تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حقّ شرعي... وواجب مدني
تعليق العمرة والحج في ظل تفشّي الأوبئة:
نشر في الصباح يوم 09 - 08 - 2009

العالم بأسره منشغل اليوم أيّما انشغال: نفسيّا, وطبيّا, ودينيّا بالجائحة المرضية, شديدة العدوى والأذى، الموسومة ب''أنفلونزا الخنازير''. التي لم يفلت منها بلد من بلدان العالم، والتي بلغت مستوى متقدما من الخطورة، وصل إلى الدرجة السادسة في سلم قياس الأمراض،
الأمر الذي دفع المنظمة العالمية للصحة إلى دق ناقوس الخطر، والإعلان بأنّ هذا المرض قد أصبح يشكل وباء عالميّا:
فانشغال الناس نفسيّا بهذا الوباء, أمر طبيعي, لأن من فطرة الله التي فطر الناس عليها, أن يهتم الإنسان بأمر بدنه وصحته شرط أن يكون هذا الاهتمام ايجابيّا:
- أولا: بأن يصبر ويحتسب أجر هذا الابتلاء على الله تعالى, مؤمنا في ذلك بقدر الله وحكمه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرا محتسبا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد). البخاري في صحيحه. كتاب: أحاديث الأنبياء ع3215دد.
- وثانيا: أن يكثف اهتمامه بالنظافة, كأن يتوضأ لكلّ صلاة, ويغتسل كل يوم، ولا حرج في ذلك. ونحن نعيش فصل الصيف الذي يطيب فيه الاغتسال، بل يرنو فيه الإنسان إلى ذلك أكثر من مرة، بسبب الحرارة والتعرق والرطوبة؛ نفعل كل ذلك للحدّ من أ سباب انتشار هذا الوباء واستشرائه، ذلك أن:'' فساد الهواء جزء من أجزاء السبب التام والعلة الفاعلة للطاعون(1)... وفساده (أي الهواء) يكون لاستحالة جوهره إلى الرداءة... في أي وقت من أوقات السنة, وان كان أكثر حدوثه في أواخر الصيف, وفى الخريف غالبا... يقول بقراط(2):'' أن في الخريف أ شدّ ما يكون من الأمراض وأقتل''(3).
* - وانشغال العلماء بأنفلونزا الخنازير، طبيّا: يعود أساسا إلى أنّ هذا المرض المتمثل في التهاب مسالك التنفس، وفي اشتداد حرارة الجسم, يستفحل أمره عند تبدل الأحوال الجويّة, خاصة في فصلي الخريف والشتاء، باعتبارهما الموسمين المهيأين لظهور أمراض النزلة؛ لذلك ينكب الباحثون على تطويق هذا المرض، بتوفير العلاج الناجع, أولا، ثم البحث عن الأمصال والتلاقيح الفعالة التي تقي الأصحاء من الإصابة به، إذ الوقاية خير من العلاج.
* - أما الانشغال به دينيا: فلكون خطورته، وتأكد استشرائه يصادفان ظرفين ومكانين حرجين للغاية:
أ- إقبال مكثّف، بل منقطع النظير، على أداء مناسك الحج والعمرة ما بين رمضان المعظّم وذي الحجة، أي ما بين شهري أوت وديسمبر المقبلين، أي مع بداية فصل الخريف إلى أوائل فصل الصيف، حيث يتوقع أن تتعاظم مخاطر الإصابة بهذا الوباء.
ب- اجتماع عدد هائل من الحجاج في مكان واحد لأداء المناسك, قد يفوق عدد السنة الماضية الذي تجاوز السبعة ملايين والمائة ألف حاج.
فما هو المخرج أمام هذا الوضع المتشعّب؟؟
-هل نتجاهل الأمر ونطمر رؤوسنا في الرمل كما تفعل النعامة, ونترك الناس يعتمرون ويحجون, وكأنّ شيئا لم يكن ولم يحدث؟ فتكون الطامة الكبرى؟
-أم نتابع الوضع عن كثب باليقظة الكاملة, والحيطة اللازمة؟ فإن لاحظنا أن ظاهرة العدوى والمرض قد أصبحت تشكل كارثة صحية على ضيوف الرحمان، فلا مناص عندها من اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب درءا للمفسدة وتحقيقا للمصلحة. أمّا الآن, فليس لنا, في هذه المرحلة الأولية من مراحل ظهور المرض إلا أن نبرز الموقف الجلي للإسلام من مثل هذه الكوارث المرضية ونحوها التي تهدد الإنسان في أعز ما يملك في هذه الدنيا: حياته ووجوده.
