا مع ما كنا اذنا به في ما يخصّ تلاوة القران الكريم على مدار الساعة وعلى امتداد السنة بجامع الزيتونة المعمور بالعاصمة ناذن بهذه المناسبة بان تمتد كذلك تلاوة القران الكريم على مدار الساعة وعلى امتداد السنة بجامع عقبة بن نافع حتى تبقى القيروان كما اراد لها مؤسسها «عزّا للاسلام الى اخر الدهر».ونحن دائما على العهد مع شعبنا في وفائه لهويته العربية الاسلامية وفي وعيه بحاضره ومواكبته لعصره وثقته بمستقبله وكذلك في حرصه على الجمع بين العلم والعمل لبلوغ اعلى مراتب التقدم والمناعة. حضرات السادة والسيدات اجدد لكم في الختام تحياتي الحارة واعتزازي الكبير بحضوركم في القيروان عاصمة للثقافة الاسلامية لسنة 1430 للهجرة الموافقة لسنة 2009 للميلاد راجيا ان تقضوا اوقاتا طيبة بيننا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».