...إثبات الهويّة العربيّة الإسلاميّة كان هاجسا... وازداد اليوم حدّة بعد عودته من اليابان يستعد الأستاذ عبد الواحد براهم لإعادة إصدار كتابه "في بلاد كسرى" ومواصلة نشر الروايات التاريخية.. اليوم وقد أصبح بعض النقاد يشككون في قدرة الرواية بصفة عامة على المحافظة على دورها كوسيلة تعبير ونضال للنهوض بالمجتمعات وتثقيفها أو تحريرها من كل أنواع الاستعمار ويضعون موضع السؤال الرواية التاريخية بصفة خاصة حتى ان البعض من النقاد أصبحوا يعتقدون ان زمنها قد ولى وانتهى... اليوم وقد أصبح هذا النوع من الروايات يميل الى السكون فقلت نسبته الكمية في اغلب البلدان العربية خاصة وقد صدم محبّو هذا النوع الأدبي في انتماءات جرجي زيدان رائد كتابة الرواية التاريخية العربية لتعمده المغالطة والكتابة من منظور مشتبه به شوه فيه تاريخ العروبة والإسلام لغاية في نفس يعقوب. لهذا... ولأن الأستاذ عبد الواحد من بين أهم الأسماء التي كتبت الرواية التاريخية... وللاهتمام الذي خصه به الأستاذ الناقد محمود طرشونة في جزء من دراسة عنوانها" المشهد الروائي التونسي الآن " نشرت في موقع انانا قال فيه: "وقد فضل عبد الواحد ابراهم استلهام الماضي القريب لعلاقته بالراهن في إحدى رواياته واقتصر على الراهن في أخرى لكنه التجأ الى التراث والخيال في الثالثة وعمد الى نوع من التوثيق المتعلق بتاريخ الأندلس في الرابعة وهو في جميعها حاضر بوجدانه ورؤيته للعالم من حوله واشتغاله على بناء النصوص بطريقة تذّوب التاريخ". تحفزنا لنسأل هذا المبدع: أجرت الحوار: علياء بن نحيلة * عرفت الرواية التاريخية أوج تطوّرها في أربعينيات القرن الماضي، أما اليوم فإنها تميل إلى السكون. فإلى ماذا تحتاج الرواية التاريخية لتبعث من جديد في ثوب يتلاءم مع راهن البلدان العربية ؟ - أنا لا أميل إلى حصر علاقة الرواية بالتاريخ في إطار ما يسمى "الرواية التاريخية"، حتى أن البعض يعمّم ويقول: " لا بدّ لكل رواية أن تكون تاريخية، لكونها تعبّر عن رؤية تاريخية، وتحمل منظورا محدّدا حيال التاريخ". فياء النسبة في كلمة "تاريخية" لا تعني سوى أن الرواية " هي مقاربة للتاريخ، وليست رسما توضيحيا له، أو شرحا وتبريرا لإيديولوجيات العصور السابقة، إذ وفاء الكاتب وواجبه الأول ليس تجاه التاريخ، بل تجاه ما يعتبر أنه يملك معنى في ذلك التاريخ. لقد سئل الأديب الفرنسي بول كلوديل بعد كتابته رواية عن " كريستوف كولومب": "أين شخصية كولومب في النص الذي كتبت؟" فأجاب: "هي في كتب السيرة والتاريخ، أما همّي أنا ففي مكان آخر"... لقد ظهر هذا النوع الأدبي منذ أوائل القرن الماضي مع جرجي زيدان، ولم يمل إلى السكون، ولكن نسبته الكميّة كانت - في كل الحقب - أقلّ من الإبداعات الأخرى، دون أن تكون أقلّ قيمة منها. ويؤيّد هذا الّرأي الروائي والناقد المصري إدوارد الخراط بقوله أنّ الرواية التي تستمدّ عناصرها من التاريخ أو الأسطورة تمثّل الاتّجاه الأكثر ثراء في مستوى البشارة والوعد، ويذكر دليلا على ذلك أعمال جمال الغيطاني، وعبد الحكيم قاسم، وبهاء طاهر، ومن جهتنا نضيف أسماء ربيع جابر من لبنان، وبنسالم حمّيش من المغرب، وخيري الذّهبي من سوريا، وواسيني الأعرج من الجزائر، والبشير خريّف وحسنين بن عمّو، والمنوبي زيّود من تونس. والرواية التاريخية صارت مدعومة حاليا من طرف النقّاد والقرّاء والجوائز