من واحات توزر بنخيلها الباسق وعيونها الرّقراقة وزوايا أوليائها الصّالحين، إلى أضواء باريس العاصمة «الكوسموبوليت»، كانت الرّحلة.. لم تكن سفرا في المكان والجغرافيا بقدر ما هي اختراق لآفاق المعرفة وانفتاح على ثقافات العالم وحضاراته.. لعلّه آخر الموسوعيّين. درس الفلسفة والأنتروبولوجيا والآداب الفرنسيّة واللغة والحضارة الإغريقيّة. عربيّ حدّ النّخاع في لغته المنسابة في ما يضاهي بلاغة الإمام عليّ حينا، وأحيانا يتراءى ابنا شرعيّا لروسّو وفولتير بفرنسيّته الباذخة، وبينهما يبدو «هيلينيا» سليل أرسطو وأفلاطون وسقراط ..يتباهى بأنّه ابن هذا الوطن الطيّب ويفاخر بتربته الطيّبة لكنّه يشرع أجنحة شجرته العائليّة ليصير امتدادا لكلّ الإنسانيّة بأعراقها وأديانها وطوائفها ولغاتها ..يصوغ أبحاثه الفكريّة ويترجم الأدب ويكتب سيناريو الأفلام الوثائقيّة وحكايات الصّور المتحرّكة ..وعلى اختلاف المحامل، هو دائما يلهث وراء مشروع واحد هو كيف ننهض ونعيد للفكر العربيّ الإسلاميّ بريقه.. هو التّونسيّ الحاضر دائما في الإعلام الغربيّ، الغائب تقريبا عن إعلامنا التّونسيّ وتلك مسألة أخرى ..يأخذك بتواضعه التلقائيّ وقدرته على الاستماع وتحويله لكلّ شيء حوله إلى سؤال يطرحه بنزق الطّفل ويجيب عنه بعمق الفلاسفة الكبار.. هو المفكّر والفيلسوف يوسف الصدّيق، التقته الصباح وكان لنا معه هذا الحوار: س 1 أستاذ يوسف الصدّيق، كيف تفسّر حضورك المفرط في قنوات الإعلام الغربيّة وحضورك النّادر في الصّحافة التّونسيّة؟ أعتبر أنّ الأمر أبسط ممّا يتصوّره البعض، بعد تفكير طويل في هذه المعضلة، ذهبت إلى التّفسير التّالي: هناك مرض ثقافي تونسي لا بدّ أن نشفى منه هو أنّ كلّ مبدع أو مثقّف برز في أحد الميادين يعتقد أنّه مهدّد من طرف مبدع آخر افتراضيّ، لذلك يكرّس كلّ جهوده لإخلاء السّاحة من كلّ منافس محتمل، والحال أنّ بلدا كتونس يحتاج إلى مئات الشعراء والمبدعين والفلاسفة يساعد الواحد منهم الآخر على الظهور والإشراق، وهو بلد خصيب قادر على إنجابهم ..في فرنسا وعموما في البلدان الغربيّة وحتّى في بعض بلدان الشرق لا يوجد مثل هذا الدّاء فأنت ترى في ساحة الإعلام والنّشر الكلّ موجودون دون أن يدخل أحدهم مجال الآخر إعتقادا من المفكّر الحقّ أنّ التاريخ والقرّاء هما الحكمان في تحديد عمر المفكّر أو في تجاوزه إلى البقاء ولا بدّ أن تتغيّر هذه العقليّة التّونسيّة.. 2 أليس مجال بحثك هو السّبب، خصوصا وأنت تخوض في مجال الإسلاميّات المحفوف بالمخاطر..؟ أنا أذكر موقعي في تونس في السبعينات وأنا أدرّس الفلسفة لشباب الباكالوريا، كنت حاضرا كذلك في الساحة الثقافيّة وكنت متناغما مع الموجودين فيها، ولم أشعر أنّ مجالي التعبيريّ كان محفوفا بالمخاطر كما قلت رغم أنّني كنت أتناوله بنفس الطّريقة.. ولو كان لي هذا الإحساس لما خاطرت بإصدار كتابي سنة 1975 عن دار العربيّة للكتاب «المفاهيم والألفاظ في الفلسفة الحديثة» الذي تحدّثت فيه عن مفاهيم وقدّمت له بنصّ لم ينكر عليّ أحد شيئا فيه بل وافتخر به زملائي.. وقد أخذني الحنين إلى النشر في تونس فعدت ونشرت «إلى ينابيع الفلسفة ..