ونحن على أبواب انتخابات رئاسية وتشريعية لها وزنها وانعكاساتها المحوريّة على مستقبل البلاد على مدى الخمس سنوات القادمة، غالبا ما يسود الاعتقاد عند كثيرين منا أن هذه الانتخابات ليست سوى لعبة نُخبوية تترجم مفهوما أكاديميا للممارسة الدّيمقراطية التي تبقى حكرا على أقلية من النّخب المثقفة والنّاشطة في الميدان السياسي، فترى البعض يُشكّك في أهميّتها وترى البعض الآخر يُعبّر بصفة مباشرة أو غير مباشرة بالقول أو بالفعل أحيانا أو بردّة الفعل أحيانا أخرى على عدم اكتراثه بهذا الموعد الوطني من منطلق أن عماد البيت قائم به أو من دونه ولا فائدة إذن في مشاركته في إرساء دعائم هذا البناء. وإن كان في هذا المنحى من التفكير ما قد يجد له شرعيّة تاريخية هنا وهناك في بعض التجارب التي عاشتها البلاد في مراحل مضت من تاريخها فإن عجلة الزمن وطبيعة الطبيعة في الحياة تجعل من هذه الفلسفة الشعبيّة في تناول موضوع مثل موضوع الانتخابات أمرا عفا عليه الزمن بحكم التحوّلات العميقة التي شهدتها تونس التغيير قولا وفعلا وليس إسفافا أو لغوا في القول، فدولة القانون والمؤسسات قائمة وعلى رأسها تلك المؤسسات الهيكليّة التي ترمز في المقام الأول إلى سيادة البلاد واستقلالها ونعني هنا بالإشارة المؤسسات التشريعية والمؤسسة الرّئاسية على وجه الخصوص، هذه المؤسسات التي تعنيها الانتخابات مباشرة والتي أصبح يعنيها أيضا أن يُقبل التونسي على هذه الانتخابات تعبيرا لا فقط على حقّة في ممارستها كحقّ جوهري للتعبير بل وأيضا تعبيرا على مواطنته ووجوده وتحقيقا لذاته كوسيلة وهدف لقيام هذه الدولة الحديثة. حينئذ، وقد تابع التونسيون افتتاح موسم تقديم الترشّحات الى المجلس الدستوري والذي بادر به سيادة رئيس الجمهورية زين العابدين بن علي مترشحا عن التجمع الدستوري الديمقراطي وهم أيضا يتطلعون بالموازاة لعيش حملة انتخابية تكون فيها لمنافسة المتنافسين انعكاسات إيجابية على تجذر الممارسة الديمقراطية في البلاد، هذه الممارسة التي لا يُمكن أن تكتمل إلا حين تأخذ صبغتها القاعدية من خلال الإقبال المُكثف لكلّ التونسيين على الاقتراع في اليوم الموعود لهذه الانتخابات في تجاوز لمنطق لا نُريده أن يبقى دائما يُؤثّر على عقليّة التونسي البسيط منه المُثقف ألا وهو أن الانتخابات في نهاية الأمر وبدايته شأن داخلي للأحزاب يتنافسون فيما بينهم وما يُقرّونه يسري على العامة والخاصة، وكأن الأمر لا يعني المواطن العادي بقدر ما يعني المواطن «المتسيّس» والمنخرط في حزب من الأحزاب السياسية. إنّ هذه العقلية، إذ تؤثر سلبا على نسبة المُقترعين فإنها تفوّت الفرصة على التونسيين دون استثناء في فرض خياراتهم وقناعاتهم في من سيُسيّر دواليب الحكم للبلاد للخمس سنوات القادمة . لمن لا تزال تسيطر عليهم هذه العقلية نقول، ليست الانتخابات حكرا على الأحزاب، إنّها شأن وطني يتجاوز الأفراد والجماعات، إنّها عنوان تحضّر الشعوب ومقياس مدى تطوّرها، فمدى تجذّر حق الانتخاب عند المواطن العادي يُعبّر على مدى سموّه الأخلاقي ووعيه الوطني ومدى تعلّقه بالمساهمة في تقرير مصير المجموعة الوطنية التي ينتمي إليها، وهي مقوّمات لا تباع ولا تشترى وليس لها ثمن في سوق القيم الثابتة، فالأحزاب السياسية على أهمية الدور المحوري الذي تلعبه بمناسبة الانتخابات على مستوى تقديم المرشحين وتسطير البرامج وتقديم السند اللازم لهم تعبويا وإعلاميا فإنها في نهاية الأمر لا تعدو أن تكون مجرد مؤسسات تأطيرية من مؤسسات المجتمع المدني تؤطَّر صلبها آليات العملية الانتخابية دون التأثير بصفة مباشرة أو غير مباشرة على شروط وآداب وقواعد سير هذه الانتخابات، وفي المقابل فإنّ دور المواطن الناخب يبقى مفصليا في نجاح المجموعة الوطنية في تجذير هذه الآلية الديمقراطية صُلبها. وليس من المنطقي في شيء أن يتخلّى هذا المواطن على حقّه الطبيعي في إثبات وجوده صلب المجموعة الوطنية متعلّلا في ذلك بتوكيله الأحزاب ممثّلة في أقلّية ناشطة مهما بدا إشعاع هذه الأحزاب تأخذ ملء يديها هذا الحق ثمّ في وقت لاحق نلوم هذه الأقلية احتكارها لحقوقها المدنية وننعتها بالنُخبويّة، وقد تخلّينا نحن على موقعنا في هذا الموعد الوطني بينما كان تموقعنا فيه محفوظا قولا وفعلا وممارسة، بل إنّ الانتخابات في حدّ ذاتها عرس ومن يتخلّف عنه لا يمكن أن يكون له في «الطيب نصيب».، وهو ما يدفع المرء التونسي الحر الأصيل إلى أن يبادر بالأخذ بنصيبه في هذه الانتخابات عن وعي عميق بأن «ماحكّ جلدك إلاّ ظفرك» وأن الانتخابات حقّ وواجب، به نعطي لطموحاتنا شرعية انجازها بأن نضع ثقتنا كمجموعة وطنية وكأفراد مسؤولين أمام هذه المجموعة في من نعتقد راسخ الاعتقاد، أنّهم الأكثر قدرة على حمل أحلامنا حملا وديعا لأنهم سيكونون ممّن تصغر في عيونهم كبارها. إنه نداء لنرى التونسي يعبّر من خلال إقباله المُكثف على الانتخابات خصوصا شريحة الشباب وما تحمله من طموحات، ليضرب موعدا مع التاريخ تكون فيه للدّيمقراطية نصرة وللتونسي مصلحة أو أكثر من مصلحة، أكان منخرطا في حزب سياسي أو جمعية تطوّعية أو مجرّد مواطن تونسي شغوف بتونسيّته في تجاوز لكلّ اعتبار كان ما كان الاعتبار.