مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ النفس من كل ما يؤدي إلى هلاكها تونس - الأسبوعي: لئن مثل مرض إنفلونزا الخنازير مدار اهتمام الجميع في العالم، فإنه استقطب اهتمام رجال الدين وعلماء المسلمين ومن ثمة تتالت الفتاوى حول هذا المرض وما يمكن أن يتعلق به.. ولعل أبرز ما صدر في هذا الصدد، الرأي الذي أعلنه سماحة مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ في إحدى محاضراته بالرياض حول «حكم السياحة في الإسلام وبيان آدابها وشروطها»، بخصوص حرمة السفر من الدول التي ظهر فيها المرض وإليها، واعتبر ذلك مخالفا للشرع وأدرج تحت اعتبار «من يعرض نفسه للتهلكة»، قائلا: «إذا علمنا أن البلد موبوء بمرض إنفلونزا الخنازير يحرم علينا السفر له لأننا بهذا نلقي بأيدينا إلى التهلكة». وقد استدلّ آل الشيخ على ذلك، بما أرشدنا إليه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، من أنه إذا وقع الطاعون في بلد ما لا ندخله، وإذا وقع ونحن فيه لا نخرج منه لأن موت الطاعون شهادة.. من جانبها نقلت «الأسبوعي» هذا الرأي إلى سماحة مفتي الجمهورية التونسية الشيخ عثمان بطيخ وطلبت منه تعليقا عن فتوى آل الشيخ حول تحريم السفر من وإلى البلدان الموبوءة بمرض أنفلونزا الخنازير، وهل يرى أنه من الواجب سحب هذه الفتوى على البلاد التونسية توقيا من تسرب المرض؟ فكان رده كما يلي: رأي مفتي الجمهورية «اعلم أيها السائل الكريم أن كل ما يمنع السفر من بلد إلى بلد آخر مهما كان هذا المانع من عدو أو مرض يصيب المسافر أو انقطاع للطرق أو وجود وباء ونحوه سواء أنفلونزا الخنازير أو غيرها أو فيضانات وأعاصير وغيرها، فيجب شرعا تجنب السفر في هذه الحالات وما شابهها مهما كان السفر سواء سفر طاعة للعبادة أو سفرا مباحا للتجارة أو السياحة لأن المسافر في هذه الحالة يصبح غير آمن على نفسه لقوله تعالى «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» (البقرة 195)، وهذا المنع يسمى الإحصار وهو الوارد في قوله تعالى «وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي» (البقرة 196). والإحصار في كلام العرب منع الذات من فعل ما، يقال أحصره منعه مانع وذلك قوله تعالى «للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله» (البقرة 273). والمحققون من أهل اللغة يقولون بأن أحصر أكثر استعماله في المنع الحاصل من غير العدو. وحصر كثر استعماله في المنع من العدو. والحاصل أن الإحصار يطلق على ما يعم المنع من عدو أو غيره. وهو رأي جمهور فقهاء المذهب المالكي. ومعلوم أن من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ النفس من كل ما يؤدي إلى هلاكها بأي نوع من الهلاك أو تعريضها إلى الخطر، وهل هناك أخطر من أن يعرض الإنسان صحته إلى المرض وإلى العدوى من الأوبئة ونحوها ويعرّض حياته للموت. فالله غني عن تعذيب الإنسان نفسه ولم يكلفنا بما لا طاقة لنا به ورفع عنا الحرج في كل شيء وأمر بالتيسير والرفق وجعل التكاليف الشرعية تدور بين الرخصة والعزيمة. فقد ينتقل الأمر الواجب إلى الحرمة إذا ما أدّى إلى ضرر أو حتى الخوف منه. فقد رخص عند عدم وجود الماء أو حصول مرض الانتقال من الوضوء إلى التيمّم، ورخص للمسافر القصر في الصلاة والإفطار في رمضان وحرّم على المرأة عند حصول المانع الشرعي أن تصوم أو تصلي. فشرع الله كله رفق ويسر ورحمة وكله خير وجلب للمصلحة ودرء للمفسدة قال تعالى «إن مع العسر يسرا» (الشرح 6) وقال صلى الله عليه وسلم «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» (أخرجه البخاري: باب قوله صلى الله عليه وسلّم «يسروا ولا تعسروا»، ولنا في رسول الله وصحبه الأسوة الحسنة، فهم فهموا مقاصد الشرع وأحكامه على حقيقتها وطبقوها في حياتهم العملية وأفتوا بما فيه خير للإنسان. من ذلك ما عرض لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لما سافر إلى الشام فلما بلغ «عمواس» وجد الطاعون قد تفشى بها فلم يرد أن يعرّض نفسه وجنده للهلاك فأمر بالرجوع فجاءه أبو عبيدة بن الجراح وقال له: أفرارا من قدر الله؟ فقال له عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، ثم قال له: نفرّ من قدر الله إلى قدر الله. (أخرجه البخاري: باب ما يذكر في الطاعون). وموقف عمر يستند إلى حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينص على أنه إذا كان الوباء في أرض فلا تدخلوها ولا تخرجوا منها وهو مبدأ تشريع الحجر الصحي. وإذا كان كل شيء بقضاء وقدر، فالرضا بقضاء الله وقدره أدب إسلامي وليس هو بعذر يعتذر به المقصرون والآيسون. خلاصة القول: مادام هناك مانع من السفر لسبب وجيه من مرض أو غيره فهو إحصار، والمسافر في هذه الحالة محصر لا يجوز في حقه أن يلقي بنفسه إلى التهلكة مادام المانع موجودا إلى أن يزول، قال تعالى «ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما» (النساء 29) صدق الله العظيم وألهمنا ما فيه الخير والصلاح ونسأله سبحانه العفو والعافية والسلامة في ديننا ودنيانا وآخرتنا وأن يحمي بلادنا وسائر بلاد المسلمين من الأمراض والأوبئة والأخطار وأن يسبل علينا الستر والأمن والأمان وهو ولينا والهادي إلى سواء السبيل». علماء الأزهر يؤيدون من جهة أخرى تجدر الإشارة إلى أن عددا من علماء الأزهر الشريف أيدوا فتوى «آل الشيخ»، وذكر الدكتور محمد رأفت عثمان (عضو مجمع البحوث الإسلامية) أنه «إذا ثبت أن الشخص سيذهب إلى بلد موبوء بأي مرض وتنشر العدوى فيه بمخالطة الجماهير.. فهنا يعد الإقدام على الدخول في هذه الدولة من الممنوعات الشرعية.. والإنسان ملزم شرعا بإبعاد نفسه عن مخاطر الضرر والهلاك فإذا أقدم على الضرر يكون آثما.. «وأردف د. عثمان» نحن مأمورون إذن بأن نبعد أنفسنا عن كل ما يؤدي إلى الإضرار بالنفس، وأن أحد مقاصد الشريعة العظمى هي الحفاظ على النفس».. لكن من المنتظر أن تأتي الأيام القليلة القادمة بالكثير من الجديد حول هذا المرض وفي علاقته بأداء مناسك الحج أو فرضية تعليق الحج لهذا العام، خاصة وأن الموضوع صار على بساط درس عديد الحكومات وشيوخ الإفتاء في البلدان الإسلامية، وهنا يمكن إيراد ما ذهب إليه الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية في إحدى تصريحاته الصحفية من أنّ الفتوى بالتأجيل لا ينبغي أن تصدر بصورة فردية وإنما بصورة جماعية، وبحضور فقهاء الأمة الإسلامية والتنسيق مع المجامع الفقهية المعتمدة في العالم الإسلامي. س .س للتعليق على هذا الموضوع: