نحتفل غدا بخمسينية إعلان الجمهورية في تونس يوم 25 جويلية 1957، ونستعيد من خلال هذه المناسبة العزيزة ذكرى تضحيات أجيال من المناضلين الأوفياء للوطن منذ أن وطئت أقدام المستعمر أرض تونس «الشهيدة» فأحيت في جميع أفراد الشعب جذوة الكفاح المقدّس في سبيل عزّة الوطن وكرامة الانسان وسيادة الشعب. وبالفعل، فإنّ إعلان الجمهورية في ذلك اليوم المشهود، في اجتماع المجلس القومي التأسيسي، كان إعلانا نهائيا لا رجعة فيه عن إرادة الاستقلال في القرار الوطني وتتويجا لمسيرة النضال من أجل استعادة الشعب التونسي سيادته وكرامته على أرضه. وما هذا الشعور العميق بالإنتماء إلى الوطن إلاّ تعبير صادق عن طبيعة الهوية التونسية المتينة والرّاسخة في أعماق التربة النضالية لشعب متأصّل ومتفتّح في آن واحد. كان هناك في ذلك اليوم التاريخي شعور عميق مشترك بين غالبية المناضلين الوطنيين بأنّ النظام الجمهوري هو «النظام الوحيد الذي يجب تنصيبه في هذه البلاد... إذ أنّ الشعب منذ قديم التاريخ يطالب ويكافح وينمو ويتقدّم نحو النظام الجمهوري». كان إعلان الجمهورية فكرة «في الهواء» كما قال البعض ولكنها فكرة تطلّبت إرادة سياسية وشجاعة تاريخية تحمّل مسؤوليتها عدد من قادة الحزب الحرّ الدستوري الجديد وعلى رأسهم الزعيم الحبيب بورقيبة. ولم يكن اختيار النظام الجمهوري آنذاك مفاجئا لكنّه كان مبنيّا على تمشّ سياسي وتشريعي طريف، إذ سبق إعلانُ النظام الجمهوري وضعَ الدستور في غرّة جوان 1959 الذي كان الهدفَ الأوّل من حركة البناء الحداثي منذ منتصف القرن التاسع عشر وكان كذلك المطلبَ الأوّل في حركة الكفاح الوطني ضدّ الاستعمار منذ عشرينات القرن الماضي. وهنا، علينا أن ننتبه إلى أهمّية هذا المسار التحديثي في إرساء دعائم النظام الجمهوري، إذ كانت هناك مرحلتان في تاريخ العلاقة بين التونسي والأوروبي المستعمر، مرحلة الصّدمة ومراجعة الذات التي تلتها مرحلة استكشاف مكامن القوّة في الداخل وردّ الفعل بكامل الثقة والطموح. وهو ما اضطلعت به نخبة مستنيرة عرفت كيف تواكب مسار الحداثة في العالم وفي نفس الوقت تتخطى العوائق الذاتية والموضوعية لطرح مشروع حداثي وطنيّ الأسس والأهداف. وقد ترادفت التصوّرات التحديثية منذ دعوات زعماء الإصلاح كخير الدّين باشا للاستفادة من التنظيمات السياسية والاقتصادية الأوروبية مع المحافظة على القيم الاجتماعية والثقافية الموروثة إلى بلورة تصوّرات أكثر جرأة جاءت لتقطع مع كثير من المعوّقات الذهنية والاجتماعية وخاصّة ما يتعلّق منها ببنى المجتمع ومواقع مختلف فئاته وخاصّة العمّال ودور المرأة وغيرها من القضايا التي أثارت حولها جدلا مفتوحا وتصادما بين الآراء والمواقف من مختلف التيارات الإيديولوجية بما مهّد الطريق أمام السلطة التشريعية الجديدة فجر الاستقلال لتخطّي العقبة النفسية المتبقّية وإعلان الجمهورية. وليس من باب الصّدفة أن سبق هذا الإعلانَ عددٌ من القرارات ذات الدلالات الكبرى وخاصّة منها إصدار مجلّة الأحول الشخصية في 13 أوت 1956. وعلى امتداد هذا المسار الطويل والمضني من النضال الفكري والسّياسي التحديثي، كان لفكرة الدستور التي تبلورت منذ عهد الأمان وحتى قيام الحزب الحرّ الدستوري (القديم) وبَعده الدور الرئيسي في دفع أحداث حركة الكفاح والمقاومة الشعبية نحو استعادة الشعب التونسي سيادته على أرضه وامتلاكه لمصيره من خلال المشاركة في الحكم والبناء، وهو ما توّجه الإعلان عن الجمهورية الذي حقّق أخيرا حلم أجيال من المناضلين التونسيين من كلّ الفئات والمناطق بدون استثناء وأعطى للتاريخ التونسي الحديث والمعاصر بل لمجمل التاريخ التونسي معنى راسخا وللهوية الوطنية عمقا استراتيجيا حقيقيا. وها نحن اليوم نشهد امتداد هذا العمق التاريخي للنظام الجمهوري وللدستور الضامن لمبادئه الأساسية من خلال التنقيحات الأخيرة التي أُدخلت عليه منذ فجر العهد الجديد إذ زادت المبادئَ التي قام عليها وضوحا وإحكاما بما يتلخّص في مفهوميْ السيادة الوطنية وسلطة الشعب، المرجع الأوّل للشرعية الدستورية، وهو ما حرص سيادة رئيس الجمهورية، زين العابدين بن علي، على التذكير به في كلّ المناسبات الوطنية. وهكذا أصبح إعلان الجمهورية في تونس في 25 جويلية 1957 معبّرا عن مسار التاريخ الوطني والإنساني عموما في اتجاه تكريس الديمقراطية وحقوق الإنسان والذّود عن سيادة الأوطان من خلال الحصانة الذاتية المبنية على سلطة القانون ودعم المؤسسات الدستورية، كما أنه مثّل من خلال تطوّراته اللاّحقة صورة مضيئة لكفاءة التونسيين، ومن خلالهم العرب المسلمين عموما، في بناء حداثتهم بأيديهم وإنجاز معالمها وفق طموحاتهم الذاتية المشروعة بكلّ اقتدار دون حاجة إلى وصاية خارجية أو فرض نموذج أوحد. وهذا رهان آخر على الإنسان وعلى المستقبل نجده أيضا منبثقا من روح النظام الجمهوري. مدير المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية