علي حساسنة أولا وقبل كل شيء علينا أن نقف وقفة خشوع واجلال ترحما على أرواح شهداء شعبنا الابرار وتحية إكبار واعتزاز بجماهير شعبنا الأبي التي قالت كلمتها «أن كفى طغيانا وكذبا فليرحل كل الجلادين وزبانيتهم إلى مزبلة التاريخ». وليسمح لي أطباؤنا الاجلاء بأن ابدأ مقالتي هذه باستعمال مصطلحات مهنتهم النبيلة في محاولة مني لتشخيص ما جرى ويجري في بلدنا العزيز والاسهام بما يمكن أن يكون علاجا لما آلت إليه حالة البلاد والعباد ولا أدعي لنفسي الاحقية في ذلك ولكنني انتهز هذه الفرصة لاتوجه بنداء إلى كل القوى الحية وأصحاب الضمائر النيرة والايادي النظيفة أن تتنادى لتنظيم ملتقيات وندوات حوارية قصد بلورة موقف موحد مما يجري وأن تتفق على تشخيص الحالة الدستورية والسياسية التي تمر بها بلادنا لان هذا التشخيص هو الكفيل بتحديد الطرق العلاجية وضبط آليات واجراءات الخروج من الازمة التي من الممكن أن تتردى فيها بلادنا ألا وهي أزمة الفراغ السياسي والفوضى وما يمكن أن يترتب على ذلك من سيناريوهات غير محمودة العواقب، تلك الاليات التي تضع حدا لكل مآسي الماضي البغيض وتؤسس لفجر غد مشرق نرضاه لبلادنا وشعبنا ونرنو إليه. فالسؤال الملح اليوم هو تعريف ما جرى ويجري منذ 17 ديسمبر 2010 إلى اليوم: 1 هل أن ما جرى هو مجرد شغور مؤقت في منصب رئاسة الجمهورية طبقا للحالة المنصوص عليها بالفصل 56 من الدستور أم شغور نهائي طبقا لمقتضيات الفصل 57 من ذات الدستور؟ 2 هل أن ما جرى هو حركة احتجاجية جماهيرية نادت بمطالب اجتماعية واقتصادية في البداية ثم طورت خطابها ورفعت من سقف مطالبها لتنادي باصلاحات سياسية؟ 3 أم أن ما جرى ويجري هو ثورة شعبية بأتم ما تحمل الكلمة من معان وبالتالي على هذه الثورة أن تبلور قياداتها وتجسد نصرها بكنس كل أركان النظام السياسي القائم وتؤسس للمستقبل بأن تبني مؤسسات نظامها السياسي الجديد؟ إن من يعتقد بأن ما جرى يوم 14 جانفي 2011 هو شغور في منصب الرئاسة وهم الماسكون الآن بمقاليد السلطة من الايادي العابثة والقوى المتنفذة والتي ساهمت في الوصول ببلادنا إلى هذا المنعرج الخطير أطلت على شعبنا عبر وسائل الاعلام عشية ذاك اليوم بأن رئيس الجمهورية قد فوض سلطاته إلى الوزير الاول وأن هذا الاخير يتولى مؤقتا طبقا لمقتضيات الفصل 56 من الدستور مهام رئاسة الجمهورية، لتتراجع نفس الشخصية التي أذاعت هذا النبأ يوم السبت 15 جانفي بعد أن تمرد عليها أحد أقطاب النظام الذي يمثله (رئيس المجلس الدستوري) الذي أعلن، بعد تواتر الانباء بأن بن علي قد غادر البلاد خلسة، أن منصب رئاسة الجمهورية قد أصبح شاغرا نهائيا وعليه وطبقا لمقتضيات الفصل 57 من الدستور فإن سلطات رئيس الجمهورية تؤول إلى رئيس مجلس النواب الذي تسلم مهامه وأدى اليمين الدستورية وكأنه حصل على الشرعية والقبول لدى الشعب التونسي وكلف الوزير الاول بالالتفاف على مطالب شعبنا والبحث عن الحلول التلفيقية للملمة بقايا نظام رئيس جائر ومستبد أخرق ولانقاذ بقايا هذا النظام من السقوط المدوي وتأمين عدم محاسبة رموزه. أطل علينا السيد محمد الغنوشي معلنا على الحكومة التي شكلها بعد أن حاول أن يجملها ببعض الوجوه التي ركبت موجة الثورة