قصيد برمنيدس» سنة 1995 في دار الجنوب.. وقد جذب هذا الكتاب بمقدّمته ومتنه انتباه النقّاد والإعلاميين الكبار في المشرق ولم ينتبه له أحد هنا في تونس رغم أنّني بكلّ تواضع أطرح فيه بثقل كبير المشكل الأوّل في علاقتنا كحضارة بالفكر وتاريخه وأورد تفسيرا تاريخيّا عمّا سمّيته النّسيان الوجوديّ في فكرنا وهو بالخلاصة تجميدنا لبعدي الفكر الإنساني: الدّينيّ والدّنيويّ في الكتابة والإبداع بينما لم يتجاوز الغرب قرونه الوسطى وظلاميّتها إلاّ بترويض الفاصل بين هذين البعدين.. الاجتهاد تأكيد على قداسة النصّ هنا وصلنا إلى أهمّ الإشكاليّات التي طرحتها في مختلف كتبك وخصوصا «لم نقرأ القرآن بعد».. وأساس الإشكال في رأيك هو تعطّل الإجتهاد والاستناد إلى قراءة المنجز من التفاسير والمذاهب أريد أن ألاحظ قبل الإجابة أنّ أفكاري وكتبي وأعمالي ليست من مواليد 11 سبتمبر 3 وكأنّك تريد أن تتهرّب من رميك بتهمة الكتابة وفق شروط الطّلبيّات الغربيّة؟ ما أريد أن أقوله هو أنّ عددا كبيرا من المفكّرين في الإسلام والحضارة العربيّة وآدابها وفلسفتها انطلقوا منذ حادثة 11 سبتمبر 2001 وأصبح من كان يهتمّ بالشعر والأدب ومن لا علاقة له بالميدان نجما ورائدا بفضل وسائل الإعلام الرّخيصة بغربييها وشرقييها وأنا أشعر بضيق حين تدعوني هذه الوسائل الإعلاميّة، وغالبا ما لا أستجيب، لأنّي مازلت معتزّا بانتمائي إلى لائحة ماسينيون وجاك برك وريجيس بلاشير وماكسيم رودنسون رغم اختلافي العميق مع البعد الاستشراقيّ الغربيّ لهؤلاء ..لأنّي أكبر فيهم الحياء من المادّة التي يشتغلون عليها (الإسلام والعروبة) ومثال ذلك حين أصدرت ترجمة أحاديث الرّسول عن دار أكت سيد 1999 أرسلت نسخة مهداة إلى مكسيم رودنسون المستشرق الكبير بالبريد وكان قصدي فقط أن تصله النّسخة، لكنّه أرسل إليّ بردّه المكتوب بخطّ يده يناقش فيه سطرا من إحدى حواشي الكتاب أشكّك فيه بوجود مدينة النّاصرة بفلسطين زمن المسيح عليه السلام منكرا عليّ ما ذهبت إليه بحجج إبيغرافيّة لأنّ ذلك كان اختصاصه في الجامعة ..أمّا الآن فإنّك ترى كتّابا عربا وغربيين يتناولون موضوع عائشة أمّ المؤمنين وصحابة محمّد صلّى الله عليه وسلّم ولا تجد لهم مقالة أو كتابا في الموضوع قبل 11 سبتمبر من ذلك مثلا أحدهم لم نقرأ له سوى أشعار وجدانيّة أو مقاربات حول ابن عربيّ أو ترجمة حول البسطامي، وأصبح بعد التّاريخ المذكور يجوب أوروبا وأمريكا دفاعا عن اللاّئكيّة مقابلا هذا المفهوم برجعيّة الإسلام مركّزا على سوء وضعيّة المرأة في الإسلام، أمّا أنا فبدأت مشروعي حول ما أسميته بعمل القول القرآنيّ في مخابر المدرسة العليا للدّراسات الإجتماعية EHESS منذ سنة 1982بقسم أنثروبولوجيا النصّ المقدّس الذي أسسه ليفي ستروس. 4 ما دمنا نتحدّث عن القداسة والنصّ، يرى البعض من متابعي أعمالك أنّك تفتح باب قراءة القرآن لكلّ من يريد وأنّك ترى أنّه ليس حكرا على أحد و طبعا تقصد الفقهاء وأصحاب المذاهب ..ألست تشرّع للمساواة بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون قلت في بداية هذا الحديث أنّ الحَكم الوحيد في كلّ محاولة فكريّة لتظهر وتبقى هي علاقتها مع التّاريخ والقرّاء. 5 وكأنّك تساوي الآن بين المقدّس والنصّ العادي؟ نعم أنا أساوي بين النصوص كلها: التوراة والإنجيل وتعاليم بوذا وشكسبير وشوقي والمتنبّي هي كلّها تأتي من تلك النعمة على الإنسانيّة قاطبة التي احتوتها كلمة قصيرة جدّا في القرآن الكريم ارتبطت دائما بقوله تعالى «علّم آدم الأسماء» وهي كلمة «كلّها».. والواضح أوّلا أن ليس للرّسول صلّى الله عليه وسلّم أو لغيره أن يضيف كلمة أخرى عمّا علّمه تعالى لآدم وثانيا وبالتّالي أنّ الوحي هو ما تتقاسمه كلّ المخلوقات في إبراز قدرة الله على الخلق إن كان ظاهرة أو قولا ودليلي في ذلك أنّه أوحى لموسى وعيسى ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم وغيرهم من الأنبياء ولكنّه أيضا أوحى تعالى إلى النّحل والنّمل والأرض.. إذا الوحي في تصوّري ليس اقتطاعا لخلق جديد وإنّما إعادة تركيب للقول الإنسانيّ كما نشأ أوّل مرّة عند آدم، ومثلنا في ذلك شيء نراه يوميّا، أهناك من يدّعي في الأرض أنّ جامع الزّيتونة المعمور ليس بمعلم إسلاميّ؟؟؟ ..لكن إذا دخله أيّ مهندس معماريّ مسلما كان أو كافرا فسيرى أنّ أعمدته يونانيّة كورنتيّة وأحجاره منقوشة منذ زمن الوندال أو الرّومان ...لكنّ المجموع هو أثر إسلاميّ ..ومن ذلك فإنّ القول القرآنيّ ليس إلاّ تركيبة ثوريّة لما جاء في صحف إبراهيم وموسى وغيرهما من الأنبياء والحكماء ..إذ يقول الله تعالى للرّسول صلّى الله عليه «ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك» (سورة غافر الآية 78) وخلاصة هذا أنّه لا بدّ لنا أن نجدّد علاقتنا مع النصّ القرآني حتّى نبلغ شاطئ النّجاة وذلك بأن نتجاوز صلتنا الطّقوسيّة بهذا النصّ مع الاحتفاظ بها فهو ليس بالإيقونة، وأستشهد بقول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بما معناه أنّه لا وثنيّة حتّى ولو كانت وثنيّة الكتاب والحرف .. فلي أن أبتدئ من بلاغة القرآن وأرتكز عليها وأتصرّف فيها حتّى أقول مثلا أنّ هذا الشّيء يمكث في النّاس وينفع الأرض مستلهما مفردات القرآن متصرّفا فيها بصياغة دنيويّة وكلّ من سيقرأ ذلك سيعلم أنّ مرتكزي هو القرآن. الأسطورة مفتاح الفكر الإنسانيّ 6 بعيدا عن النصّ المقدّس فلنعد إلى الدّنيا، في كتابك «من تراهم الهمج؟» تقول إنّ البربريّة أي الهمجيّة من صلب مشروع الهيمنة الغربيّة وليست مقرونة بصورة العرب المسلمين كما يحاول البعض إلصاقها بهم الآن ..ألا تشعر أنت في هذا الوضع أنّك مرفوض من الضّفّتين؟.. فليكن، سأجيبك كما قال أفلاطون معرّفا الفكر في محاوراته «المينون».. «أن تفكّر هو أن تجعل النفس تخاطب النّفس في صمت».. يكفيني حتّى ولو خاطرت بالخطأ أن أتّبع هذا المسلك ..فأنا في كلّ مرّة أفكّر فيها في مسألة خطيرة أعتمد الأساطير المؤسّسة لكلّ مجموعة بشريّة فإذا اعتمدت ما أسس للغرب كما نراه الآن نرى أنّ إلياذة هوميروس تفتخر بأنّها أحرقت مدينة كاملة هي طروادة، ثمّ انطلق منها أوذيسيوس لنفس الشّاعر فتاه في ضفاف المتوسّط الجنوبيّة فلم ير فينا نحن جنوبيّي المتوسّط إلاّ ذوي العين الوحيدة «cyclopes» أو أولئك المدمنين على شراب النّسيان فيما حدّد بجزيرة جربة لدى المختصّين في جغرافيا الأوذيسة أو كما يقول «الذين يقتاتون من طأطأة رؤوسهم» ويقصد التجار الفينيقيين.. وتواصلت هذه الصّورة التّأسيسيّة للغرب مع صديقنا الشاعر اللاّتيني «فيرجيل» ونحن في مدينة سوسةالتونسيّة نحتفظ بصورته الفسيفسائيّة الوحيدة في العالم وهو محاط بملهمتيه ..