نعرف جميعا أن من الأشياء التي لا يسع الإنسان جهلها, ومما هو معلوم من الدين بالضرورة: أنّ الشرائع السماويّة والقوانين الأرضية, قد انبنت على قواعد عامة، توسم ''بالكليات الخمس''، وهى: الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فالمسلم مدعو وبإلحاح إلى الحفاظ على نفسه بعد دينه، وذلك بالحرص على الإبقاء على حياته, هذه الحياة التي اعتبرها الفلاسفة ''أم القيم''، وقدّمها بعض الفقهاء على الدين، قائلا: ''لوعُدم المكلف-أي الإنسان العاقل- لعُدم من يتديّن''(4).
إنّ نصوص الكتاب و السّنة, وكذا القواعد الفقهية, تحثّ كلها على حماية هذه النفس من كل ما من شأنه يفضى إلى هلاكها، وفي مقدمتها الأمراض والمعدية منها خاصة.
فقد حذر الله تعالى في التنزيل الحكيم من إيقاع النفس عمدا وترصدا في المخاطر المودية بالحياة, فقال: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) البقرة: ,194 معتبرا سبحانه أنّ ذلك التصرف هو من قبيل الانتحار المنهي عنه في قوله عز من قائل: «ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيما ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا» (النساء: 29- 30) فالإقدام على أداء المناسك في زمان ومكان اشتداد خطر العدوى المفضية إلى هلاك النفس، بشهادة أهل الذكر من الأطباء، هو عدوان كبير وظلم مستطير على السلالة البشرية المكرمة ربانيا، قال عزّ و جل: «أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» (المائدة: 34).
كلّ هذه المعاني القرآنيّة قد أكدتها الأحاديث النبويّة الشريفة توضيحا لسبل الخلاص من عواقب الأوبئة:
فنهى صلى الله عليه وسلم عن الخروج من البلاد التي يظهر فيها الوباء، كما حذر من كان خارجها من الدخول إليها، وهو تحذير عام يشمل مجالات العبادة كالحج والعمرة، ومجالات العادة كالتجارة والزيارة ونحوهما. فالملتزم بعدم الخروج, مفوضا أمره إلى الله فيما يصيبه, مع التداوى طبعا, يكون له بإذن الله تعالى إذا ما هلك، أجر شهيد كما مرّ في حديث عائشة وهي تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الطاعون.
أمّا الملتزم بعدم السفر إلى بلد الوباء, وخاصة البلد الذي يكون عرضة لانتشاره كالأماكن المخصصة لأداء مناسك الحج والعمرة، فإنه يكون:
- أولا: متّبعا لتعاليم القرآن الكريم الداعية إلى وجوب حفظ النفس.
- ثانيا: مستجيبا لتوصيات النبي صلى الله عليه وسلم التي جاءت مؤكدة لما ورد في الكتاب العزيز.
- ثالثا: عاملا بالقواعد الفقهية الأصيلة الداعية إلى ترجيح العمل بما ينفع النفس، وترك ما يضرّ بها، وبخاصة القاعدتين اللّتين تقولان: ''درء المفاسد مقدم على جلب المصالح'' و''صحة الأبدان مقدّمة على صحة الأديان''.
فالمريض ينتقل من الطهارة المائية إلى الترابية (التيمم)، ويصلّي بحسب القدرة: قائما أو قاعدا أو مضطجعا، ويؤجل الصوم إلى ما بعد الشّفاء، ونفس الأمر بخصوص ركن الحج القائم على الاستطاعة البدنيّة والماديّة، حيث يقول تعالى: «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا» (آل عمران: 97). فإذا تأكد الحجاج من انعدام الأمن الصحي في الطريق أو عند المشاعر، وتكفي في هذا غلبة الظن, لدى الدوائر الصحية المسؤولة, فإنّ الواجب الديني والإنساني يحتم تعليق هذا الركن لهذه السنة دون تردّد.
قد لا يعجب هذا الرأي الكثير من الناس, وخاصة من المتهيّئين لأداء فريضة الحج هذا العام، لكنهم لو تخلصوا من عواطفهم الدينية الجياشة وحكّموا عقولهم، لتأكد لديهم أنّ في هذا التأجيل حكما وغايات جليلة من أهمها: توفير العافية البدنية التي بها يسعد الإنسان دنيويا وأخرويا مصادقا لقوله عليه الصلاة والسلام لرجل سأله عن أي الدعاء أفضل؟ فقال له: ''سل ربّك العافية والمعافاة... إلى أن قال: فإذا أعطيت العافية في الدنيا وأعطيتها في الآخرة فقد أفلحت '' سنن الترمذي عن أنس- كتاب: الدعوات رقم: .3434 ولن تتم هذه العافية تمنيا ولا تشهيا، وإنما بتجنب الأسباب المؤذية والمؤدية إلى تلف النفس وذلك بتحاشي الاختلاط بالمرضى, وترك مجاورتهم حتى لا يحصل لهم بذلك من جنس أمراضهم عن طريق العدوى التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من عواقبها الوخيمة لما قال: ''لا عدوى ولا طيرة'' صحيح البخاري- كتاب: الطب. رقم .5315 فالرسول صلى الله عليه وسلم, وان نفى تأثير العدوى بنفسها، إذ المؤثر هو الله تعالى الفعال لما يريد، إلا أن أصلها باق بدليل التجربة، فان غالب من يتحفظ يحفظه الله، ومن يتهاون في التحفظ يصاب عن طريق العدوى.
