تعود تجربة المخرج المسرحي الالماني روبارتو تشولي ضيف أيام قرطاج المسرحية في دورتها الجديدة الجارية إلى الستينات بألمانيا تجربة طويلة توجها بتأسيس مسرح "الرّور" منذ ثمانينات القرن الماضي. هذا المسرح الذي كان سبّاقا في الدعوة إلى إعادة النظر في جوهر الممارسة المسرحية. لكن إن كان روبارتو تشولي من بين الاسماء المرجعية في المسرح الالماني اليوم فإن مهمته لم تكن يسيرة. فهو ظل لسنوات طويلة ذلك المهاجر الايطالي الذي تخطى أسوار مدينة المسرح الالماني الحصينة بتقاليدها وضوابطها. فكرة عن هذه المسيرة الطويلة وعن صدى المشاركة الالمانية الاولى بأيام قرطاج المسرحية منذ بعث هذه التظاهرة نستعرضها مع روبارتو تشولي في الحديث التالي. * أعلنتم أمام الجمهور قبل عرض مسرحية "موت دانتون" عن الارتياح لوجودكم بتونس بعد ستّ سنوات من الانتظار. هل كان الامر على هذه الدرجة من الصعوبة؟ إن تنقّل الفرق المسرحية خاصّة إذا كانت كبيرة العدد من الامور المعقدة. وبما أن مسرح "الرّور" يعتمد على مجموعة من العناصر كبيرة نسبيا (45 عنصرا) فإن تنقلنا يصبح صعبا لكن ذلك لم يمنع من أن تفضي الجهود المشتركة لمدير أيام قرطاج المسرحية في دورته الجارية (14) ومديرة معهد "قوتة" الالماني بتونس إلى توفير الامكانيات التي سمحت بلقائنا أخيرا بالجمهور التونسي. ولئن حرصت شخصيا على المشاركة في أيام قرطاج المسرحية فلايماني بأنه من المهمّ أن نقدّم مسرحنا في تونس هذا البلد الشاب أمام الجمهور التونسي الذي يتكون أساسا من الشباب. مسرح "الرّور" مسرح ذكيّ يقوم على تقديم عمل صادق ومشحون بالاحاسيس الانسانية ولذلك يهمّني جدا أن نسافر وأن نعرّف بهذه التجربة. الثقافة هي الضحية * ربما يكون تشيّعكم لنوعية من المسرح تصفونها بالذكيّة مشروعا لكن هل يمكن الحديث اليوم عن مسرح ذكيّ في ظل مجتمع يقوم على الترفيه وتحويل الثقافة إلى بضاعة للتسلية بالاساس؟ سبق وأن قال الشاعر الكبير "لوركا" أن لكلّ بلد المسرح الذي يستحقّه. وأعتقد أن الامور لم تتغير. إذا كان المجتمع يستثمر من أجل مسرح جيد فإنه سيكون له ذلك المسرح الذي يسعى إليه والعكس صحيح. * قد لا تخفى على المهتم قيمة المسرح الالماني وعراقته لكن هل من فكرة محددة حول موقع المسرح اليوم بالمجتمع الالماني وإلى أي حد يمكن أن يمثل مسرح الرّور هذا المسرح عموما؟. لا يعتبر المسرح الالماني من أفضل المسارح بأوروبا فحسب وإنما أكاد أقول أنه أفضلها في العالم. يتمتع المسرح الالماني بهياكل قوية وتعتبر ألمانيا من أبرز الدول في العالم التي أنفقت من أجل المسرح. لكن المأساة اليوم تتمثل في أن الازمة المالية التي شهدها العالم تدفع السياسيين إلى مراجعة نسبة النفقات بالمجتمع فتكون الضحية الاولى لهذه السياسة الثقافة. فلا يمكن مثلا أن نفكر في التقليل من النفقات الخاصة بالصحّة أو التعليم