فقد جاء ب «إيناسEnée » النّاجي الوحيد من محرقة طروادة إلى قرطاج وجعله يعشق القرطاجيّة ديدون فإذ بإلاه التجارة والمكر عطارد «ميركور» يغرّه بمجد تأسيس روما فيخون عشقه مع السيّدة القرطاجينيّة ويتركها تحترق .أمّا ما أسس للحضارة العربيّة الإسلاميّة في رأيي فهو عدول نصّنا المقدّس عن القول بالخطيئة الأصليّة عندما برّأ آدم وحوّاء قبل خروجهما من الجنّة «فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (سورة البقرة الآية 37) فاستبدلها بخطيئة دنيويّة بحتة هي خطيئة قتل الآخر إذ أعتقد أنّ أساس القصص القرآنيّ هو ما دار بين الأخوين اللذين ننسى غالبا أنّهما لم يذكرا بإسميهما في القرآن الذي سكت عن نوعيّة قربان كلّ منهما فبيّن بذلك أنّ أيّ أخ، قابيلا كان أو هابيلا، مهدّد بفتنة قتل أخيه ومهما كان عمله مزارعا كان أو راعيا ..لذلك قال الضحيّة للقاتل «لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ» (سورة المائدة الآية 28) فأعمق ما جاء في هذا هو أنّ للإنسان مادام على قيد الحياة إثم الفتنة في أن يقتل يوما أخاه وهذا ما خلا منه الإنجيل والتوراة حين حدّدا إسم القاتل و المقتول ومهنة كلّ منهما ..وهذا ما يتبيّن أيضا في الاية الكريمة «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» (سورة الشمس الآية 8) والمقصود أنّ الإنسان حمّال للنّقيضين ولا ينجو من غلبة التناقض إلاّ حين يسلم الرّوح سواء كان الشخص صالحا أو طالحا وأجمل ما يصلنا بهذا المعنى ذلك الحديث الرّائع «والذي نفس محمّد بيده لو كان أحدكم على قدر ذراع من الجنّة وعمل بعمل أهل النّار لدخل النّار، ولو كان أحدكم على قدر ذراع من النّار وعمل بعمل أهل الجنّة لدخل الجنّة...» وهو ما صوّره ممسرحا الفيلسوف العظيم جلال الدين الرّومي عندما قصّ لنا في «المثنويّ» حكاية جارين أحدهما تقيّ وعاكف وصائم سنوات عديدة والآخر سكّير وفاسق سنوات عديدة فقرّر كلاهما في نفس اللّحظة أن يذهب إلى الآخر ويعمل بعمله وتوفّيا في الآن معا فكتبت النّار لمن كان تقيّا والجنّة لمن كان فاسقا. 7 الأستاذ يوسف الصدّيق، في نهاية هذا الحوار، هذه المساحة لك؟ في الواقع هذا ما أريد أن أختم به أعمالي الفكريّة، أنا بصدد إنجاز كتاب أنطلق فيه من خرافة ابتدعتها، مضمونها أنّ جواهريّا على فراش الموت بشّر أبناءه بما ترك لهم من مجوهرات ستكون إرثهم من بعده، وكشف لهم أنّ بحوزته ماسا خاما من أبدع ما أخرجت الأرض، وأوصاهم بأن لا يصقلوه البتّة وأن يتركوه قيمة خاما يتباهون بها ويعتزّون، ذلك أنّهم لو صقلوه احتفظوا بشكل واحد له وحرموا من كلّ أشكاله المحتملة الأخرى.. والماس الخام عندي هو النصّ القرآنيّ فحرام علينا بالمعنيين الدينيّ والذّوقيّ أن نعطيه شكلا أوحد نهائيّا فنحرم من صوره المحتملة الأخرى التي ستأتي بمرور الزّمن وتقدّم الاكتشافات وتطوّر الذّهن البشريّ وأن نحرم منه كما يقول المفكّر الفرنسيّ موريس بلانشو «كتابا قادما أبدا».