تبث قناة "نسمة" هذا المساء الجزء الثاني من رباعية "منزل صدام" وهي السيرة الروائية لأحد أهم القادة العراقيين الذين تركوا بصماتهم السلبية والإيجابية (وهو اقل ما يقال في شأنها) ليس على الساحة المحلية فحسب، بل وحتى العالمية وذلك لفرادتها وتناقضاتها، تصلبها وتكلسها كذلك... هذه الرباعية (52دق لكل حلقة) التي تنتمي لجنس ال"دوكودراما" (الرواثائقية) أخرجها لصالح قناة "بي،بي،سي" البريطانية و"هاش،بي،أو" الأمريكية في العام الفارط "ألكس هولمس" عن سيناريو من وضع "ستيفن بوتشارد" بعد أبحاث دامت أكثر من ثلاث سنوات جمعت فيها معلومات وأخبارا من جميع الأطراف الفاعلة أو الشاهدة على الأحداث الدامية التي دارت من العام 1979 حتى العام 2006، أي من الانقلاب الأبيض ضد حسن البكر حتى إخراج الرجل من حفرته في مشاهد اقل ما يقال عنها أنها مخزية وأن لم تتعرض الرباعية للمحاكمة ثم المشنقة ذات عيد مشؤوم، وفي ذلك أكثر من دلالة. تم إنجاز هذه الرباعية في تونس بمساعدة المخرج/المنتج المنفذ معز كمون وممثلين تونسيين (خمسة، فيما رفض البعض الأخر) ولكن في أدوار ثانوية وممثل إسرائيلي من أصل عراقي (إيغال ناعور) أي من يهود عرب إسرائيل (سيفارديم) في دور الرئيس السابق صدام حسين، والمغربي سعيد تغماوي في دور شقيقه من الأم إبراهيم البرزاني، والمصري عمرو واكد في دور صهر الرئيس حسين كامل المجيد، والفلسطيني مكرم خوري (من عرب 48) في دور طارق عزيز، و"شهرة أغداشلو" في دور ساجدة زوجة صدام الأولى وعديد الممثلين والممثلات للشخصيات القريبة والبعيدة، الهامة كما الثانوية التي تحركت في الساحة الخاصة العراقية المقربة جدا من مصدر السلطة: صدام حسين... حقيقة الصورة أم صورة الحقيقة؟ المعلومات التاريخية العامة الواردة في الحلقات الأربع غالبيتها معروفة لدى الجميع. قد تنقص نقطة هنا أو فاصل هناك، قد لا تكون ربطة العنق بهذا الشكل في هذا المشهد أو الشمس ليست بذلك الوهج في تلك اللحظة، لكن لا أحد بإمكانه الإدعاء أن ربطة العنق لم توجد ولا الشمس بازغة وأن الأمر لم يكن كذلك، وهي ميزة مثل هذه الأعمال البريطانية... هذه المعلومات العامة كوّنت الهيكل الأساسي الذي بني عليه السرد الروائي والمتخيل في العديد من جزئياته وفقا للتحريات والاستنتاجات الدرامية، كما هي الحال بالنسبة للأعمال السمعية-البصرية التي مواضيعها أبطال صنعوا التاريخ... أو بصفة أكثر، وضوحا شخصيات هي "التاريخ على حصان أبيض" كما كان "هيغل" يصف "بونابارت". ولا موجب لنكون عباقرة زماننا حتى نستخلص سلسلة المآسي الناجمة عن اعتقاد أحد ما أنه "الكل"، أنه "الحقيقة"، أنه "التاريخ"... ولا يمكن لأحد له درجة ولو قليلة من الآدمية أن ينكر أن صدام آمن أنه "الكل" و"الحقيقة" و"التاريخ". بالتالي، ليست هذه الرباعية درسا في تاريخ العراق ولا هي تحليل لسياسة الشرق الأوسط ولا هي عنوان السياسة الغربية للمنطقة في موضوع موارد الطاقة النفطية.. ولا شيء أكثر من أنها فرجة قائمة على شخصية فريدة يتمنى أي كان من المخرجين العمل عليها ويتمنى كل ممثل تجسيدها بسيئاتها وإيجابياتها كما تؤدى الشخصيات المعقدة مثل "كاليغولا" و"نيرون" و"المعز الفاطمي" وصولا إلى "هيتلر" و"ستالين" "فرانكو" و"ماو" و"كاسترو" وحتى "تاتشر" و"بوش الإبن" وغيرهم كثيرون يعج بهم حاضر وذاكرة الشعوب... كلنا يعلم أن الرئيس العراقي السابق صدام حسين كان "سادد باب البلا" في بلاد بها مئات الملل والنحل والتيارات الدينية والأيديولوجية والإفكاريات الثقافية المتضاربة، بلد