إلخ... وخلافا لما يمكن أن يعتقده الناس فإن الثقافة لا تزال تعتبر حتى في بلد متقدم على غرار ألمانيا من الكماليّات. بالنسبة لمسرح "الرور" يمكن القول أننا نعتبر استثناء بألمانيا.. إن تأسيسنا لمسرح الرّور يعتبر تحدّيا كبيرا لانني حتى وإن كنت حاملا لشهادتي العليا في الفلسفة وحتى وإن كنت انتقلت للعيش بألمانيا منذ الستينات فإنني أبقى ذلك المهاجر القادم من إيطاليا والذي يريد أن يجد لنفسه منفذا في الساحة غير مبال بتلك البيروقراطية التي تحكم المسرح الالماني ولا بالنقد الصارم. لا بد من الاقرار مع ذلك بأمرين اثنين. أولا أنني خضت تجربة كبيرة بالمسرح الالماني قبل المرور إلى تجربة تأسيس مسرح خاص. عندما أتيت إلى ألمانيا كنت مخرجا مسرحيا ولكنني قبلت بالعمل وكأنني فنان مبتدئ. مررت بعدة مراحل وأدرت أحد أكبر المسارح بألمانيا. الامر يتعلق بمسرح " كولونيا " الكبير الذي يشغّل حوالي 300 عنصر. ثانيا كانت الحياة المسرحية بألمانيا تسمح بنشأة مجموعات صغيرة إلى جانب المسارح الكبرى والمسرح الرسمي. وإذا ما عدنا إلى مكانة مسرح" الرّور" اليوم بالساحة ككلّ فإنه يمكن القول بدون تردد أن مسرح "الرّور" كان أوّل من وضع أسلوب عمل المسرح الالماني محل تساؤل وهو المسرح الاول الذي جعل من عملية الخلق جوهر الفن المسرحي. لقد ساهمنا في بعث ما يمكن أن نطلق عليه بالديمقراطية في عالم المسرح. فهم اللغة والملل * يدافع روبارتو تشولي على ما يسميه بلغة عالمية تسمو على باقي اللغات، الامر يتعلق باللغة المسرحية لكن الجمهور التونسي وقف على تجربتين خلال أيام قرطاج المسرحية تركّزان بالخصوص على اللغة ممّا جعل الانطباع يسود بأن عدم فهم اللّغة الالمانية شكل ربما عائقا أمام متعة المشاهدة. مازلت أعتقد أن اللغة لا تقف حائلا دون تلق جيد للعمل المسرحي. وأنا شخصيا أفضل أن أذهب إلى مسرح لا أفهم فيه اللغة (لغة الكلام). فهم اللغة بالنسبة لي يعني الملل أما عدم القدرة على تشفير اللغة فيعني لي السفر. وبكلمات أخرى عندما أكون إزاء عمل يتيح لي فرصة السفر فإن ذلك يعني إيذانا بالبدء في عملية خلق جديدة. تماما كما لو كنت تطالع كتابا. عندما تكون بصدد المطالعة تكون في رحلة وليس بالضرورة أن تكون هذه الرحلة ملتصقة بالاسطر التي تقرؤها. المسألة كلها يمكن تلخيصها في ذلك التركيز الذي يصبح واضحا عندما نكون في حضرة عمل فني لا نفقه لغة الكلام فيه. * تعرضت مسرحية "موت دانتون" للجوانب السلبية في الثورة الفرنسية لكنك تدرك حتما مكانة الثورة الفرنسية في وجدان العالم؟ من يكتب التاريخ؟ التاريخ وكما تعلمين يكتب دائما من طرف المنتصر وعلينا أن نجازف بمحاولة كتابة التاريخ من وجهة نظر الخاسرين. عندما كتب "بوشنار" عن الثورة الفرنسية، توقف عند الصراع بين "دانتون وروباسبيار " لكن الارهاب تواصل إلى فترة "سان جرست" وذلك الخطاب الفاشي الذي يعلن أنه من الممكن أن نقتل الجميع من أجل فكرة. تفضح هذه المسرحية ديكتاتورية الزعماء السياسيين ولكنها لا تتجاهل أيضا ديكتاتورية الشعوب وعطشها أحيانا إلى الدماء. * تقوم ممثلة بآداء دور "غاسبار" أبرز شخصيات مسرحية "غاسبار" التي عرضت أمام الجمهور التونسي. ما هي الفلسفة من وراء هذه الاختيارات؟ غالبا ما أجعل المرأة تتقمص دور الرجل وبطبيعة الحال أمنح أدوار بعض النساء لرجال. تستهويني هذه الجدلية من منطلق أن الفن لا يمتثل لمنطق التقسيمات البيولوجية وغيرها وأن الفنان يمكنه أن يتجول بين عالم المرأة والرجل بحرية مستندا بالاساس على قدراته على الاداء وإقناع المتلقي بعمله. الجدار الفاصل * يحتفل العالم هذه الايام بمرور عشرين سنة على إزالة جدار برلين. كيف تعامل المسرح الالماني مع قضية الجدار الفاصل بين الالمانيتين؟ قبل الاجابة عن هذا السؤال لابد من القول بأن المسرح بالمنطقة الشرقية من ألمانيا كان أفضل كثيرا رغم امكانياته القليلة... لا أقول ذلك من منطلق الحنين إلى الماضي لكنني وبما أنني عشت منذ هجرتي إلى ألمانيا بالمنطقة الغربية فإنني أستطيع المقارنة بشكل جيد. لم يكن مسرح "الرّور" يعترف بالحدود بين الالمانيتين وكنا يوم 9 نوفمبر تحديدا من سنة 1989 نعرض مسرحية " غاسبار" بألمانياالشرقية. أما قضية الفصل بين الالمانيتين فهي تبقى محورا هاما ضمن اهتمامات المسرح الالماني بالالمانيتين. * تعول كثيرا على النصوص القديمة على غرار نصوص "بوشنار" فهل ترى أن الكتابة الحديثة أقل قدرة على تبليغ أفكارك إلى جمهور اليوم؟ إن عراقة المسرح الاوروبي تجعلنا أحيانا نشعر أن الذين سبقونا منذ النهضة قد كتبوا في كل المشاغل التي تهم الجمهور ومن واجبنا اليوم عندما نعول على هذه النصوص أن نكسوها كساء عصريا يجعلها من جهة لا تموت ومن جهة أخرى لا تبدو غريبة عن العصر. * هل يمكن تقييم مشاركتك الاولى بأيام قرطاج المسرحية؟ كان من الطبيعي أن يكون اللقاء الاول صعبا بعض الشيء، لكنني أعتبر أننا حققنا كسبا فقط من خلال ذلك المشهد من المسرحية الذي كانت تردّد فيه احدى الممثلات جملة تفيد بأنه "يجب أن نتصرف" وقوبل بتصفيق حار. في تلك اللحظة فهمت أن شيئا ما وصل الجمهور التونسي وسعدت كثيرا بذلك أما خلال عرض المسرحية الثانية "غاسبار" فقد كان الجمهور التونسي رائعا بأتم معنى الكلمة. * تعرف جيدا المسرح العراقي والمسرح الايراني، فهل لديكم فكرة عن المسرح التونسي؟ أهتم منذ سنوات بالمسرح التونسي وأستقبل باستمرار فرقا مسرحية وأعرف جيدا مسرح توفيق الجبالي والفاضل الجعايبي وسبق أن نالت الممثلة التونسية صباح بوزويتة جائزة هامة يقدمها مسرح "الرّور" منذ عشرين سنة تقريبا مرة كل سنتين لافضل ممثل. وأعتقد أن مشاركتنا بأيام قرطاج المسرحية ستكون الانطلاقة نحو علاقة وطيدة وتعاون أتمنى أن يكون مثمرا