الممنوحة لها من هيئات علمية واجتماعية، نذكر هنا فوز رواية " العلاّمة " بجائزة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، و"كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد" بجائزة مؤسسة دبي، وروايتي "قبّة آخر الزمان" بجائزة المدينة. وليس المطلوب منها أن تبعث من جديد، وإنما أن تحافظ على ولائها للمقاييس الفنيّة أكثر من ولائها للتاريخ ،بأن تعتبر واجبها فنّيا أولا وأخيرا، وليس علميّا، جاعلة علاقتها بالتاريخ أفقيّة وليست عموديّة. الاتجاه في تونس صنف ضمن« قصص الحنين » * كتّاب الرواية التاريخية كان يقودهم الحسّ العربي الإسلامي، ثم ظهرت الكتابات التي تمجّد العروبة، والتي تمجّد الفرعونية، وغيرها من السكّان الأصليين للبلدان العربية (بربر- قبائل...) فأين الرواية التاريخية التونسية من كل هذه التيارات؟ - لكل عصر منطقه واهتماماته الخاصّة، وبالتالي له إبداع يرشح بذلك المنطق وتلك الاهتمامات، فإذا استعار المبدع شخصية تاريخية فليس همّه تقديم تاريخها، وإنما تاريخه هو. لذا كان هاجس الكتابات الأولى هو إثبات الهويّة العربية الإسلامية، ولعله ما زال موضوعا قائما إلى الآن، بل ازداد حدّة أمام الهجمة الشرسة التي تتعرّض لها تلك الهويّة من الآخر القويّ المتسلّط. عرفنا هذا الاتّجاه في تونس منذ بداية القرن العشرين، وصنّف ضمن "قصص الحنين" كما ورد بقلم الأستاذ محمد صالح الجابري، ومبعثه هو الغيظ المكتوم على المستعمر و"حنين عميق إلى فترات التاريخ المنعشة، والتّسلّي بماضي الأجداد المزدهر، وإيحاء للهمم بأن تنهض من الكبوة، وتتمثّل التاريخ" ويضرب أمثلة لهذا النوع الأدبي بقصتين هما: "السهرة الأخيرة في غرناطة" لحسن حسني عبد الوهّاب (سنة 1905)، و"الهيفاء وسراج الليل" لصالح سويسي (سنة 1906)، أو لعلّه أيضا حنين الانتماء إلى الإمبراطورية العثمانية المتشرذمة، رغم بقائها الأمل الوهميّ للعالم الإسلامي، والمنقذ لها من الانقراض، ويمكن تمثّله بروايتين للأستاذ محمد الحبيب هما: "وطنيّة الأتراك" و"بسالة تركية" (سنة 1922)، وهذا دائما حسب رأي الأستاذ الجابري في كتابه "القصة التونسية: نشأتها وروّادها". * يعتقد البعض من النقّاد أن مرحلة كتابة الرواية التاريخية قد ولّت وانتهت. ماذا تقول وأنت من أوائل من كتبوا هذا النوع ومازلت تكتب فيه وتنوي اعادة طبع القديم الذي نفذ من السوق ؟ - أحيلك على كتاب الأستاذ محمد القاضي "الرواية والتاريخ" الصادر خلال العام الماضي، وفيه يقول: "إذا ما عدنا إلى التاريخ الذي أثبته جمال الغيطاني في آخر الزايني بركات للدّلالة على انتهائه من تحريرها وهو 1970-1971 انكشف لنا أن قرنا كاملا يفصل هذا النصّ عن أول رواية تاريخية في الأدب العربي الحديث وهي " زنوبيا " لسليم البستاني. أما "ثلاثية غرناطة " لرضوى عاشور فإن تاريخ صدورها بين سنتي 1995-1994 يدلّ على أن ربع قرن يفصلها عن الزايني بركات، مما يشي بتواصل الحاجة إلى هذا اللون من الإبداع، وبقدرته على الاستمرار، واستجابته لمتطلّبات التطوّر الفنّي والتحوّل الاجتماعي". وأنا من القائلين بهذا الرّأي. تكوين وعي راهن باستقراء الأحداث القديمة * ما هي أهمّ المرجعيّات التي اعتمدتها لصياغة المادّة التاريخية لروايتي "تغريبة أحمد الحجري" و"قبّة آخر الزّمان" مثلا؟ - إذا كانت الرواية التاريخية هي تخييل المرجعي، كما ينعتها الأستاذ محمد القاضي، فإن المادّة التاريخية المرجعيّة هي عنصر من جملة عناصر أخرى من بينها التخييل والوسائل الفنيّة المختلفة، تخلط وتصهر وتسهم جميعا في بناء الكون التخييلي للرّواية. فإذا دفعتني احتياجات حاضري وأسئلته وأزماته توغّلت في تاريخنا العربي الإسلامي أستحضر مفرداته الإنسانية وشخوصه، محاولا تكوين وعي راهن باستقراء الأحداث القديمة. فعند كتابتي رواية "بحر هادئ.. سماء زرقاء" ذهبت أسأله كيف تحدث اسكيزوفرينيا المثقّف، وكيف يتبنّى المناضل أخلاق المستعمر، وعن العظات التي لا تجلب انتباه أحد. وعند كتابتي "تغريبة أحمد الحجري" و"قبّة آخر الزمان ّ" طرحت على التاريخ الأسئلة الكبيرة التي واجهت الأمة العربية الإسلامية عند نكبة الأندلس واندثار الإمبراطورية العثمانية، وعدت إلى عصر الصراع الشرقي الغربي، وتنازع الدين والدولة على السلطة، وإلى صراع الحضارات. وفي " أصوات قرطاج " عدت إلى فترة الحروب البونيقية لأفضح التاريخ المكذوب الذي اصطنعته روما لتبرير هيمنتها الكونية وفرض نظامها العالمي على الجميع. لا مقعد لي ولا إطارا محددا: أنا أتطور * بدأت شاعرا ثم تحوّلت إلى القصّة، ثم إلى النقد في مجلة الفكر، ثم إلى الرواية، وهذا وإن كان في ظاهره يفيد تنوّع التجارب فهو في الحقيقة مغامرة، خاصّة إذا ما أخذنا في الاعتبار صعوبة المرحلة التي بدأت فيها تنشط إبداعيا.. - لم تحدث في حياتي الأدبية تحوّلات جذريّة، فقد جرّبت كل أنواع الكتابة مجتمعة، ما عدا الشعر فصلتي به تقف عند حدود القراءة والتذوّق. ولنقل أنني لم أكن في صفّ المتحذلقين والباحثين عن التصنيفات والانتماءات إلى هذا التيّار أو تلك المدرسة، فكلّما غامرت خرجت رابحا إضافة جديدة، وكلّما جرّبت نوعا أدبيا أثراني وطوّر أدواتي، ولذا تجدني غير ميّال إلى البحوث "الأجناسية"، ولا لمقولة أن فلانا "انتقل" إلى القصة بعد الرواية، أو إلى الرواية بعد القصّة. وعلى العكس من ذلك تجدني راضيا إذا ترك لي المجال لكتابة ما يعنّ لي بالأسلوب الذي يرضيني، دون أن يعيّن لي مقعدا خاصّا أو إطارا محدّدا، ويكفيني الإحساس بأنني حرّ، وأنني أتطوّر. لقد تغيّرت أشكال كتاباتي، وآخرها مسرحية شعرية بعنوان "أصوات قرطاج"،أشركت فيها معي الشاعر يوسف رزوقة، ولكنني لم أخرج عن الخط الجامع بين: عنصر القيم" الإتيك "وعنصر الفن" الإستتيك" الذي اتبعته منذ بداياتي، مجتازا كل الدروب التي سميت حسب الظّروف : إما ملتزمة (لأيّ مبدإ؟)، أو وطنية( أيام الكفاح)، أو أخلاقية، أو اجتماعية، أو تجريبية،إلى آخر التسميات. ولو سئلت : ماذا كنت أطلب من وراء ما أكتب؟ لكان جوابي: الدفاع عن حريّة الوطن والإنسان والدعوة إلى ترقية المجتمع، والمساهمة في تقريب الناس بالتلاقي والحوار. أفعل هذا لإحساسي بأنني في الجانب المهزوم والمقهور من العالم، وبأن هذا الحال يجب أن يزول. * أنت محبّ للرحلات، وقد عدت مؤخّرا من زيارة إلى اليابان أتاحت لك خوض تجربة حياتية فريدة اطلعت خلالها على أنماط ثقافية لم نعهدها في منطقتنا، فهل لك أن تحدّثنا عنها؟ - أول انطباع يحصل لك وأنت تزور اليابان هو الأدب الجمّ العفوي تراه في سلوك الجميع، فكأنه متأصّل في ثقافة القوم أو جزء من تكوينهم الطبيعي. يبدأ الأمر في المطار مع الشرطيّ الذي يعيد لك الجواز بانحناء، ومع سائق التاكسي الذي يفتح لك الباب وينحني أكثر من مرّة، ولا يني طول الطريق يعتذر عمّا أضاع من وقتك بسبب زحمة المرور. ويستمرّ الأمر على نفس الشاكلة في الفندق والمطعم، وحتى مع أيّ عابر تسأله عن شارع أو عنوان. لاحظت أيضا كثرة اهتمام أهل اليابان بالتفاصيل في كل شأن : في المصعد الذي ينبّهك قبل التوقّف، في المترو حيث يكتب على الرصيف مكان وقوف عربتك بالضبط، في دقّة مواعيد القطار أو الطّائرة وحسابها بالثانية، في آلة الغسل الآلي بكرسي المرحاض، في الرايات البيضاء يحملها التلاميذ عند اجتيازهم الطريق إلى آخر ما هناك. للشعب الياباني ولع بالعمل يبذل فيه أقصى ما يمكن أن يبذله إنسان، وبذلك أوصل بلاده إلى مصافّ الأمم الراقية، بل إلى صفّ الأمة الأرقى، ومع ذلك فلديه إحساس بالغبن لأن قبضة الاحتلال الأمريكي ما زالت تمسك بمقاديره وتقنّن اختياراته، هذا إلى جانب إحساس بخيبة الظنّ من جهة الأجوار (الصين وكوريا بالخصوص) الذين يواصلون الشكوى من أضرار الحرب واستعمار اليابان لهم، متجاهلين التعويضات المجزية التي نالوها، ومتناسين فضل اليابان ومساعدته في ما ينعمون به اليوم من تقدّم. إن الطفرة الاقتصادية والصناعية في اليابان شبه أسطورية لخّص لنا أحد المختصين عناصرها - ونحن نزور مؤسسة متسوبيشي - في النقاط التالية: 1- رأس مال بشري هامّ كمّا وكيفا، 2- تعاون قويّ بين الحكومة والمؤسسات الخاصّة، 3- إنتاج مركّز على التّصدير، 4- ثقافة عمل ممتازة قوامها الانضباط والمسؤولية واحترام الوقت، 5- امتلاك التكنولوجيا المتطوّرة، 6- ضعف الإهدار المالي في التسلّح. إنما التحدّي الأكبر هو استطاعة اليابان في ظرف عشرين سنة فقط (1970-1990) الاستيلاء على كامل السوق الأمريكية في ميدان الإلكترونيات، وعلى 65 بالمائة من سوق التكنولوجيا العالمية. ويظهر أنه لا ينوي التوقّف عند هذا الحدّ، إذ تجاوز اليابان اليوم الولاياتالمتحدة في الإنفاق على البحوث التطويرية بترفيع عدد العاملين في البحوث والاختراعات (الذين صاروا 9 باحثين على كل ألف عامل)، وبتوظيف ما قدره 2.97 بالمائة من المنتوج الدّاخلي الخام للإكثار من تلك البحوث. رسائل دكتوراه يابانية عن تطور التعليم الزيتوني.. وأخرى عن علاقة الدولة بالزوايا ومشائخ الطرق في نهاية الزيارة نظّمت لي الصديقة المستعربة "أونو هيتومي" زيارة إلى حي "جيمبوشو" المملوء بالمكتبات، وبعضها بخمس طوابق، فيها كل ما تتصور من كتب جيء بها من أصقاع الأرض وترجمت للقارئ الياباني. تلا ذلك اجتماع بطلبة جامعة صوفيا الدارسين للعلوم العربية والإسلامية، وقد تمّ ذلك في قاعة درس مجهّزة بالآلات السمعية البصرية، رتّبت في ركن منها لوازم غداء جاهز وشاي ساخن، ففهمت أن الجو سيكون منطلقا وعفويا مغايرا لجو المحاضرات والدروس. قدّمني مدير المعهد مرحّبا، فتحدّث عن تونس التي يعرفها، ثم عرّفني بالطّلبة وكانوا من درجات علمية مختلفة، وبعضهم يعدّون رسائل دكتوراه في مواضيع مخصوصة جدّا، تعجّبت من اهتمام مثلهم بها، خاصة وهم من صغار السنّ، وكانت بعض عناوينها: التأثيرات السلبية والإيجابية للسياحة في المجتمع التونسي - الخصائص السلوكية والثقافية للجيل الثاني من المهاجرين الجزائريين بفرنسا - تطوّر التعليم الزيتوني ما بين 1930 ونهاية القرن العشرين - علاقة الدولة بالزّوايا ومشائخ الطّرق في تونس. وقد استوضحوني عن نقاط تتعلق بأعمالهم، وعن مناخ تونس الاجتماعي والثقافي، فأجبت