اتسم تاريخه بعنف شديد جعل كلمات "الحجاج" عنوانا لتربة دموية على مدار القرون... هذه الأرضية... وهو ما جسدته الرباعية في مواطن عدة منها مشهد وفاة والدته وتحرره من سلطتها العشائرية والابتعاد عن شقيقة البرزاني، ناهيك عن مقتل أعز أصدقائه في مشهد يقول فيه الرئيس: "الرجل الذي يضحي بأعز أصدقائه رجل لا يعرف الضعف... الأن، أصبحت الأقوى في نظر أعدائي"... وحلقة هذا المساء تبين لنا تلك الشحنة الكامنة في شخصه حين نراه صحبة ابنه "عدي" وبيده المسدس، وهو يقول وكأنه يخاطب نفسه :"تظن بأن العنف ضرب من ضروب اللهو في حين هو وسيلة"... حينها نؤمن أن "روزبود" المواطن "كين" هي فيما يخص الرئيس العراقي، ذاك الشعور بالنقصان والمهانة اللذين سحبهما على بلاده ثم على المنطقة العربية، فتصبح الصورة حقيقة في حين هي ليست إلا صورة تماثل الواقع كما يقول أندري بازان... وهو ما ننساه دائما حينما نجلس لشاشة السينما أو التلفزة أو يقع بصرنا على "صورة" لحدث ما... النعامة والأرض الصخرية عند تصوير الرباعية في العام الماضي ببلادنا، قام متعهدو القومية العربية وحراس الوعي الناصع بحملة ضد كل من خولت له نفسه الأمارة بالسوء ليس فقط العمل في فيلم "غربي" عن "القائد الرمز"، بل أيضا الوقوف أمام ممثل غير عربي يؤدي دور "بطل العروبة"، بل الأنكى والأمر أنه إسرائيلي، آت من "الكيان الصهيوني"... ومهما كانت أسباب رفض الممثلين التونسيين الاستجابة لهذا الضغط الغبي، فإنهم بعملهم في هذه الرباعية مارسوا حقهم كفنانين أحرارا يختارون أدوارهم بحسب قناعتهم... ولا أحد له حق محاكمتهم على ذلك. ثم أعيدت النغمة المشروخة ذاتها حينما بثت قناة "نسمة" الحلقة الأولى من هذه الرباعية التي شاهدها في بريطانيا أكثر من 3 ملايين مواطن. فلم لا يشاهدها التونسي وهي التي لا تمس، من أية زاوية كانت، عناصر التماسك الاجتماعي والثقافي ببلادنا... قالت الجوقة أنه من الخيانة للعروبة وللشهيد الرمز بث هذه الرباعية. الأمر مغلوط في الأساس لأننا اليوم نرزح تحت ثقل الرموز العربية الإسلامية التاريخية حتى بات حاضرنا ومستقبلنا في عداد الماضي. ثم أن أصحاب الجوقة، ولا أحد أعطاهم شرعية السماح أو المنع، اختاروا منطق الحجب عن حرية المعرفة وهم يعلمون جيد العلم أن أكثر من 80 في المائة ممن لهم هوائيات رقمية في تونس وهم الغالبية الغالبة لن يترقبوا إشارتهم لمشاهدة العمل وأعمال أخرى لا يرضون لا هم ولا غيرهم عنها... ثم حتى ولو بثتها القناة الوطنية، من قال أن المشاهد سيشاهدها؟ بالتالي، الوصاية على المشاهد علامة من علامات "التوتاليتارية" الفنية في زمن حدوده المعرفية مفتوحة، وهو ما تنطبق عليه صورة نعامة تود إخفاء رأسها في الرمل وتحجب حقيقة الواقع في حين أنها في أرض صخرية رخامية. أليست صورة مضحكة/مبكية تلك التي ترى دائما المشاهد على هيئة القاصر عقليا ومعرفيا، مراهقا غير راشد في اختياراته، متسرعا في انتماءاته، طفيليا في قناعاته؟ فرغم ما لرباعية "منزل صدام" من نواقص فنية ودرامية وسياسية يمكن التعرض إليها وتفكيك إفكاريتها، لا يجب أن ننسى أنها عمل روائي، فني هو باب مفتوح للنقاش والجدل... والنقاش والجدل هما من أسس الديمقراطية التي لا يمكن أن تنتعش إلا حينما تكون المعرفة والحرية المرجع في إطار مسؤولية الضمير طبعا... أما المطالبة بالحجب والمنع مهما كان السبب، فهي ليست من شيم المواطنة والتحاور السلمي في شؤون الدين والدنيا... ومشاهدة طيبة للحلقة الثانية من رباعية "منزل صدام" هذا المساء على قناة "نسمة"...