تونس الصباح إن كانت المشاركة الالمانية في الدّورة الحالية لايام قرطاج المسرحية أثارت فضول جمهور المهرجان وضيوفه لانها المرّة الاولى التي تقع فيها استضافة المسرح الالماني بهذه التظاهرة فهي بالنسبة للمخرج روبارتو شيولي تتويج لجهود وسعي لتقديم عمله بتونس تواصلت ستّ سنوات. وقد عبّر عن ذلك باللغة الفرنسية لكن ليس بدون لكنة ألمانية عندما صعد على الرّكح دقائق قبل أن ترفع الستارة عن مسرحية "موت دانتون" للمؤلف الالماني بوكنار. وبما أن روبارتو شيولي الذي أخرج كذلك العرض الثاني المشارك في أيام قرطاج المسرحية "غاسبار" لبيتر هاندكي والعرضان من انتاج مسرح الرّور" الالماني، بما أن المخرج - بحكم خبرته الطويلة -يشعر بأهمية دوره في التبليغ بكل ما يفيد حول عمله سواء تعلق الامر بالمحتوى أو المعالجة الفنية فإنه حرص على تقريب المسافات بينه وبين الجمهور التونسي واستباق كل الاشكاليات الناتجة عن عدم التعود باللغة الالمانية في بلادنا من خلال تقديم نبذة مطولة نسبيا حول العرض قبل مشاهدته. وإن كان المخرج يتميّز كذلك بتجربة طويلة تجعله ربما في أوساط أخرى غنيّا عن التعريف فهو يعي جيّدا أن مسرحه وباستثناء قلة من المهتمين يظل غير معروف جدا لدى الجمهور التونسي. عرضت مسرحية "موت دانتون" في سهرة الخميس بالمسرح البلدي بالعاصمة. واكبها في البداية جمهور كبير العدد ولكن ما فتئ يقلّ مع مرور الوقت. وقد ساهم طول مدة العرض, حوالي ساعتين و40 دقيقة واعتماد العرض على الخطابة وبالتالي على اللغة بدرجة أولى في قرار نسبة هامة من الجمهور عدم البقاء إلى نهاية العرض. ولم تكن الترجمة الفورية إلى اللغة الفرنسية لتقوم بدور هام في تيسير عملية التلقّي لان اللوح كان في مكان عال جدا والحروف لم تكن ببنط عريض.. ما يكفي كي يشاهدها أغلب الحضور. الثورة تأكل أبناءها استمرّ في القاعة مع ذلك عدد لا بأس به من الجمهور خاصة من طلبة المعهد العالي للفن المسرحي ومن الفنانين ومن أصحاب الرغبة في اكتشاف تجارب ابداعية جديدة. تدور أحداث مسرحية "موت دانتون" المقتبسة عن عمل للمؤلف الالماني بوكنار حول الثورة الفرنسية الشهيرة وتحديدا حول الصراع بين رمزين من أكبر رموز هذه الثورة وهما روباسبيار ودانتون. ولا بد من كلمة حول المؤلف الذي عاش خلال بداية القرن التاسع عشر والذي يعتز به الالمان كأوّل مؤلف لدراما اجتماعية بألمانيا. لم يتجاوز الرجل من العمر 23 سنة عندما توفي نتيجة إصابته بمرض قاتل ولكنه ترك آثارا وإن كانت قليلة في عددها (مسرحيتان. الثانية لم تكتمل عند وفاته وعمل كوميدي واحد) فهي غنيّة بما ألهمته من أعمال فنيّة مازالت على ما يبدو تستجيب لذائقة اليوم. وكان بوكنار ناشطا سياسيّا إلى جانب دراسته للطب والعلوم الطبيعية والفلسفة. ووجد نفسه في أكثر من مرة مظطرّا للفرار من بلده والاستقرار ببلدان أوروبية أخرى من بينها فرنسا وكان توفي بزوريخ (سويسرا) بسبب نشاطاته وأفكاره السياسية. ويعود اهتمامه بالثورة الفرنسية (1789) إلى تلك اللحظة التي اكتشف فيها عبث الاقدار وكيف يمكن أن تكون طبيعة البشر تنطوي على ذلك الكمّ من الوحشية والعنف أحيانا. في الترويع والترهيب ويمكن القول أن المخرج روبارتو شيولي كان من خلال مسرحية "موت دانتون" وفيا لروح هذا المؤلف. وضع العمل المسرحي وجها لوجه روباسبيار الذي قاده نجاح الثورة الفرنسية وانتصابه على رأس فرنسا إلى إقامة نظام سياسي دعامته