تتكثف الدعوات من داخل الولاياتالمتحدةالامريكية ومن خارجها للتحقيق في الاخطاء والتجاوزات المتعددة والمتنوعة التي إرتكبتها الحكومة الامريكية السابقة تحت قيادة بوش الابن. وتجد حكومة الرئيس الحالي باراك اوباما نفسها في حرج متزايد أو هي مدفوعة من يوم إلى آخر بأكثر حدة واصرار من جهات متعددة لفتح تحقيقات رسمية حول تلك التجاوزات ومع المسؤولين عنها وبالخصوص الرئيس السابق بوش الابن ونائبه ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد وفريقه في وزارة الدفاع الذي خطط لغزو العراق والحرب في أفغانستان وخلق حالة من الفوضى في الشرق الاوسط بهدف إحداث تغييرات وتحولات سياسية وجغرافية واجتماعية وثقافية في المنطقة. وتتزامن هذه المستجدات مع تصاعد أصوات المفكرين ورجال القانون والسياسة والاقتصاد في أمريكا للتحذير من حدّة الازمة الاقتصادية التي توشك أن تنزع عن أمريكا ريادتها للعالم في أغلب المجالات وخاصّة في ما يتعلق بهيبتها التي فقدتها بسبب الاكاذيب والاقدام على أعمال لا انسانية منافية لحقوق الانسان وللشرعية الدولية وتقديم شعارات بالية من قبيل الحروب الصليبية والصراع بين قوى الخير وقوى الشرّ. وتتصاعد هذه الاصوات في الوقت الذي تمرّ فيه الذكرى السادسة لسقوط بغداد واحتلال العراق، وهي الذكرى التي تعود فيها للاذهان الصور البشعة التي خلّفها وتسبّب فيها ذلك الاحتلال الذي لم يشهد العالم أشنع منه في تاريخه المعاصر، وهي كذلك الذكرى التي يزداد فيها الاصرار على فتح التحقيقات وتتبع المتسببين في الجرائم التي ارتكبت خلال احتلال العراق طيلة هذه السنوات الستّة، وما نتج عنها حاليا من إلحاق أفدح الاضرار المعنوية والمادية التي أصابت أمريكا نفسها دولة وشعبا، ومن ظهور انخرام في توازن القوى الاقليمية مما يؤدي حاليا إلى توتّر في العلاقات وخاصّة بين دول منطقة الخليج والشرق الاوسط وايران، وبين الدول العربية واسرائيل وبين اسرائيل وايران، وهذه الحالة تشير إلى وجود نار تحت الرماد وهي بمثابة المقدّمات الدالة على حتمية المواجهة وخاصّة في ظلّ انتصاب الحكومة اليمينية المتطرفة في تل أبيب... وإذا كان من المستبعد جدّا أن يصل سوء التفاهم والخلافات بين ايران والعرب إلى حدّ المواجهة فإنّ الامر يختلف سواء بين العرب واسرائيل أو بين ايران واسرائيل، وتعدّ المواجهة بين ايران واسرائيل الاقرب إلى الاحتمال زمنيا وواقعيا، ليس فقط لتعطيل امتلاك ايران للتكنولوجيا النووية، بل وأيضا بسبب اقتراب النفوذ الايراني جغرافيا من حدود اسرائيل على أكثر من واجهة، وبواسطة أكثر من طرف واحد، مثلما كان الامر قبل احتلال العراق، فقد تغيّرت الاوضاع بعد سقوط بغداد ودخول الجيش الامريكي وسيطرته على هذا البلد واطلاق يده وأيادي العابثين والناهبين والناقمين على العرب والمسلمين والتاريخ العربي والمجد العربي، وكل ما يمت إلى العرب والاسلام بصلة،، فكان كل ذلك سببا مباشرا في توسّع نفوذ ايران الذي يتحوّل اليوم إلى هاجس خاصّة بالنسبة لاسرائيل... الاحتمال الاقرب اذن هو أن تقدم اسرائيل على ضرب مواقع الصناعة النووية في ايران، وسيكون ذلك من التبعات الثقيلة لاحتلال العراق وتفكيك