لا شك في أن أي قرار لصالح الفعل الثقافي في بلادنا، يستحق التعاطي معه بجدية وإهتمام، خصوصا أن تطلع مجتمعنا للتقدم والتنمية يشترط مزيد منح الثقافة المكانة اللائقة بها وأن تكون في مستوى الاهتمامات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولا ننسى أن المجريات الكبرى اليوم في العالم، قد أثبتت أن ما هو ثقافي، يحصن الفرد ضد أشكال الاذى الكبرى المتمثلة في الاصولية والعنف والانغلاق، بمعنى أن الحل والعقد أصبح من مشمولات البعد الثقافي، بوصفه المرآة العاكسة لمنظومة القيم الثقافية التي تتحكم في إنتاج الافراد للمواقف والسلوكيات والافكار ويتمثل دور الانتاج الثقافي والفني في نحت هذه المنظومة وجعلها منفتحة ومتسامحة ومنسجمة مع ذاتها ومع الاخر. لذلك، فإن نصيب الثقافة في الخطاب الذي قدمه الرئيس بن علي أول أمس في الذكرى العشرين للتحول، كان نوعيا وتصدر قائمة سلسلة القرارات المعلنة. من ذلك الاعلان عن قرار إحداث مجلس أعلى للثقافة، يتركب من شخصيات بارزة من مختلف حقول الثقافة والفن والابداع، كي يسهم - كما جاء في الخطاب - في بلورة الافكار والتصورات التي تساعد على تطوير هذه القطاعات وتعزيز إشعاع بلادنا في الخارج. وفي الحقيقة فإن قرار إحداث مجلس أعلى للثقافة، يعتبر مكسبا بكل المقاييس ويعزز البنية الثقافية ببلادنا ويخلق فرصا لسد الثغرات الموجودة حاليا. ونظن أن توقيت اتخاذ مثل هذا القرار، يعد مناسبا ويواتي توجهات مجتمعنا المدنية. والنخبة الثقافية بدورها تطمح الى تعدد المؤسسات الثقافية والمضي قدما في اتجاه المؤسسات ذات الاستقلالية والتي تقارب المسألة الثقافية والفكرية بشكل مختلف وبمساحات أكبر في الاختيارات والقرارت والتقييمات أيضا. لذلك من المهم أن ندرك الفرق بين وزارة الثقافة والمحافظة على التراث كجهاز ثقافي رسمي وبين مشروع المجلس الاعلى للثقافة، الذي من المفروض أن يحمل طبيعة مختلفة ويقوم بوظيفة محددة وهي وظيفة مشابهة للمؤسسسات الثقافية الاخرى ومغايرة في نفس الوقت.ونعتقد أن أهمية القرار تزداد بتحولها الى أهمية محسوسة ومجسدة الشيء الذي يتطلب بدوره الانتباه الى مجموعة من النقاط، كي لا نهدره - أي قرار إحداث المجلس - كمكسب ثقافي هام، يحتاج من الجميع التجند لضمان قيامه بدوره وبإشباع توقعات المثقفين والمبدعين. ومن هذه النقاط نذكر: - من المهم التفريق بين وزارة الثقافة والمحافظة على التراث وغيرها من المؤسسات الثقافية الكبرى والاساسية على غرار مؤسسة بيت الحكمة والمؤسسة الوطنية للترجمة وبين طبيعة وإستثنائية مشروع المجلس الاعلى للثقافة. القيام بدراسة جمهور خاصة بالنخبة الثقافية الموسعة في بلادنا، لمعرفة إنتظاراتهم وتصوراتهم وكي تكون إهتمامات المجلس في المستقبل وعند قيامه قريبة ولصيقة بشواغل الفاعلين الثقافيين تكليف لجنة منتقاة ذات كفاءة عالية وعمق نظر لزيارة المجلس الاعلى للثقافة بمصر وقطر وغيرهما والاطلاع على التجارب المماثلة في البلدان العربية والاوروبية والتعرف الى أنظمتها الاساسية وطريقة عملها والبنود التي تسير أنشطتها، مع محاولة التوغل للوقوف عند مواطن النجاح والفشل وأخذها بعين الاعتبار كي نتجاوز ما وقع فيه غيرنا أي أن نبدا مستفيدين من تجارب وتراكم المجالس العليا للثقافة في البلدان العربية والاوروبية وأن لا نبدا التجربة من الصفر. من المهم أن يتمتع المجلس الاعلى للثقافة بسقف عال من الحرية الثقافية والفكرية يترجم في طبيعة الاصدارات والوجوه المدعوة والاشكاليات المطروحة.ونعتقد أنه من هذا الباب، يمكننا أن نعول على المجلس الاعلى للثقافة عند قيامه في مزيد إشعاع الثقافة والابداع التونسيين، خصوصا أن الاشعاع اليوم يتحقق بالجرأة والشجاعة الفكرية في وصف الاشياء بأوصافها وتسميتها بأسمائها، وهو ما سيحقق إستقلالية المجلس وإشعاعه الضرورين. إن المنتظر من إحداث المجلس الاعلى للثقافة، يستلزم من الدولة رصد ميزانية هامة وضخمة، دون أن يكون ذلك على حساب ميزانية وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، الشيء الذي يحتم التفكير والبحث عن قنوات تمويلية وطنية وأخرى دولية تكون نتاج شراكة وإتفاقيات أدبية وفكرية تبرم مع منظمات ترعى الثقافة في العالم بعيدا عن تنازلات لا تقبلها النخبة الثقافية في بلادنا و تلتزم تونس في المقابل بالتدليل على أهمية إستقلالية الفكر والقرائح الابداعية. كما أنه من الضروري أن يضم المجلس شخصيات الجامع الوحيد بينها الاسهام الفكري والثقافي والحضور النوعي لها في المشهد الثقافي، بل من الضروري أن تكون هذه الشخصيات متنوعة في توجهاتها، مع ربط جسور التواصل مع مبدعينا التونسيين المقيمين في الخارج والذين تمكنوا بحكم الهجرة من إقامة علاقات ثقافية هامة ومن التعرف على تفاصيل ومكونات المشاهد الثقافية بالبلدان المقيمين في ربوعها. - إن كل هذه النقاط المذكورة وغيرها التي لم يتفطن لها هي من أجل أن تحظى النخبة الثقافية في تونس بمشهد ثقافي ثري ومؤسس وخصب فكريا وإبداعيا وهو ما يمكن أن يتحقق بالارادة الطموحة وبمشروع المجلس الاعلى للثقافة كما نتخيله ونحلم به.