الترويع والترهيب وقطع الرؤوس و"دانتون" الوزير بالحكومة الجديدة والذي كان يمثل الشق المرن في الثورة. الصراع تاريخيا كان قائما بين "نادي الجاكوبان" و"الجيرانديون" أي بين الراديكاليين وما يمكن أن نصفهم بالمعتدلين. انتهى الصراع بوضع رأس دانتون تحت المقصلة بدفع من خصمه ليكون مصير روباسبيار مماثلا كذلك لتنتهي الثورة وكما هو معروف بأكل أبنائها. تخوض المسرحية في هذه الاحداث التاريخية لكن المخرج يحوّلها إلى لحظات محاسبة للذات. كنا نفقه بصعوبة معنى الكلمات لان آداء الممثلين وخاصة بطلي العمل "ولكر روس" (دانتون) و"كلوس هيرزوغ" (روباسبيار) كان مغريا ومستحوذا على الاهتمام مما يجعل الخيار صعبا بين متابعة الترجمة الفورية ومشاهدة آداء الممثلين ولئن كنا نفقه بصعوبة فحوى الخطاب فإننا كنا نشعر بتلك الحالات النفسية التي يريد الممثل تبليغها. كنا نشعر بوخز الضمير وبالحيرة. كان فهم الخطاب مهما جدا في هذا العمل عندما نعلم أن كلا من روباسبيار ودانتون محاميان وثوريان مما يعني قدرة كبيرة على الخطابة. تحول ركح مسرح مدينة تونس إلى ساحة عامة تتوسطها عربة هي في الاصل تستخدم لحفلات "الكرماس" فإذا بها تتحول إلى آلة لقطع الرؤوس المتساقطة في مشاهد فضيعة، لحظات بائسة تتحول فيها البشرية إلى كائنات مسعورة لا تبحث إلا عن الدم وقطع الرؤوس. تتبعثر الاشياء على الركح وتتحول النساء أحيانا إلى كائنات معاقة وتتداخل مختلف الشواهد على العبث وحالات العربدة. يقوم مسرح "الرور" على مجموعة من العناصر لا يقل الواحد فيها أهمية عن الاخر وقد أوضح ذلك المخرج روبارتو شيولي بنفسه خلال تكريمه في جلسة خاصة بالاحتفاء بالمسرح الالماني اقيمت صباح الجمعة بالعاصمة بحضور الفنان محمد إدريس مدير أيام قرطاج المسرحية والوفد الالماني وعدد من الفنانين التونسيين ومن ضيوف المهرجان وسط مواكبة إعلامية واسعة. قال روبارتو شيولي أن الجمهور عنصر أساسي في مسرح "الرّور". لذلك كان الممثلون عادة ما يخاطبون الجمهور مباشرة خلال العرض وكانوا يجهدون أنفسهم لخلق حالة من التواصل مع الحضور. ويمكن أن ندرج هذا العمل ضمن الاعمال التراجيدية وأن نجد فيه كذلك نفس "سوفوكليس" خاصة عندما تقود التراجيديا الشخصية التي تكون على قاب قوسين من قدرها المأساوي إلى الاعتراف بضعفها. يعود "دانتون" مثلا إلى زوجته يبوح لها بخشيته من المصير المحتّم ويكشف لها عن المشاعر المتناقضة التي يحياها في هذه اللحظات الصعبة.. لم يكن الشعر غائبا بالمناسبة وكانت الفلسفة حاضرة ذلك أن كثيرا من الجمل المترجمة كانت تبحث في حيرة البطل أمام الوجود. يستغرق العمل كما سبق وذكرنا ما يقرب من ثلاث ساعات ممّا يتطلب من الممثل تقسيط جهده وهو ما جعل العمل يبدو في البداية معتمدا على نسق بطيئ لكن النسق بدأ يتصاعد شيئا فشيئا حيث شاهدنا حركة أكبر على المسرح ولحظات طريفة استمعنا فيها حتى إلى قهقهة الجمهور. وتضمن العمل مشاهد معبرة جدا حتى أننا شعرنا أنه يمكن أن نستغني عن اللغة وهكذا نعود إلى ما كان قاله المخرج قبل بداية العرض عندما ذكر أن المسرح ليس لغة فحسب مضيفا أنه يمكن أن تعوض الكتابة الدرامية الكلام أحيانا. كان المخرج قد نبه كذلك الجمهور أنه يقترح قراءة في النواحي السلبية للثورة الفرنسية أو الجانب المظلم في هذا الحدث التاريخي الهام لكن العمل كان عبارة عن قراءة مجردة في عبث الاقدار وهي قراءة قد تصح طبعا خارج أسوار فرنسا.