مكوناته العرقية والدينية والمجتمعية بصفة عامة، فضلا عمّا يلحق العرب حاليا من تبعات لا تقلّ ثقلا ولا خطورة وهي تحلّ بهم في شكل حروب إبادية تشنّها اسرائيل، مستهدفة البشر والبنى التحتية والرموز الحضارية والمقدّسات، وذلك في إطار مؤامرة محكمة التنفيذ تتداول عليها القوى السياسية الاسرائيلية لا فرق في ذلك بين معتدل ومتشدّد، إذ أن جميعهم يشتركون في عنصريتهم وفي كراهيتهم للعرب ويؤدون نفس المهمّة والدور، وهو تعطيل عملية السلام والتداول على اعادتها إلى نقطة الصفر حكومة بعد أخرى على أسس تختلقها كلّ حكومة لنفسها وتضعها في شكل جديد أمام الطرف المقابل،، هكذا وصف القيادي الفلسطيني أحمد قريع (أبو علاء) الحالة الراهنة، مشيرا إلى ان القيادة الفلسطينية تعاملت مع ثماني حكومات اسرائيلية سابقة وكل حكومة كانت تضع برنامجا وشروطا جديدة وتبدأ التفاوض من نقطة الصفر، منتهيا إلى أن المفاوض الفلسطيني ثابت على مواقفه ولن يتنازل عن الثوابت وأن الشعب الفلسطيني لن يبقى تحت الاحتلال وان خيار المقاومة ما زال قائما ومفتوحا بكل أشكاله التي تكفلها القوانين الدولية والمفاوضات تظلّ وسيلة وليست غاية... وتعتبر هذه الرؤية الفلسطينية أحسن ما يلخّص الوضع الراهن بعد صعود حكومة المتطرف ناتنياهو، وفي ظلّ الانعكاسات التي تفرزها الاوضاع في منطقة الخليج والشرق الاوسط، وعلى خلفية الاحداث الراهنة والمتوقعة في المنطقة بسبب الانعكاسات الخطيرة لاحتلال العراق... حكومة الرئيس الامريكي الجديد باراك أوباما تريد أن تتناول هذا الوضع وتتعامل معه بنظرة جديدة تقطع مع النظرة الهوجاء القائمة على لغة القوّة وعقلية الهيمنة والنهب والنظرة الدونية للاخرين ودوافع الانتقام والكيل بمكيالين والانحياز الاعمى لاسرائيل، لكنها تصطدم في أول خطواتها على درب هذه السياسة الجديدة بحكومة أرادها الاسرائيليون أن تكون أكثر تشدّدا وعنصرية ودموية من سابقاتها للامعان في التنكيل بالشعب الفلسطيني وتركيعه واخضاعه للهيمنة الاسرائيلية ولتحقيق الاهداف الاستيطانية التوسعية والاحلام المزيفة للمتطرفين الدينيين اليهود... ولا تبدو نتيجة الصراع الذي يوشك على الاندلاع بين حكومة أوباما وحكومة ناتنياهو معروفة مسبقا رغم ما تملكه واشنطن من أوراق ضغط متعددة، إلاّ انه في ظلّ الازمة الاقتصادية المعقدة والتي تضغط بقوّة على توجهات السياسة الامريكية في الوقت الراهن، وفي ظلّ الاستراتيجية الجديدة التي تريد أن تتوخاها أمريكا لمواجهة الارهاب في باكستانوأفغانستان واعتزامها سحب قواتها من العراق، وفي ظلّ التوجه الامريكي نحو حلّ تفاوضي مع ايران بخصوص برنامجها النووي وتغيير أسلوب التعامل بصفة كلّية مع العالم الاسلامي، تصبح احتمالات التوافق ين السياسة الامريكية والسياسة الاسرائيلية ضئيلة ويتوقع أن تكون المواجهة بين السياستين ساخنة وأن يكون مسرحها الكنغرس الامريكي، أين ينتظر أن توجه اسرائيل واللوبي الصهيوني في أمريكا كل قواهما لاجبار أوباما على توخي اتجاه أقرب إلى سياسة حكومة بوش التي سبقته، وحتى لا يقع التراجع في هذه السياسة التي تريد اسرائيل أن تحافظ عليها كما هي إذا لم يكن في الامكان أن تتقدم بها الى