هذا ويحق للمسلم أن يتساءل, طلبا لليقين، وزيادة في اطمئنان القلب: هل يعد تعليق العمرة أو الحج تصرفا شرعيا لا شائبة فيه؟ ثم من له الشرعية الدينية في اتخاذ قرار التعليق؟
فعن التساؤل الأول نقول، إن القرآن والسنة قد أجابا عن هذه الإشكالية إجابة شافية، أولا: في آية البقرة التي نزلت في عمرة الحديبية سنة 6ه حين صدّ المشركون المسلمين عن البيت الحرام قبل أن يفرض عليهم الحج, فقال عز وجل «وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي» (البقرة: 196). وعلى هذه الآية يقاس الأمر لمن يحصر بغير عدو من مرض وغيره (5). وثانيا: فيما جاء بموطأ الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه: ''أن سعيد بن حُزابة صُرع ببعض طريق مكة وهو محرم, فسأل عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم...فكلهم أمره أن يتداوى بما لابد منه, ويفتدي, فإذا صحّ اعتمر فحلّ من إحرامه, ثم عليه حج قابل''(6).
وبخصوص وباء هذا العام, فإنه ما لم يصل إلى مرحلة شروع الحاج في النسك بالإحرام، واقتضت خطورة المرض تعليقه، فلا إتمام ولا قضاء، ولا هدي، لكن تمنح أولوية حق الحج في السنة القادمة, لمن حرم منه هذا العام راجين له من الله العلي القدير أن يتقبل ممن انتقل إلى رحمته تعالى-خلال فترة التعليق- ما نواه من حج، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: ''إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى'' صحيح البخاري: كتاب. بدء الوحي. حديث رقم .1
- وأما بخصوص السؤال الثاني الذي يطرح إشكالية من يخوّل له- شرعا- في أن يأمر بتعليق العمرة أو الحج في مثل هذه الظروف, فأرى: أن المسألة تُعرض أولا على أهل الذكر من علماء الإسلام لدراستها واتخاذ ما يلائم مبادئ الدين وأصوله من أحكام, ونحمد الله تعالى أن هدى المسلمين إلى تأسيس ''مجمع فقهي إسلامي دولي'' يتطارح فيه علماؤهم ما يستجد من قضايا، ثم يصدرون ما يجب من أحكام. فهذا المنتدى هو الكفيل بالإجابة عن هذه المسألة. ومن حسن حظ المسلمين أيضا أنهم أوجدوا سلطة تنفيذية لتطبيق قرارات المجمع الفقهي، ونعني بذلك: ''منظمة المؤتمر الإسلامي'' فعلى هذه الجهة أن تعمل، وبكل حزم على إعلان وتنفيذ ما يُجمع عليه علماء المجمع الفقهي باعتباره يجسّد المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي بعد القرآن والسنة، وأقصد به: ''الإجماع''.
لكن كيف يكون العمل لو اختلف المجمع الفقهي في مسألتنا هذه، فلم ينعقد إجماع أعضائه على أمر!؟ في هذه الحالة يحق لولي أمر كل بلد إسلامي أن يتدخل ويحزم لاتخاذ القرار الملائم الذي من شأنه حماية العباد: إما بتعليق الفريضة إذا ما تأكدت خّطورة الوباء, علما أنه تكفي في مثل هذه الأحوال غلبة الظن؛ كما يقول علماء أصول الفقه؛ وإما بالسماح بأدائها إذا ما تبين العكس؛ مع الإشارة إلى أن مسألة تعليق الحج أو العمرة الذي وقع في الحديبية سنة 6ه، وتحدثت عنه الآية 196 من سورة البقرة لم يكن هو الحدث الفريد من نوعه في تاريخ المسلمين بل وقع نظيره سنة 357ه بسبب ظهور الوباء وهو ما أشار إليه ابن عماد الحنبلي، حيث قال: ''وفي سنة 357 ه، لم يحج الركب(7) لفساد الوقت في الشهور الماضية''(8).
