تونس الاسبوعي: تحيي تونس غدا مع جميع دول العالم الذكرى 20 لليوم العالمي للصحة والسلامة المهنية والذي اختارت له منظمة العمل الدولية شعار «الصحة والحياة في العمل: من الحقوق الأساسية للإنسان».. وقد أدرجت بلدان العالم الاحتفال بهذا اليوم ضمن أجندتها السنوية منذ أن وقف عمال أمريكيون وكنديون تخليدا لذكرى وفاة زملائهم من القتلى والجرحى والمصابين من جرّاء حوادث الشغل والأمراض المهنية في 28 أفريل ..1989 ومنذ ذلك التاريخ تبنت منظمة العمل الدولية هذا اليوم وأصبحت جميع دول العالم تحييه سنويا. خسائر بشرية قياسية يفقد زهاء مليوني و400 ألف رجل وامرأة حياتهم سنويا في العالم بسبب حوادث وأمراض مرتبطة بممارسة عملهم ويتعرّض 270 مليون عامل وعاملة الى حوادث شغل كما تصيب الأمراض المهنية قرابة 160 مليون عامل وعاملة لأسباب ناجمة عن عدم احترام التشريعات ومعايير العمل خصوصا المتعلقة بالصحة والسلامة المهنية وعدم استعمال وتطابق وسائل الوقاية الفردية والجماعية للمواصفات المطلوبة والمعترف بها.. وما انفكت هذه النسبة (160 مليون مصاب) تشهد ارتفاعا وتزايدا في عددها وأنواعها نتيجة تطوّر عدد المؤسسات الخطرة والمخلّة بالصحة والبيئة وظهور أوبئة جديدة سجلت عديد الحالات منها مثل الإلتهابات الفيروسية والبكتيرية وأمراض السرطان الناجمة عن الإفراط في استعمال المواد الكيميائية بالإضافة لارتفاع معدّلات الإصابة بالضغط النفسي السلبي والإيجابي الناجم عن إدمان العمل؟ ماذا عن تونس؟ وتسجل تونس سنويا ومنذ سنة 2004 على سبيل المثال فقط ما بين 45 ألف حادث شغل و50 ألف حادث شغل كما تسجل أكثر من 500 مرض مهني (وهي الأمراض التي تكلفت بها الكنام بدون اعتبار الأمراض الكامنة أو التي لم يتفطن لها أصحابها بعد) وتتأتى معظم الحوادث من قطاع البناء والأشغال العامة في حين يتم تسجيل أغلبية الأمراض المهنية في قطاع النسيج. وتحتل جهة صفاقس الصدارة كأوّل جهة من حيث حصول عدد الحوادث (5 آلاف حادث في العام طبقا لإحصائيات الكنام الواردة بتقريرها السنوي لعام 2007 علما وأن التقرير السنوي لسنة 2008 لم يصدر بعد). ويضاف لكل ذلك أن معظم الحوادث المسجلة ببلادنا ناجمة عن بيئة وظروف العمل وعدم توفّر وسائل الوقاية من الأخطار المهنية واستعمالها. وبالنسبة للأمراض المهنية فإن انعدام الفحوصات الطبية الدورية التي تتيح الاكتشاف المبكر للأمراض المهنية في القطاع العام والخاص على حدّ السواء.. وكذلك غياب وسائل الوقاية الفردية والجماعية، يعتبر من الأسباب الجديّة التي ساهمت في تزايد هذه الأمراض.. كما أن المؤسسات لا تقبل على الإستثمار في الوقاية فرغم أن الصندوق الوطني للتأمين على المرض يخصص قروضا تصل الى 300 ألف دينار في مجال الوقاية من حوادث الشغل لا تسترجع نسبة هامة منها (20%) وتقدم في شكل منحة.. فإن عدد المؤسسات التي استثمرت في قروض الوقاية ظل محتشما ولم يتعد الى حد الآن 10 مؤسسات.. علما وأن هذا الصنف من القروض يتم استرجاعه على مدى 20 سنة.. ولكن ماذا عن الهياكل التي تعنى بهذه المخاطر؟ هياكل متعدّدة جدير بالذكر أن تونس شهدت ومنذ 1990 ظهور عديد الهياكل سواء تلك التي تم إحداثها لأول مرة أو التي تمت إعادة هيكلتها.. ومنها إحداث المجلس الأعلى للوقاية من الأخطار المهنية والذي أصبح فيما بعد المجلس الوطني للوقاية من الأخطار المهنية.. والذي يضم علاوة على وزارة الشؤون الإجتماعية، مختلف الوزارات التي تتدخل في الوقاية مثل الداخلية والصحة العمومية والبيئة والتنمية الإقتصادية فضلا عن مختلف المنظمات الوطنية وجمعيات المجتمع المدني التي تهتم بالوقاية.. إضافة لمعهد الصحة والسلامة المهنية وكذلك إدارة تفقد طب الشغل والسلامة المهنية التي كانت تشرف عليها سابقا وزارة الصحة وأصبحت من مشمولات وزارة الشؤون الإجتماعية حاليا.. وفي مراجعة لمجة الشغل سنة 1996 تم إحداث لجنة للصحة والسلامة المهنية بالمؤسسة، وهي لجنة متفرعة عن اللجنهة الإستشارية للمؤسسة في القطاع الخاص وبعض المؤسسات من القطاع العام لكن الوظيفة العمومية لا نجد بها أثرا لهذه اللجان الفرعية فضلا عن عدم تفعيل عمل هذه اللجان. طفرة قانونية في التسعينات أما بالنسبة للنصوص القانونية التي تنظم هذا المجال فقد شهدت تطورا في التسعينات من ذلك صدور القانون عدد 28 لسنة 1994 والمتعلق بالتعويض عن الأضرار الحاصلة والوقاية منها بسبب حوادث الشغل والأمراض المهنية في القطاع الخاص وكذلك القانون عدد 56 لسنة 1995 والمتعلق بالتعويض عن الأضرار الناجمة عن حوادث الشغل والأمراض المهنية في القطاع العام والوظيفة العمومية وزيادة على هذه النصوص توجد ترسانة أخرى من الأوامر الرئاسية والقرارات الوزارية والمناشير. تناثر النصوص القانونية وبقيت كل تلك النصوص متناثرة ولم يتم تجميعها في مجلة قانونية واحدة لتسهيل مهام رجل القانون أولا وكذلك الباحثين ومختلف الهياكل سواء على المستوى الوطني أو داخل المؤسسة المشغّلة ذاتها لكي تكون تلك الوثيقة مرجعا موحّدا للدارس والمسؤول ورجل القانون. وبالرغم من التطور الهام الذي عرفته تونس من هذه الناحية فإن الهوّة تظل كبيرة بين تعدّد الهياكل الرسمية وتناثر النصوص القانونية الأمر الذي جعل حوادث الشغل والأمراض المهنية تراوح أعدادها بين هذه النصوص وتلك الهياكل. غياب الإستراتيجيات هذه الحوادث وغيرها وبرغم حجم التعويضات سواء منها العينية او النقدية على الإصابات والإعاقات والوفيات فإنها سوف لن ترجع للعامل حياته أو صحته او عافيته.. علاوة على ما تخلّفه إنعكاساتها الإجتماعية والنفسية على المصابين وعائلاتهم. ورغم خطورة هذه الجوانب فإن الوعي بضرورة التصدّي لها والحدّ منها يبقى متواضعا.. فواقع الصحة والسلامة المهنية ببلادنا مازال يعرف العديد من النقائص بسبب القطاعات غير المنظمة واستفحال المناولة وغياب المراقبة المنتظمة علاوة على فقدان برامج وإستراتيجيات عمل واضحة الأهداف. طاقات مهدورة ورغم تعدد الهياكل التي تسن القوانين والساهرة على تطبيقها وكذلك التي تهتم بالإعلام والتوعية والتكوين والمتابعة والعلاج والتعويض فإن جهودها تظل في حاجة للمزيد من المثابرة والتعاون بين جميع الأطراف حتى نتفادى النقائص ونعالج مواطن الخلل حفاظا على الأقل على إمكانيات المجموعة الوطنية المادية والبشرية لأن ما تدفعه «الكنام» حاليا في إطار التعويضات لو أستثمرنا ربعه في الوقاية لكان الوضع والنتائج أفضل بالتأكيد.. لأنه من المعلوم أنه عندما ننفق دينارا واحدا على الوقاية سنوفر بذلك خمسة دنانير أولا على مستوى الإنتاجية بالحدّ من الغيابات وأيام العمل المهدورة وثانيا بالتحكم في حجم التعويضات على مئات الآلاف من عدد أيام العمل الضائعة. إرادة سياسية كبيرة وبرغم ما أنجز في تونس فإنه لا يزال ينتظرنا جهد كبير في هذا الإتجاه تواصلا مع الإرادة السياسية الكبيرة التي تجسمت في عدّة مناسبات أهمها الأعياد الوطنية للشغل.. من ذلك الإذن بإعداد دراسة تقييميّة لواقع الصحة والسلامة المهنية بتونس سنة 2004 بمناسبة مرور 10 سنوات عن إصدار قانون ...1994 ولحد الآن لانزال بانتظار أن تقوم وزارة الشؤون الإجتماعية بخطوة ملموسة في هذا الشأن ويضاف لذلك إعلان رئيس الجمهورية خلال سنة 2008 إقامة برنامج وطني للوقاية من الأخطار المهنية ونظمت كذلك وزارة الشؤون الإجتماعية ندوة لانزال ننتظر الى اليوم تنفيذ ما انبثق عنها من توصيات رغم عدم ارتقاء تلك التوصيات إلى مستوى البرنامج الذي يعود للخبراء مهمة وضعه وتسطيره. كما يجدر التأكيد على أنه لا يمكن لوزارة الشؤون الإجتماعية و«الكنام» التقليص من عدد حوادث الشغل والأمراض المهنية بمفردهما.. وإنما بمساعدة حقيقية من مختلف الوزارات والأطراف الإجتماعية.. قد نستطيع الحد من تلك الحوادث التي تؤدي سنويا بحياة قرابة 300 عامل في تونس. خير الدين العماري للتعليق على هذا الموضوع: