يعتبر محمود عبّاس (أبو مازن)، من المسؤولين البارزين، وأحد القيادات التي شاركت في تأسيس حركة فتح، لكن مع ذلك فإنّ سيرة الرجل لم ترتبط بالأعمال ذات الصبغة «الثوريّة»، على غرار بقيّة رفاقه، مثل أبو عمّار وأبو جهاد... ولهذا بقي الجانب «المدني» و«السياسي» هو السمة الدالة والغالبة على صورة الرجل وأدائه، سواء من خلال موقعه في القيادة، حيث حكمت عليه التوازنات التنظيميّة بالبقاء خلف الكواليس أو من خلال «برنامجه» النضالي الذي بقي في الرفّ في انتظار الظرف المناسب، وهو برنامج كشف عن ملامحه عندما اختاره الرئيس الراحل ياسر عرفات لمنصب رئاسة الوزراء. تعيين أملته أنذاك طبيعة المرحلة التي تعيشها القضيّة، واستجابة للضغوطات التي مورست على عرفات بدعوى «الإصلاح» في الظاهر، لكن مربط الفرس هو إضعاف عرفات. ومثلما كانت الولادة قيصريّة فإنّ التعايش لم يدم ولم يعمّر طويلا بين الرجلين، بين كارزمية وشرعيّة عرفات وتشبثه - حتى الموت - بثوابت الثورة من جهة وبين «المهمّة» التي يريدها «المجتمع الدولي» من أبو مازن، المرونة والابتعاد اكثر ما يمكن عن السقف السياسي الذي يتمسك به أبو عمار. وحصل الطلاق، وتراجع عبّاس إلى الخطوط الخلفيّة، بل إنّه خرج من المشهد السياسي. ومع تراجع حضوره، تراجعت شعبيّته، ولم تتمّ عودته إلاّ بعد مرض عرفات، عودة مرّة أخرى وصفت بالمفاجئة إلى قيادة منظّمة التحرير، واختيار لأن يكون البديل لعرفات، وقدم على أساس كونه شخصيّة تجمع ولا تفرّق. يعدّ محمود عبّاس (شهر أبو مازن)، من الشخصيّات المركّبة، أي من الصعب النفاذ إلى فهمه، فشخصيته وكما يقال من النوع الذي يوصف بالسهل الممتنع، فصورته وإن كانت لا توحي لك بالكاريزميّة، لكن مع ذلك تخفيها، فهي كاريزميّة مختفية، وراء شخصيّة تميل إلى بساطة العيش، والرغبة في البقاء خلف الكواليس، وهي ميزة جلبت له الاحترام، ورفعته إلى مواقع القيادة وصنع القرار. فقد أسس أبو مازن رفقة الزعيم الراحل ياسر عرفات حركة فتح، ورافق عن قرب، وفي صمت. رحلة النضال معه، بعيدا عن كلّ مظاهر العنتريّات أو اللغو النضالي، الذي يراد به الاستهلاك الإعلامي. رافق أبا عمّار إلى المنفى في الأردن ولبنان وتونس، مع أبو زهوة وخليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف (أبو إياد) وبقيّة الرفاق من الرعيل الأوّل للثورة الفلسطينيّة، ثمّ الأجيال اللاحقة في فتح وبقيّة التنظيمات. عمل الرجل ولا يزال بنفس العزيمة والإصرار، مع أنّ الطريق كلّه أشواك، بل قنابل تترقب الانفجار في كلّ ثانية. وفي عهده نجحت السلطة في تنظيم انتخابات ديمقراطيّة، أفرزت نتائج خرجت إثرها حركته من السلطة، وانتقلت إلى المعارضة، وتحوّلت الحكومة إلى حماس، كلّ ذلك تمّ بمباركة من عبّاس وتحت إشرافه وإدارته، فأعطى بذلك «المثال»، كما أسس لمعالم تجربة سياسيّة تقوم على ديمقراطيّة صناديق الاقتراع، لا على أساس التوريث أو اغتصاب السلطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومع أن التجربة أجهضت، وخلفت واقعا جديدا على الأرض، فزادت في تجزئة المقسم بدلا عن توحيده، وأدت إلى إضعاف الرجل والقضية في الداخل والخارج. فان أوراق اللعبة ما تزال بكاملها في جراب عباس، حتى وإن تلاطمته الأمواج الإقليمية العاتية. فالذي تفاوض مع الاسرائليين وصبر على أذائهم له من القدرة على تجاوز «كبائر» حماس وأخطاء دحلان وبقية رفاق الدرب. إنّ نجاح أبو مازن في النضال وفي السياسة، برغم كلّ الصعوبات والضغوطات، البارز منها والخفيّ، ليس وليد الصدفة وإنّما هو محصّلة لتجربة نضاليّة وسياسيّة، مستندة إلى عمق ثقافي. فعبّاس أدرك منذ البدايات أنّ السياسة هي فنّ إدارة الممكن، وأنّها تقوم على المغالبة نظرا لتقلّب المواقف وكذلك المواقع، ففي الحقل السياسي ليس هناك عداوات دائمة أو صداقات دائمة، بل هناك مصالح. وبالنسبة لرجل مثل عبّاس ارتبطت كلّ حياته بفلسطين، أمّ القضايا وأكثرها عدالة، فإنّ المصلحة عنده اسمها فلسطين، لا فتح أو غيرها، كما قد يتوهّم البعض ويروّج لذلك، فعبّاس الذي يعتبر من أبرز مهندسي اتّفاق أوسلو، ورافق عرفات في زيارته إلى البيت الأبيض عام 1993 للتوقيع على اتّفاقيّة أوسلو، وبعدها تابع وشارك في كلّ تفاصيل ومحطات الحوار مع إسرائيل وآخرها في أنا بوليس. شغل في عهد الرئيس الراحل، موقع رئاسة الوزراء، وإن كان له موقفه ورأيه فإنّه بقي منضبطا ولم يتجاوز الرئيس الأسير في رام الله أو يضعف من موقفه، وهو بذلك يحافظ ولا يزال على كلّ ثوابت الشعب الفلسطيني، في إطار من المرونة، والاعتدال وعدم القفز على معطيات الواقع. ينظر الفلسطينيون والرأي العام الدولي -بما في ذلك الإسرائيلي- إلى أبو مازن على أنّه شخصيّة معتدلة، فقد كان من بين القيادات الفلسطينيّة الرئيسيّة التي فتحت حوارا مع الجناح اليساري اليهودي والحركات الداعية إلى السلام في إسرائيل خلال السنوات الصعبة (السبعينات). كما يعتبر ثاني أبرز شخصيّة فلسطينيّة بعد عرفات، فقد استطاع برغم صعوبة الظرف الداخلي والخارجي أن يحافظ على السلطة في بعديْها المادي والرمزي، بوصفها إطارا حاضنا ومجمعا لكلّ الفلسطينيين، لكن هذا لا يمنع أنّ البعض يرون كونه «شخصيّة غير جذّابة ولا تتوفّر على آلية سياسيّة خاصّة به»، لكن ومع الأخذ بتباين الآراء والمواقف فإنّ محمود رضا عبّاس يبقي في الظرف الراهن الخيار الأصلح و الأسلم لكلّ أطياف الشعب الفلسطيني.