تبدو أوروبا أمام امتحان عسير هذه الأيام، على خلفية نتيجة الاستفتاء الشعبي الذي أجري مؤخرا في سويسرا، وأفضى إلى حظر تشييد المآذن في هذا البلد العريق في مجال حقوق الإنسان والتعايش بين الأديان المختلفة.. كانت سويسرا دائما "قلعة" تكاد تكون مختلفة عن بقية الجغرافيا الأوروبية، فهي تضم جميع الديانات الإبراهيمية، وخليط من ثلاثة شعوب تتحدث الألمانية والفرنسية والإيطالية، والأهم من كل ذلك، أن جميع هذه المكونات تعيش تحت سقف واحد منذ أمد بعيد، من دون أن تطرأ مشكلات التمييز فيما بينها، سواء لأسباب دينية أو عنصرية أو غيرها.. فوجئت عديد العواصم الأوروبية بهذا الاستفتاء السويسري المثير، وتحركت في الكثير منها "النعرة الحقوقية"، على الرغم من سجلها الذي بات ينضح بالتجاوزات في هذا الحقل بالذات، خصوصا خلال السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (العام 2001)، ثم زلزال احتلال العراق سنة 2003، وتداعياتهما على ملف حقوق الإنسان وثقافة التسامح والتعايش التي ميزت أوروبا منذ عصر الأنوار.. تحركت فرنسا وألمانيا والسويد والفاتيكان والقيادات الدينية المسيحية الأخرى في قلب أوروبا، بل من داخل سويسرا بالذات، في نوع من "الهبّة" السياسية الرسمية، وضمن حالة ذهول لهذه الخطوة التاريخية غير المسبوقة المسجّلة في سويسرا، سيما وأن عدد المسلمين هناك لا يتجاوز الأربعمائة ألف نفر، غالبيتهم، إن لم يكن جميعهم، يتمتعون بالجنسية السويسرية، وبالتالي فهم في عداد المواطنين السويسريين، أو هكذا يفترض أن يتم التعامل معهم، بما يعني أن اتجاه الاستفتاء لم يكن يترجم ثقافة المواطنية التي عرفت في سويسرا كما لم تعرف في عواصم أوروبية أخرى.. ليس من السهل أن تقدم سويسرا على خطوة من هذا القبيل، فالأمر لا يتعلق بتداعيات داخلية فحسب، وإنما خطورتها تكمن بالأساس في انعكاساتها على أوروبا وعلى القوس الإسلامي فيها بالذات، وهو قوس شديد الحساسية من ناحية، ومفتوح على احتمالات عديدة من ناحية أخرى، وهو ما يفسر إلى حدّ كبير، "التعقيب" الذي ورد على لسان وزيرة الخارجية السويسرية، ميشلين كالمي، التي خرجت في أعقاب يومين تاليين لهذه الضجة وردود الفعل المرافقة لها في الغرب كما في الشرق، لتقول، بأن الاستفتاء الشعبي الذي يحظر المآذن، "يعرّض أمن سويسرا للخطر"، معربة عن "قلقها بسبب هذا التصويت" للناخبين السويسريين، وهو مؤشر شديد الأهمية يترجم حجم "الضربات الموجعة" التي تلقتها سويسرا خلال بضعة أيام فحسب، أوروبيا وعربيا وإسلاميا وحقوقيا، بما ينزاح بها إلى سياقات التطرف والعنف وردود الفعل شديدة التشنج، بدت جينيف بعيدة عنها خلال السنوات الماضية، على الرغم من بلوغها معظم العواصم الأوروبية الأخرى.. على أن الاستفتاء السويسري الأخير، يدعونا إلى التوقف عند جملة من الملاحظات أهمها : حركة التطرف والعنصرية التي نمت في سويسرا في غفلة من دعاة حقوق الإنسان والتسامح وثقافة التعايش والتعدد واللاتمييز.. وهي حركة استفادت مما يجري في عواصم أوروبية أخرى منذ عدة سنوات، سواء في فرنسا أو إيطاليا أو إسبانيا أو السويد أو هولندا أو النمسا أو غيرها.. ومعنى هذا أن العنصرية لم تعد ظاهرة فحسب، بل جزءا لا يستهان به من الوعي الأوروبي الجديد، الوعي العولمي الذي لا تبدو تداعياته على المحيط العربي فقط، بقدر ما تمتدّ إلى الغرب بشكل عام.. بانخراط سويسرا في حالة التخوف من الإسلام والمسلمين، بعد أن ظلت لفترة طويلة في منأى عن هذا السياق العدائي للإسلام وأهله، تكون أوروبا قد دخلت بطم طميمها عصر المواجهة مع ما يعرف ب "الإسلام السياسي"، وهي مواجهة قد لا تتوقف عند حدود التنديد والتظاهر السلمي، وإنما تؤشر لوضع جديد في أوروبا سيكون من الصعب التكهن به حاليا.. إن الخطاب السياسي الغربي، خصوصا الرسمي منه، الذي ما انفك يتحدث عن ضرورات الحوار بين الإسلام والغرب، لا يبدو أنه خطاب نابع من قاع المجتمع الغربي، بقدر ما هو منبتّ عن تربته تلك، التي كانت تتغذّى من الثقافة العنصرية الكامنة في الوعي الغربي منذ عقود طويلة، إن لم نقل منذ قرون خلت.. فثمة تمفصل بين خطاب الحكومات الغربية وشعوبها ونخبها السياسية والثقافية، تعكسه بين الفينة والأخرى، بعض "الإنفلاتات" العنصرية التي تظهر هنا وهناك، في هذه العاصمة أو تلك، وهو ما يؤشر لمأزق غربي حقيقي وخطير.. لا شك أن نتيجة الاستفتاء السويسري، لا تعكس وجهة نظر شعبية معزولة، وإنما هي نتيجة تحالف بين قوى يمينية عديدة، ولوبيات مختلفة، صهيو مسيحية وعنصرية، تقتات من موجة الغضب والحقد على الإسلام والمسلمين في "الديار" الغربية منذ نحو عشر سنوات على الأقل، بل وتعمل على استثماره كمخزون ل "تفتيت الحصيّات" الدينية، وإلغاء وجودها تماما.. إن نتيجة الاستفتاء السويسري، ليست سوى ناقوسا يؤذن بتداعيات خطيرة على أوروبا، قد تؤثر على ثقافتها ووعيها وفكرها الموصوف دائما ب"التنويري" و"التقدمي" و"الحداثي".. أما الذين يعتبرون أن سويسرا تدافع عن ثقافتها وحداثتها ضدّ "العنف الإسلامي" و"الأصولي"، فلا يفعلون سوى صبّ الزيت على النار العنصرية الكامنة تحت الرماد الأوروبي، والتي تنتظر من يوقظها ويهيئ لها ظروف زفيرها الذي لا يبقي ولا يذر..