الامام ومزيد تفعيلها وتطويرها في الاتجاه الذي يخدم مصلحتها ويدعم نظرتها القاصرة والمنقوصة للتسوية السلمية في المنطقة. ولا شك انه ليس أمام الفلسطينيين سوى توحيد صفوفهم لمجابهة هذا الوضع، وما قاله أحمد قريع هو عين الصواب وهو التوجه الذي لا يجب التفريط فيه فلا محيد عن الثوابت ولا تفريط في المقاومة المشروعة.. أما على المستوى العربي فقد حان الوقت للتقييم الموضوعي مهما كان قاسيا والاعتراف بالاخطاء واللامبالاة التي اتسمّت بها مواقف بعض الجهات العربية إزاء الغزو الامريكي للعراق وإزاء سياسة الغطرسة والهيمنة والاذلال التي أمعن بوش الابن في تطبيقها على منطقة الشرق الاوسط... وهذه المحاسبة والمصارحة يجب أن تؤدي بسرعة إلى فض الاشكالات القائمة في العلاقات مع ايران وإلى توحيد الموقف العربي لممارسة ضغوط فعالة على الاطراف الدولية بما في ذلك أمريكا حتى لا ترضخ لتوجهات الحكومة الاسرائيلية المتطرفة وهو ما دعا إليه الامير سعود الفيصل وزير خارجية المملكة العربية السعودية وحلّله بدقة وصراحة أمام نظيره البريطاني ديفيد ميليباند عندما أكد أنّ اسرائيل التي أحبطت حتى الان كل جهود السلام والتي أعلنت حكومتها الجديدة سياسات خطيرة لن تغيّر موقفها تلقائيا لذلك فإنه من الاهمية قيام المجتمع الدولي والولاياتالمتحدة على وجه الخصوص ببذل الجهود لحمل اسرائيل على الالتزام بقرارات الشرعية الدولية ومرجعيات عملية السلام بما في ذلك مبادرة السلام العربية... فالمطلوب اليوم إذن هو حضور عربي دائم على الساحة الدولية لممارسة الضغوط اللازمة على الاطراف الفاعلة والمؤثرة في عملية السلام والقادرة على كبح جماح التطرف والارهاب الاسرائيليين وحتى لا تبقى اسرائيل تصول وتجول بمفردها وتفرض ما تريد من السياسات والمواقف لصالحها وتمضي في تطبيق مخططاتها وأحلامها الاستعمارية والتوسعية متقدّمة من مرحلة إلى أخرى بشكل تصاعدي يخترق كلّ المحرّمات ويدوس على كافة الحقوق التي كان يعتقد خاصّة لدى العرب أنها لن تتجاوزها أو تتجرأ على خرقها فهي اليوم تبدأ بكل وقاحة في احتلال المسجد الاقصى كمرحلة أخيرة في عملية تهويد القدس التي يدخل من ضمنها كذلك طرد العرب أو اخر العرب من هذه المدينة المقدسة التي للمسلمين فيها تراث لا يمكن أن يفرطوا فيه وللفلسطينيين فيها حق تاريخي ثابت ومدعوم بقرارات الشرعية الدولية... المطلوب كذلك هو أن تقف انعكاسات إحتلال العراق الوخيمة عند هذا الحد من الخسائر الفادحة والانهيار الذي وصلت إليه الاوضاع العربية وأن تبدأ المعالجة بكل جرأة وبكل الوسائل المتاحة لكل المخلفات السيئة وكل الاشكاليات التي تمثل الان تهديدا للامن العربي وللمصلحة العربية المشتركة وللقضايا العربية المصيرية وأن ينزع العرب من أذهانهم المخاوف والممنوعات التي صنعتها سيناريوات الرعب والضغوطات وسياسة التهديد والترغيب وأن يتعاملوا مع اسرائيل على حقيقتها كدولة معادية للسلام... ولا مفر اليوم من إعادة الترميم وتدارك ذلك الاصطفاف وذلك الانسياق غير المحسوبين وراء سياسة أمريكية محمومة أضرّت كثيرا بالمصالح العربية وأنهكت العرب وأوهنت قواهم وعطّلت إرادتهم وجمدت طموحاتهم وقضاياهم المصيرية...