بما أعلم. ولما أعطيت الكلمة ألقيت كلمة تعريفية بتونس وبأعمالي الأدبية عنوانها: "هذا بلدي، هذا أنا" مدعّما كلامي بصور ضوئية. بدأت بتعيين موقع تونس على الخريطة وفي التاريخ، ذاكرا ما يتميّز به شعبها من تنوّع وحيويّة، بسبب اعتدال البلاد المناخي وانفتاحها على البحر الأبيض المتوسط الذي شاهدت شواطئه نشوء حضارات عديدة. وختمت بالقول إن تونس اليوم هي بلد نام معتدل، وسطيّ الاختيارات، يغار على استقلالية قراره، ويحرص أن يبقى دائما ذلك البلد الذي يحلو العيش فيه. ثم تحدّثت عن الحركة الأدبية والثقافية في بلادنا عموما، وعن تجربتي الأدبية خصوصا ،التي حاولت بواسطتها الإجابة عن أسئلة الحاضر وإشكالياته، باستلهام وقائع تاريخية معيّنة، لإبراز ما في أحداثها ومدلولاتها من تطابق مع أحداث عصرنا، كالتمييز العنصري، والتعصّب الديني، وصراع الحضارات، والتهجير القسري، وهي مشاكل شبيهة بأخرى حدثت في التاريخ. مسيرة توقفت بسرعة وسط لامبالاة عامة * لقد شغلت عدة مناصب صلب وزارة الثقافة والألكسو ودور النشر، هل بقي لديك ما لم تتمكّن من تنفيذه، أو التراجع عنه، خصوصا بعد ما آلت إليه ظروف النشر والتوزيع في بلادنا؟ - لقد ازدهرت حركة النشر وراجت سوق الكتاب في أوائل الثمانينات فانتعش في نفسي طموح قديم هو إنشاء دار نشر، وكان من القوّة بحيث دفعني إلى مجازفة غير محمودة العواقب. من ذلك إلحاحي الشديد على نيل التقاعد المبكّر حتى بالتنازل عن منح المباشرة لرتبتي في الوظيفة، وارتميت بما أملك من جهد ومال في مغامرة تشعّبت مسالكها في ظرف سنوات قليلة، واشتملت على إنشاء " مكتب المنشورات الجامعية "، قبل أن يبعث ديوان النشر الجامعي، و" شركة تصدير الكتاب التونسي "قبل أن يبدأ اهتمام الدولة به، وطباعة "الفهرس التحليلي للكتاب التونسي" وهو عمل غير مسبوق، و"رئاسة اتحاد الناشرين" الذي حاولت إدماجه ضمن الغرف الثقافية المسنودة والمسموعة الصوت، و"مكتبة جامعية " بشارع 9 أفريل، إضافة إلى حضور ما لا يقلّ عن عشرة معارض كتب سنويّا في المشرق والمغرب، كل ذلك بجهد رجل واحد، وفي وقت متقارب. لكنني لم أتمكّن من مواصلة ما بدأت لأسباب عديدة. المهمّ أن المسيرة توقّفت بسرعة وسط لامبالاة عامة. واليوم قد ألتقي بعض الأصدقاء الناشرين والموزعين فيشتكون إليّ من ضيق حالهم وكساد سوقهم، وقد يهنئونني لأنني انسحبت من الميدان في الوقت المناسب، عندئذ أتردد بين الشعور بالفرح وبين الأسى والحسرة. * والآن وقد تفرّغت للكتابة، فما هي مشاريعك الجديدة، ولمن ستتوجّه بها؟ - أنا متفرّغ للكتابة، ولكن للقراءة أيضا ،فهناك كتب كثيرة فاتتني قراءتها، وأخرى أشتاق إلى العودة إليها حينا بعد حين ولا أشبع. ومن مشاريع العام الحالي إصدار طبعة جديدة منقّحة ومحيّنة ومتغيّرة العنوان من كتاب "في بلاد كسرى" الذي صار بعد زوال الملكية وذهاب كسرى: "من فارس إلى إيران". وكأني بهذا العام سيخصّص لأدب الرّحلات، إذ سأدفع قريبا إلى المطبعة بكتاب عن رحلاتي إلى مدن عديدة - شرقية وغربية - أنصتّ إلى نبضها وتفاعلت مع ثقافاتها، ورويت تلك السياحة الثقافية لمن يريد أن يطّلع ويعرف، قدوتي في ذلك محمد بيرم الخامس صاحب " صفوة الاعتبار" الذي يقول: "رأيت بعيني البصر والبصيرة أمورا عجيبة خطيرة، أحببت نظمها في عجالة حفظا لها من الإهمال، وتطفّلا على منح العلماء أولي الكمال".