وهي التي لم تفق من ذهول الصدمة التي خلفها فرار الطاغية، وكأن شيئا لم يكن وزاد الطين بلة التصريح الذي قام به وزير الداخلية في هذه الحكومة بأن وصف ما جرى مجرد أحداث شغب وان من قام بأية تجاوزات عليه أن يلتحق بمواقع عمله و»عفا الله عما سلف». هكذا بكل بساطة وكأن شعبنا رضيع سقطت منه مصاصته أو طفل انكسرت لعبته فتم تعويضها بلعبة أخرى وتبقى دار لقمان على حالها فلا لجنة تقصي الحقائق حول التجاوزات التي حصلت في قمع شعبنا ستجد ما تتقصى عنه حيث ستتولى وزارة الداخلية طمس كل معالم الجريمة التي ارتكبت في حق شعبنا ولا لجنة تقصى الرشوة والفساد ستجد أدلة على ذلك لان كل المورطين في هذه العمليات لا يزالون في مواقعهم الادارية من وزراء ومديرين عامين ورؤساء مديرين عامين للعديد من المؤسسات وبالتالي سيجدون المتسع من الوقت لاتلاف كل الملفات والوثائق التي بحوزتهم والتي يمكن أن تكون وثائق إدانتهم ولن يكون مصير لجنة الاصلاح السياسي بأفضل من مصير اللجان الاخرى، وهكذا تنطلي الحيلة على شعبنا وتسرق منه ثمار ثورته قبل أن تنضج، وقد سارع العديد من الاطراف الاعلامية وأبواق النعيق على تسويق هذه المسرحية المهزلة مستغلة في ذلك ما توفر لها من أجهزة إعلامية ودعائية تحت العديد من الشعارات واليافطات الباهتة مثل ترهيب شعبنا بمخاطر الانفلات الامني أو بفزاعة التدخل الخارجي وما إلى ذلك. غير أن مخرجي هذه المهزلة فاتهم بأن شعبنا لا يثق فيهم كما فاتهم بأنهم يناقضون أنفسهم بأنفسهم ذلك أنه طبقا لمقتضيات الفصل 57 من الدستور فإن الرئيس المؤقت لا يمكنه حل الحكومة القائمة حتى لو تعرضت للائحة لوم من مجلس النواب، كما أن نفس الفصل ينص على اجراء انتخابات رئاسية في اجل أقصاه 60 يوما من تاريخ الاعلان على الشغور في منصب رئاسة الجمهورية، وهو ما لم يقع الاعلان عنه أو الحديث حوله لا من طرف من تولي مؤقتا منصب رئاسة الجمهورية ولا من تم تكليفه بتشكيل حكومة الوحدة الوطنية. أما من يعتقد بأن ما جرى منذ 17 ديسمبر إلى الآن بأنها حركة جماهيرية احتجاجية لها مطالب اجتماعية واقتصادية في البداية وطورت خطابها ورفعت من سقف مطالبها منادية باصلاحات سياسية وبالحرية والكرامة والديمقراطية دون أن تكون لها قيادة فعلية ولا أي برنامج سياسي واضح المعالم فقد سارع إلى ركوب الموجة وفيهم حتى من انقلب على نفسه وهرول إلى الوليمة مطالبا بنصيبه من الكعكة ولسان حاله يقول «إن شاء الله نخلط على حويجة» فهم كثر وتختلف ألوانهم باختلاف الطيف السياسي الموجود، حيث سارعوا إلى منابر الاعلام وتولوا تمرير خطاب التخويف والتهويل من الاحداث ومن عصابات النهب والقتل دون تقديم أية توضيحات عن طبيعة هذه العصابات أو طبيعة الجهات التي تقف وراءها أو ماهية أهدافها من وراء ترويع المواطنين وبث الخوف في نفوسهم حيث نجحوا في بث البلبلة في صفوف جماهير شعبنا ومحاولة صرف أنظاره عما يجري التخطيط له من أساليب إلتفافية حول مطالب جماهيرنا من تغيير جذري للنظام السياسي المهترئ وحصرها في مطالب اجتماعية (أمنية بالاساس) واقتصادية (معيشية بدرجة أولى) وسياسية (اصلاحية تلفيقية لا تمس أركان النظام السياسي القائم). هذه الاطراف وبتحالف