إن تصرف ولي الأمر وتدخله لاتخاذ القرار الحاسم عند اختلاف الفقهاء في أية مسألة حيوية من المسائل الاجتهادية، هو تصرف شرعي وحكيم:
- هو تصرف شرعي: لأنه يقوم على قاعدة فقهية أصيلة تقول: ''إن حكم الحاكم يبطل الخلاف في المسائل الاجتهادية، ويتعيّنُ حكم واحد''؛ جاء في كتاب الفروق للقرافي: '' اعلم أن حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية يرفع الخلاف، ويرجع المخالفُ عن مذهبه لمذهب الحاكم...وهو مذهب الجمهور، ومذهب مالك... حيث يقول: إنّ حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية، لا يُردّ ولا ينقض وتعليل ذلك: أنه لولا ذلك لما استقرت للحكام قاعدة، ولبقيت الخصومات على حالها، وذلك يوجب دوام التشاجر والتنازع وانتشار الفساد ودوام العناد، وهو مناف للحِكَم التي لأجلها نُصّب الحكام''(9).
- وهو تصرف حكيم: لأن اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، يُجنّب العباد والبلاد المفاسد، ويحقق المصالح، علمًا وان درء المفسدة عن الناس، وجلب المصلحة لهم هما من متعلّقات الحكمة الربانية التي دعانا الإسلام إلى التقاطها, والتصرف على مقتضاها في كل زمان ومكان. ومما لا شكّ فيه أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، قد تصرف وفق هذه الحكمة, عندما أمر الجيش بالرجوع من بلاد الشام التي ظهر فيها وباء الطاعون، مع أنه كان يقوم بأشرف عمل وأسماه في الإسلام: الجهاد في سبيل الله. قال صلى الله عليه وسلم: ''الجهاد عمود الإسلام, وذُروة سنامه''؛ أحمد في سننه عن معاذ بن جبل, حديث رقم .21036
وعلى معاني هذه الحكمة أيضا، ردّ رضي الله عنه على أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه الذي اعترض على رجوعه عن الجهاد قائلا ''أفرارا من قدر الله؟''، فقال عمر متعجبا ومستنكرا: ''لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!؟ نعم نفر من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى '' رواه الشيخان: البخاري في صحيحه: كتاب:الطب رقم 5288 ومسلم في صحيحه: كتاب: السلام رقم .4114
الخاتمة: والذي يمكن استخلاصُه مما ذكرنا، أن الإسلام يحتم:
- أولا: على المسلمين أفرادًا وجماعات ضرورة الالتزام بالتعاليم الدينية الداعية إلى حفظ النفس, وعدم إلحاق الضرر بها، ولو تعلق الأمر باداء فرض ديني كالحج ونحوه مع وجوب تطبيق الإرشادات الصحية التي توصي بها الدوائر المختصة، بعدم الخروج من بلد ظهر فيه الوباء وهو ما يعرف بالحجر الصحي، أو الدخول إليه اجتنابا للعدوى.
- وثانيا: على ولي أمر البلاد حقّ وواجب اتخاذ ما يراه ناجعا لحماية العباد والبلاد من أخطار كل وباء داخل البلاد وخارجها, ولو أدّى الأمر إلى تعليق الحج والعمرة، لا يخشى في الله، ومن أجل الصالح العام، لومة لائم.
- والله ولي التوفيق -
هوامش:
(1)- الطاعون: نوع من الوباء. فكل طاعون وباء, وليس كل وباء طاعونا.
(2)- بقراط (أو أبو قراط): طبيب يوناني، اشهر الأطباء الأقدمين؛ عاش خلال القرن 5 ق.م, جعل
للأمراض مصدرين: الهواء والغذاء.
(3)- ابن القيم: زاد المعاد عن رب العباد: 3/,76 نشر دار الكتاب العربي, بيروت.
(4)- الشاطبي: الموافقات: 2/17 ط: دار المعرفة, بيروت.
(5)- ابن عاشور: تفسير التحرير والتنوير: 2 /,223 ط: الدار التونسية للنشر،1984 م.
(6)- الموطأ: كتاب الحج, حديث رق709م.
(7)- الركب: قافلة الحجيج الرسمية، التابعة للدولة العباسية ببغداد. ابن منظور: لسان العرب: 1/430
ط: دار صادر, بيروت.
(8)- شذرات الذهب في أخبار من ذهب: 3/22 ط: ,2 دار الميسرة، بيروت 1399ه/1979م.
(9)- الفروق: 2/103 ط: دار المعرفة، بيروت.
* أستاذ الفقه بجامعة الزيتونة
عضو المجلس الإسلامي الأعلى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.