قد يكون من السابق لأوانه الحديث عن مرحلة ما بعد أزمة نهر البارد برغم الحسم العسكري لإحدى أسوأ الأزمات الأمنية التي اهتز لها لبنان خلال الأشهر الثلاثة الماضية بعد أن تمكّنت مجموعة «فتح الإسلام» من اختراقه وتهديد أهله بمختلف انتماءاتهم السياسية والدينيّة.. لقد عكست مظاهر الاحتفالات الشعبية والرسمية التي عمت الشارع اللبناني بمجرد الإعلان عن نهاية أزمة نهر البارد إحساسا طالما افتقده اللبنانيون بالارتياح وقرب زوال الكابوس الذي أرق مختلف الأوساط اللبنانية بل وتجاوز حدود لبنان ليثير أكثر من نقطة استفهام حول جذور مجموعة «فتح الإسلام» وأهدافها وحول الطرف أو الأطراف الممولة لها أو غير ذلك من التساؤلات العالقة التي رافقت ظهور الأزمة على مدى ثلاثة أشهر قائضة كانت لها انعكاساتها العميقة على الساحة السياسية والعسكرية اللبنانية الغارقة في انقساماتها واختلافاتها منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في جريمة لا تزال بدورها تنتظر البوح بأسرارها. على أنّ الحقيقة أن أكثر ما يمكن أن يخشاه اللبنانيون أن تكون مشاعر الارتياح هذه مؤقّتة وليست دائمة لعدة أسباب لعل أهمها أنّ الأسباب والدوافع التي كانت وراء أزمة نهر البارد وهي في أغلبها أسباب لم تكشف بعد من شأنها أن تجعل تكرار الأزمة في ثوب جديد احتمالا قائما في كل حين طالما لم يتم تحديد وبحث تلك الأسباب والدوافع التي رافقت ظهور هذه الأزمة واستمرارها على مدى أكثر من مائة يوم كانت بمثابة أسوأ وأعقد اختبار يتعرض له الجيش اللبناني الذي وجد نفسه في أكثر من مناسبة في وضع لا يحسد عليه أمام ارتفاع خسائره البشرية واللوجستية وحتى المعنوية مما دفع بالكثيرين في لبنان أو خارجه الى التندر بقدرات الجيش اللبناني والتشكيك فيها وإخضاعها للمقارنة مع المقاومة اللبنانية كلما تناقلت وسائل الإعلام خبر مقتل عدد من الجنود اللبنانيين في كل هجوم بالمروحيات والمدفعية الثقيلة للجيش على المسلحين المتحصنين في المخيم حتى تجاوزت خسائره المائة وخمسين جنديا. كما أن الصور التي رافقت نهاية شاكر العبسي الذي يعتقد أنه زعيم تنظيم «فتح الإسلام» وهو الفلسطيني الذي ترك الطيران وهجر الطب ليتحول إلى أحد الوجوه الأكثر تطرفا وخطورة في لبنان لا توحي بزوال الأزمة نهائيا ذلك أن صور مماثلة كثيرة قد سبقت في ظهورها صور العبسي وكان الاعتقاد دوما أنها ستكون الأخيرة أو هكذا كان يأمل المسؤولون عن مثل هذه الأزمات في كل مرة وذلك منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر والحرب الأمريكية المعلنة على الإرهاب من أفغانستان إلى العراق بدءا بمقتل الزرقاوي في العراق على يد القوات الأمريكية وصولا إلى مقتل أبو هريرة في لبنان وغيرهما من قيادات التنظيمات المتطرفة المتفرخة في أكثر من مكان... لقد استنزفت أزمة نهر البارد الكثير من قدرات لبنان وأهدرت الكثير أيضا من امكانياته المحدودة بعد أن تصدرت أولوياته وتحولت إلى أزمته الأمنية الأكثر إلحاحا لتتقدم بذلك على مختلف التهديدات الإسرائيلية نفسها وتدفع به إلى تأجيل البحث في الخلافات السياسية العالقة بين المعارضة والموالاة مرة بعد مرة ليبقى لبنان في كل مرة رهينة في مواجهة التحديات والمخاطر المماثلة أمامه. ولا شكّ أن أزمة نهر البارد التي شهد أطوارها أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الأكثر بؤسا وشقاء في لبنان قد سلطت الأضواء مرة أخرى على قضية اللاجئين الفلسطينيين المشرّدين جيل بعد جيل منذ النكبة وما يكابدونه من ظلم وحرمان بسبب إفلاس المجتمع الدولي وعجزه عن الالتزام بقرارات الشرعية الدولية الداعمة لحقوق الفلسطينيين في العودة وتقرير المصير.. وفي كل الأحوال فإن الحسم العسكري لأزمة نهر البارد لصالح الجيش اللبناني من شأنه أن يبقي الجراح مفتوحة لا سيما فيما يتعلق بمصير آلاف العائلات الفلسطينية التي اضطرت لترك المخيم واللجوء إلى غيرها من المخيمات الفلسطينية في لبنان لتضيف إلى سكانها المزيد من الأعباء والمعاناة التي هي في غنى عنها ذلك أن عودة هؤلاء إلى المخيم في الوقت الراهن مجازفة لا حدود لها بعد أن تحول المخيم إلى خراب مما يجعل عملية تحديد المتفجرات والألغام التي زرعها المسلحون قبل هروبهم أكثر خطورة... مرة أخرى لقد اتضح أن أبعاد وانعكاسات أزمة نهر البارد التي كان مسرحها أحد المخيمات الفلسطينية الخانقة في لبنان أعقد وأعمق وأخطر من كل المواجهات العسكرية التي رافقتها ومن كل الخسائر التي آلت إليها حتى أول أمس ولعل فيما كشفته السلطات اللبنانية حتى الآن عن أعضاء تنظيم «فتح الإسلام» من شبان أو جامعيين من ذوي الاختصاصات القادمين من أكثر من بلد عربي ما يدعو أكثر من أي وقت مضى إلى التخلي عن كل خطابات النصر المعدة سلفا والبحث في الأسباب والدوافع الحقيقية الكامنة وراء فقاع التنظيمات المتطرفة التي تخترق مجتمعاتها وتفاجئها بالظهور في كلّ مرة...