مع من تخندق في خندق النظام السابق تريد أن تسكت صوت شعبنا وتئد ثورته إلى الابد متعللة بأن الدولة سوف تسقط في المجهول مستعملين لغة التخويف من انقضاض الجيش الوطني على السلطة أو إشاعة الفوضى وفتح المجال أمام القوى الاجنبية المتآمرة للتدخل في شؤون بلادنا بتعلة المصالح تارة وبتعلة إنقاذ النظام السابق ومنع عدوى انتقال ما جرى في تونس إلى دول أخرى تارة أخرى، مطبلين مهللين بما أغدق عليهم فريق النظام من مناصب وحقائب وزارية ووعود بمثل ذلك. إن أعضاء هذا الفريق لم يقتنعوا إلى الآن بما حققه شعبنا في هذه المرحلة من تاريخه وهم يحاولون أن يوقفوا قطار ثورة شعبنا قبل أن يصل إلى محطته الاخيرة وهم مستعدون كذلك لطعننا في الظهر كلما سنحت لهم الفرصة فتراهم يميلون مع النعماء حيث تميل فمرة يقولون بأن الحكومة التي أعلن عنها هي حكومة وحدة وطنية فعلا (بالرغم مما تضمنه من هيمنة أركان النظام السابق على جل الوزارات بما في ذلك وزارات السيادة) وأن على الشعب إن يمنحها مهلة زمنية كافية للايفاء بما وعدت به من اصلاحات ومرة أخرى تطالب بحل الحزب الحاكم وإقالة رموزه من هذه الحكومة. هذا الفريق نسي أو تناسى أن هذه الحكومة غير شرعية من الاساس لانها تستمد شرعيتها من النظام السياسي القائم وأن ما أعلنت عنه من إجراءات هو نفس ما أقره الرئيس المخلوع كما أن ما أعلنت عنه من إجراء انتخابات في ظرف ستة أشهر هو إجراء غير دستوري طبقا لمقتضيات الدستور الحالي بالاضافة إلى الغموض الذي يكتنف هذه الاجراءات وما إذا كانت ستتم وفقا لمقتضيات القوانين السائدة الآن (الدستور والمجلة الانتخابية الحاليين) أم أن لجنة الاصلاح السياسي المزمع تشكيلها سوف تقترح ادخال تعديلات على هذه القوانين وكيف سيتم المصادقة على هذه التعديلات، إن وقعت، هل سيتم ذلك عن طريق مجلس النواب الحالي أم عن طريق استفتاء شعبي عام حر ونزيه. لهؤلاء وأولئك نقول بأن ما جرى ويجري في بلادنا العزيزة هي ثورة شعبية بكل ما تحمل الكلمة من معان، وبالتالي يجب على كل القوى الحية أن تعي هذا وتعمل على تعميق الوعي به لدى جماهير شعبنا الابي، كما نقول بأنه آن الاوان لثورة شعبنا أن تبلور قيادتها وعلى هذه القيادة أن تتولى زمام السلطة في البداية بأن تتخلص كل أركان النظام السياسي القائم من حكومة ومجلس نواب وغيرها من المؤسسات القائمة وذلك بتشكيل هيئة رئاسية مؤقتة تتولى تأمين السير العادي لكل مرافق الدولة وأن تقوم في نفس الوقت بتكوين هيئة تأسيسية من كل الاطياف السياسية ورجالات القانون وخبراء النظم السياسية تكون مهمتها صياغة دستور جديد ينظم الحياة السياسية وكل نواحي الحياة العامة ويقطع نهائيا مع مؤسسات العهد البائد، دستور يرضاه كل التونسيين ويتفقون عليه عبر استفتاء عام مباشر. عندها يصبح الحديث عن انتخابات رئاسية وبرلمانية مستساغا وفي إطاره الصحيح، أما دون ذلك فلن تكون إلا حلولا ترقيعية لن ترتقي لطموحات شعبنا في غد نريده الافضل من اجل أبنائنا ومن أجل أجيال شعبنا القادمة، غد يترعرع فيه المواطن بكرامته وعزة نفسه لا يهان ولا يشعر بالغبن والظلم ويمارس قناعاته بكل الحرية وفي كنف الاحترام المتبادل مع الاخر دون اقصاء أو تهميش.