القوانين غير كافية للحد من الهجرة السرية.. طالما أن فرص العمل غير مقنعة.. تونس/الصباح: تعددت وتكثفت أخبار «قوارب الموت» في الآونة الأخيرة بما جعل ظاهرة «الحرقان» تطرح أكثر من تساؤل في الأوساط الاجتماعية.. اذ كيف يمكن لشاب أن يفكر في «الهجرة خلسة» من وطنه، وما الذي يجعل شابا في سن لا تتجاوز الخمس وعشرين عاما يلجأ الى مصارعة الأمواج بحثا عن فرصة عمل غير مضمونة؟ ما هي البنية الاجتماعية التي تساهم في «تكاثر» هذه النوعية من الشبان؟ وهل للعامل الاقتصادي دور في ذلك؟ وماذا غيّرت القوانين من هذه المعضلة؟ هذه الاسئلة وغيرها طرحتها «الصباح» على الباحث في علم الاجتماع والمتخصص في ملف الهجرة السرية، الدكتور مهدي مبروك، فكان هذا الحوار.. أجرى الحديث: صالح عطية المشهد المتكرر.. ** لا يكاد يمر شهر دون أن نفاجأ بمركب للحارقين يذهب بأرواح شبان تونسيين.. لماذا يتكرر هذا المشهد حسب رأيك؟ المشهد يتكرر لان الاسباب ماتزال قائمة.. والاحصائيات التي بحوزتنا تثبت ان البطالة مثلا تنخر بشكل اساسي الفئة العمرية التي تشكّل خزّانا مفترضا للمرشحين الى الهجرة السرية، اضافة الى الانقطاع المدرسي.. وغيرها من الاسباب «المادية» المباشرة.. بنية اجتماعية معقّدة.. ** ما هي البنية الاجتماعية التي «تفرّخ» المهاجر السري في تونس؟ وهل «للعامل الاقتصادي» دور في هذا المجال؟ (مقاطعا).. عموما البنية الاجتماعية التي «تفرّخ» المهاجر السري في البلدان العربية وخصوصا المغاربية على صلة وثيقة بعاملين اساسيين: الأول اقتصادي اجتماعي صرف تحدده البطالة والهشاشة الاجتماعية، اما الثاني فهو ثقافي مرتبط بالتدرج في الدراسة وآفاقها. واعتقادي ان هذه البنية الاجتماعية غير منغلقة على المحلي/الوطني، بقدرما هي بنية تشاهد «الخارج» بعد أن كانت تسمع عنه في حقبتي الستينات والسبعينات من القرن المنقضي.. لقد بات «الخارج» بالنسبة لهؤلاء الشبان غدا منظورا يثير الاعجاب والاحباط في نفس الوقت.. ولا شك أن تطور وسائل الاعلام، وخصوصا المرئية منها والمسموعة يجعل من هذا الخارج مثيرا بل مستفزا للرغبات الهجرية (les envies migratoires).. خلاصة القول ان العوامل الاقتصادية لا تشكل وحدها الخلفية لظهور مهاجرين سريين.. ومن ينكر العامل الاقتصادي واهميته في ظاهرة الهجرة السرية، يلغي نصف الحقيقة، ومن يقتصر عليه يلغي النصف الثاني منها.. أعطيك مثلا على ذلك: هل يمكن لابناء أرباب الاعمال أن يفكروا في الحرقان؟ بالتأكيد لا، على اعتبار ان وضعهم المادي وخيالهم لا يتيحان لهم حتى مجرد تخيّل الأمر. قوانين... وعقلية * الحكومة أقرت آليات ومشروعات وهياكل مختلفة ومكثفة لتوفير فرص عمل للشبان.. هل المشكل في بعض هذه الآليات أم في عقلية الشبان الذين يرغبون في ضمان مستقبلهم بأسرع وقت ممكن؟ لا أحد ينكر أن الحكومة اقرّت بعض الآليات والمشروعات من أجل خلق فرص عمل. ولكن كل هذه المحاولات تظل محدودة وذلك لعدة اسباب: السبب الاول يتعلق بالنسب المرتفعة للبطالة عموما، اذ تفيد الاحصائيات انها تراوح حدود 14% اما السبب الثاني فهو أن عالما واسعا يأوي داخله عشرات آلاف الشباب القاطنين بالوسط الريفي وحتى الوسط الحضري للجهات الداخلية. وهذا العالم هو الذي تنتدب منه الهجرة السرية مرشحيها.. عقلية الشباب بما هي جملة من السلوكات والمواقف والتصرّفات، ليست معزولة عما يجعلها تنشأ وتتشكل على هذا النحو.. ثمة من يقول بأن عقلية الشباب تتجه نحو التواكل ورفض فرص العمل، وهذا صحيح، لكن الخلفية الاساسية التي تؤدي الى هذا الرفض هو ان فرصة العمل المقدمة لا تشكل بالنسبة اليه عملا حقيقيا.. * ما هو مفهوم العمل لدى الشباب حينئذ، سيما وأنك كباحث في هذا الموضوع عايشت الكثير منهم وتحدثت اليهم؟ بالنسبة الى هؤلاء العمل المقدم اليهم ليس سوى بطالة مقنعة، تنخر جسده وروحه.. العمل الذي لا يعطيك مقابلا به تشبع حاجاتك المادية والنفسية والعاطفية في حدها الأدنى، لا يشكل بالنسبة «للحارقين» عملا ذا جدوى.. الكثير من هؤلاء الشبان يفكرون كالتالي: هناك من يعمل، اي يبذل جهدا أقل مما أبذل، ولكنه يتمتع بأجر أعلى وهناك من «لا يعمل»، اي من يبذل الحد الأدنى، ولديه مداخيل.. أنماط المهاجرين ** هل نحن أمام نوع واحد من المهاجرين السرّيين أم ازاء أنماط مختلفة من الهجرة السرية؟ لا يمكن أن نحشر الحارقين في ملمح واحد.. انهم انماط متعددة ولكن تصنيفهم يحتاج الى منطلقات ومحددات يجب اثارتها منذ البداية. فمثلا اذا اخذنا المستوى التعليمي سنجدهم ينقسمون الى 3 فئات على الاقل: فئة اولى تتشكل من ذوي المستوى التعليمي المحدود: شبه أمّيين او مرحلة تعليم ابتدائي (اساسي) غير مكتملة وفئة ثانية من ذوي مستوى تعليمي متوسط قد يكون من بينهم حتى من اجتاز اختبار الباكالوريا وفئة ثالثة تتكون ممن قضى بعض سنوات من التعليم العالي وقد نجد منهم حاملين للاجازة.. اما العمر فان ثلاث فئات تمثل امام الباحث: من هم قصّر بالمعنى القانوني اي من لم يتجاوز 18 سنة، وشباب يشكل الفئة الثانية والكهول بل وبعض من هم على عتبة الشيخوحة كما يمكن ان نصنفهم وفق مقاييس اخرى كالانتماء الى الوسط الحضري أو الوسط الريفي او بحسب معارفهم وتجاربهم ومحاولاتهم مبتدئون، متعودون، وذوو خبرة.. الخ.. تراجع مستبعد.. ** اذا كان العامل الاقتصادي او الفقر من الأسباب الرئيسية للهجرة السرية، فمعنى ذلك ان هذه الظاهرة ستستمر في المستقبل، طالما أن الاقطار المغاربية والعربية والافريقية خاصة تواجه مشكلات اقتصادية على خلفية تداعيات الازمة المالية العالمية؟ الظرف الاقتصادي العالمي الموسوم بتراجع الاستثمار وارتفاع نسب البطالة وتراجع الاستهلاك ستكون له انعكاسات على المستوى الاقليمي والوطني وهي انعكاسات ربما تكون ارتفاع نسب البطالة احدى تجلياتها لذلك لا أتوقع ان تتراجع ظاهرة الهجرة السرية في حوض البحر الأبيض المتوسط. المعطيات المتوفرة لدينا والتي استقيناها من وزارة الداخلية الايطالية ومنظمة CARITAS في تقريرها السنوي (2008) والمرصد الوطني الايطالي لضحايا الهجرة تفيد ارتفاع عدد المهاجرين السريين الموقوفين اثناء محاولاتهم الرسّو بالشواطئ الايطالية في حدود 34%.. لقد ظل عدد الموقوفين يراوح مكانه في حدود 4 آلاف في تونس سنويا، مع ازدياد طفيف خلال سنة 2007. المعبر الليبي الان هو الأكثر نشاطا خلال سنة 2007 وحدها، كان عدد الموقوفين من التونسيين في علاقة بالهجرة السرية، قد تجاوز 1600 موقوف بازدياد قدر ب15% عماكان عليه الأمر سنة 2006. مجازفة.. غريبة.. ** كيف تفسّر المجازفة والمخاطرة التي يقوم بها قسم من الشباب، وهو «يحرق» باتجاه لامبادوزا الايطالية؟ هذا الاصرار وتلك المجازفة بليغين ومحيرين في الآن نفسه.. بليغة لانها تسفّه من راهن على مجرد الردع الصارم فحسب.. كانت فرنسا تحلم منذ السبعينات من القرن الفارط بالدرجة الصفر من الهجرة ولكنها الان تعلم ان ذلك كان بعض من امنيات يمين سياسي مناهض للمهاجرين.. الحدود الآن اكثر قابلية للاختراق ولم تفلح القوانين الأكثر تعسفا والتقنيات الأكثر تطورا في رد الامواج البشرية النازحة نحو بلدان «الثروة».. قد يكون الثمن باهظا (أرواح البشر، ومآسي العائلات).. ولكن يحدث هذا الاختراق المتواصل للحدود بشكل يومي درامي احيانا.. اما الامر المحيّر فهو هذا الحرص على انجاز عملية الحرقان. لقد واكبت بعض العمليات التي تكاد تكون فرص النجاح منعدمة (ظاهريا) ومع ذلك يصر البعض على الذهاب الى اقاصي التجربة والمغامرة. اعتقد ان مفهوم الاحتمال والتوقع، او لنقل ادراكات هؤلاء الشباب لمثل هذه المسائل تختلف عما نحمله نحن من دلالات حول نفس المسائل.. لقد ذكرت في احدى المقالات العلمية المنشورة ان «تورّم المخيال» لدى هؤلاء من شأنه ان يشوّه الادراك. لدى هؤلاء الشباب «احتمالية» مقلوبة، دائما تظل نسب النجاح مرتفعة حتى ولو كانت كل المؤشرات عكس ذلك. ذاكرة هؤلاء انتقائية لا تحتفظ الا بحالات النجاح، الموت والغرق والجثث سرعان ما تُنسى، لذلك فان التعويل على التحسيس من خلال بث لقطات من هذا القبيل قد لا يفيد، اذا كان معزولا.. هذا الرأي بلغته حينما استشرت من قبل منظمة اممية مختصة في الهجرة تنوي عن قريب القيام بحملة اعلامية لثني الشباب عن الهجرة السرية.. توطين الأحلام.. ** الحارقون يتصورون جنتهم في «بلاد برّا»فكيف يمكن تغيير هذه الفكرة؟ الأمور نسبية. لا أحد يعتقد ان أوروبا جنّة مثالية. كان الأمر من هذا القبيل خلال السبعينات. الآن الأمور تغيرّت. فالشباب يعلم ان أوروبا بها مشاكل من قبيل العنصرية والمخدرات والجريمة الخ.. ولكن يعتقد ايضا ان فرص العمل اوفر وفرص الاثراء اسرع.. على هذا النحو تمثل لهم أوروبا جنة.. علينا أن نعمل باتجاه اعطاء هؤلاء فرصا للعمل والحياة الكريمة، هذا قد يعدّل الأوضاع باتجاه التخفيف من حدة الظاهرة ولا أقول مكافحتها او القضاء عليها. لان ذلك غير ممكن. في اعتقادي ان الدولة والمجتمع المدني، معنيان بتوطين أحلام هؤلاء في مجتمعاتهم.