يقدّم الفنان التشكيلي عمارة غراب لوحاته الجديدة برواق «آر ليبريس» وفيه طرح تشكيلي يراوح بين الزيتي والتنصيب الهندسي والتفاصيل ضمن هذا العرض. لعلّ التكوين القويم في الفنون التشكيلية الذي اكتسبه عمارة غراب من معهد الفنون الجميلة بتونس ثم الفنون الجميلة بباريس قد مكّنه من التعبير عن طريقة الرسم الزيتي وتقديم لوحاته خلال عدة معارض شخصية أقامها منذ أواخر الستينات ولكن معاشرته الحميمة للفنان الفرنسي «ماتيس» قد شوّقه لاستكشاف أبعاد الفضاء بطريقة معمّقة فدرس الهندسة المعمارية في باريس ومارسها لمدة 25 عاما. ومنذ أربع سنوات عاد إلى الرسم الزيتي ليكرّس كامل أوقاته لهذا الفن. فالمعرض الحالي يجذبنا إلى عالم من الأحلام المتداخلة بين المهندس المعماري والرسام. تحدثنا اللوحات عن «مكان أو فضاء آخر» ليس بغريب عن عالمنا عن مستقبل غير منفصل عن ماضينا عن أحلام لا تناقض واقعنا بل تدفعه إلى عالم أكثر جمالية وبه «يوطوبيا» ممكنة. اللوحات المعروضة ترتبط بمحورين أساسيين فمن خلال تركيبات فضائية، تدخلنا لوحات «النور والفضاء» في قلب عالم يتفاعل فيه الإنسان تفاعلا تاما مع البيئة والنور ويستعمل عمارة غراب معرفته الحميمة بالأشكال المعمارية لينسج من خلالها مدينة سحرية فيدخلنا في عالم مليء بالجمال المتناغم ويذكرنا ذلك بكلمة الفنان الفرنسي "ماتيس": «أن الفنان يستنبط ممّا حواليه وكل ماهو قادر على تغذية رؤيته الداخلية فهو يتغذّى داخليا من كل هذه الأشكال ثم يسيطر عليها ثم يرتّبها في يوم ما حسب إيقاع جديد». البعد الرابع فاللوحة «فضاء في أربعة أبعاد» مثلا تدعونا إلى رحلة صوفية تدفعنا من العالم التقليدي إلى عالم آخر، عالم المستقبل المتحرّر من القيود والمليء بالبهجة. وقد يكون «البعد الرابع» هو البعد الروحي الذي يقودنا دائما أعلى وأبعد وأعمق... وفي هذه اللوحة تتداخل العناصر المعمارية والأشخاص والنبات، في مزيج من الألوان وكما ذكر الفنان الروسي "كاندنسكي": «على الفنان أن يُهذّب نظره، ليست عيناه فقط بل أيضا روحه حتى تصبح قادرة على وزن الألوان على الميزان، وتكون قوّة فعّالة في إبداع الأعمال الفنية». ففي اللوحة المسماه «الباب السماوي» مثلا نجد أشكالا وألوانا كاملة التجريد، بعيدة عن الإشارة لأشياء مادية ولكن يتّضح أنها تخضع إلى «الضرورة الداخلية» المحبّذة لدى «كاندنسكي». النور الليلي لوحة «النور الليلي» من جهتها مثلا لها جاذبية ساحرة تدخلنا إلى التأمل. ففي أسفلها نشاهد لقطات مختلفة من حياة الأشياء وحياة النبات ذات الألوان الزاهية والأشكال المتلألئة وفي أعلاها نجد كوكبا قد يكون الشمس أو القمر. كوكب حي تعبره طاقات كأنها سراب متحرّك والصلة بين الجزئين محقّقة بموجب شكلين عجيبين لا ندري هل هي مجرّد أشكال رمزية أم حروف «هييروغليفية» أم أشخاص أم أمناء لفضاء مقدس.... بدلا من أن تكون تفسيرية. فهذه الصلة الرائعة تزيد من الجو السرّى أو الباطني للمشهد. كل هذه العناصر تسبح في فضاء أزرق اللون، شكلي الصبغة، تنطلق منه إضاءة سحرية... إن زيارة معرض عمارة غراب تؤكد هذا الإحساس وهذا الإنسجام والإنشراح والبهجة وفي نفس الوقت تناشد طموحاتنا إلى عالم روحاني ذو صبغة جمالية وحقيقية أبديّة لا نهاية لها... أليس الفن هو تلك المسحة من الكون... و عالم عمارة غراب هو كذلك.