المتتبع للشأن التركي منذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يلاحظ خروجا تركيّا عن المألوف، إذ بعد أن كانت طيلة عقود - خصوصا أثناء الحرب الباردة- أحد أبرز حصون الحلف الأطلسي في مواجهة حلف فرصوفيا ركزت أنقرة بعد انهيار المعسكر الشيوعي وانطلاق عملية توسيع الاتحاد الأوروبي شرقا على عضوية كاملة بالاتحاد وهو حلم طالما راود الزعماء الأتراك في الماضي تحديدا بعد فشل الرئيس الراحل ترغوت أوزال في إعادة إحياء الفكر الطوراني عبر إقامة كتلة للبلدان الناطقة بالتركية معولا على استقلال البلدان السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى. فبعد كل ما قام به رئيس الوزراء التركي أردوغان لوقف العدوان على غزة ووقف وساطته بين إسرائيل وسوريا وانسحابه من منتدى دافوس احتجاجا على عدم تمكينه من مواصلة رده على الرئيس الإسرائيلي جاءت القمة الأطلسية لتؤكد النمط التركي الجديد في التعاطي مع الشؤون الدولية بما يعطي تركيا وجودا فعليا وثقلا ووزنا على ساحة دولية طالما جعلت موازين القوى منها طرفا تابعا أكثر منه فاعلا. ويبدو خلال القمة الأطلسية الحالية أن تركيا قد ترفع الفيتو في وجه رئيس الوزراء الدانماركي المرشح لمنصب الأمين العام للحلف بسبب موقف الدانمارك من الرسوم المسيئة للرسول ورفض رئيس الوزراء وقف بث محطة تلفزية مؤيدة لحزب العمال الكردستاني بدعوى تشجيعها على الإرهاب وبالتالي يدخل أردوغان في مواجهة مع جانب كبير من دول الحلف وفي حالة كسبها يكون قد جعل من تركيا بحق بلدا له وزنه وكلمته. وقد يجد أردوغان في شعبيته المتنامية داخل تركيا بفضل مواقفه من العدوان على غزة وهو ما ترجمه الاستقبال الشعبي الكبير والنادر لرئيس وزراء تركي عند عودته من دافوس خير حافز له على مواصلة فرض نفسه كمخاطب له كلمته في أوروبا ثم حتى فيما يتعلق بقضايا المنطقة العربية . ولا شك أن النتائج الإيجابية التي حققها حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان في الانتخابات البلدية الأخيرة تشكل خير دافع له بما يعنيه هذا الفوز من تواصل سيطرة الحزب على الساحة السياسية التركية رغم ان اردوغان لم يكن راضيا على نتائج تلك الانتخابات ومع ذلك رأى أنه يجب ان تعتبر "تصويتا جديدا على الثقة بحزب العدالة والتنمية". ومن هذا المنطلق يمكن القول أن تركيا في عهد حكومة أردوغان شهدت استقرارا سياسيا وانفراجا داخليا خصوصا فيما يتعلق بملف الأكراد إذ رغم الغارات التي شنها الطيران الحربي التركي حتى على مواقع قوات حزب العمال الكردستاني شمال العراق فإن عدة قرارات تركية كانت لفائدة الأكراد خصوصا إنشاء قناة حكومية ناطقة باللغة الكردية وهو ما يعني في جانب منه اعترافا بالهوية الكردية. إن مسألة انتخاب رئيس جديد للحلف الأطلسي ستكون بالتأكيد أصعب امتحان لأردوغان وفي حالة نجاحه في قطع الطريق أمام المرشح الدانماركي سيكون " الفيتو" التركي إيذانا بدخول تركيا نادي البلدان المؤثرة بما يتيح للبلدان الصغيرة الأعضاء في الحلف إسماع صوتها وفرض وجودها وبما يمثله من شريك للعالم العربي ولعب دور الوسيط في حل جملة من القضايا المعلقة.