جميل هذا الحس الإنساني لدى الغرب الذي يهب مثقفيه ونجومه للدفاع عن المظطهدين في أي بقعة من العالم المتخلف لنجدتهم وتقديم القشة التي تنقذهم من الغرق. لكن إلى أي حد يمكن التمييز بين العمل الإنساني الذي لا يرجو منه صاحبه جزاء أو شكورا وبين العمل الذي في ظاهره نجدة للمظلومين وفي باطنه سعي لتحقيق مصلحة شخصية ومنفعة ذاتية بحتة.؟ لكن الأتعس من ذلك أنه أحيانا تبدو النوايا مكشوفة والحقيقة جلية ويواصل "صاحب العمل الإنساني" حركته موهما نفسه ومن هم حوله بأنه يعمل لفائدة الإنسانية وأنه لا يعمل شيئا إلا بدافع الرحمة وحرصا على الرفق بالبشر. وبقطع النظر عما نعرفه وما لا نعرفه عن الأزمات الإنسانية هنا و هناك وعن مدى ما تستحقه من تدخل للجمعيات أو الأشخاص المشتغلين في الحقل الإنساني خاصة وأن الخبر يصلنا في أغلب الحالات من مصادر غربية والصور تنقل من زاوية إعلاميي الغرب فإنه يكفي أن يركز أحدهم تركيزا مبالغا فيه على قضية ما ويغلق عينيه تماما عما يحدث من انتهاكات لحقوق الإنسان ترتكب غير بعيد عنه فهذا أدعى للشك والريبة وقد تكون نتيجته عكسية على القضية التي من المفروض أنها قضيته. برنار أنري ليفي ومثال الخلط بين العمل الإنساني والتدخل في شؤون الغير بامتياز المثقف الفرنسي"برنار أونري ليفي" وهذا الإسم لا نخاله غريبا على أذن القارئ خاصة وأن الرجل نجمه عال بالبلاد الفرنسية. فقد صار خصوصا بعد خسارة اليسار الفرنسي للمرة الثالثة على التوالي الإنتخابات الرئاسية منظرا يؤخذ برأيه ومرجعا هاما وربما أيضا صاحب الحل السحري لإنقاذ اليسار الفرنسي من كبوته. فقد أصدر الرجل مؤخرا كتابا جديدا لاقى رواجا كبيرا خاصة في صفوف زعماء اليسار الذين لم يهضموا بعد أولا ترشيح الحزب لسيغولان رويال كممثلة رسمية له وثانيا الهزيمة في الإنتخابات، كتابا حلل فيه صاحبه من وجهة نظره أسباب الحالة المتأزمة التي أصبح عليها اليسار الفرنسي وتقدم ببعض اقتراحات الحلول. وقد كانت مرشحة اليسار في الإنتخابات السيدة سيغولان رويال قد ظهرت معه في أكثر من مناسبة خلال حملتها الإنتخابية. الكاتب من جهته تحدث في الصحافة الفرنسية عن مساهمته في الحملة الإنتخابية لصالح اليسار من موقعه كمثقف يساري فرنسي. طبعا لم يغفل السيد برنار أونري ليفي في مقالاته الصحفية الحديث عن صداقته مع الرئيس الفرنسي السيد نيكولا ساركوزي وعن مناشدة هذا الأخير إياه أن يعلن له عن مساندته له خلال الحملة الإنتخابية كما فعل غيره من المثقفين من أصدقاء ليفي من الذين هم من المفروض من عائلة اليسار. السيد "برنار أونري ليفي" هو أحد المتحمسين لقضية دارفور بالسودان ولا يفوت الفرصة دون أن يناشد العالم والأمم المتحدة وطبعا الولاياتالمتحدة لنصرة اللاجئين ولنجدة المظطهدين ومعاقبة المتسببين في الكارثة.. وهو لا يفوت فرصة دون إعلان ذلك على الملإ. إلى حد الآن لا غرابة في الأمر. فمشاهدة سيل من الصور تبدي كارثية المشهد تدفع أيا كان يملك ذرة من الإحساس إلى التأفف مما يحدث فما بالك بالناشطين في مجال حقوق الإنسان كما أن أزمة دارفور وسواء كان الواحد على علم بتشعب القضية أم لا دفعت عددا من نجوم السينما والغناء والمشاهير في العالم إلى تكوين حركة لمساندة اللاجئين إذ أنه من الطبيعي أن يدفع مشهد المعذبين في الأرض إلى التعاطف والرغبة في القيام بحركة ما لأجلهم لكن بخصوص انخراط السيد برنار أونري ليفي في الحركة إن لم نقل محاولته لتصدرها فإن في المسألة قول آخر. ما يدفعنا للنظر في الأمر من زاوية أخرى تختلف عما يجنيه السيد برنار أونري ليفي من نظرات الإعجاب والتقدير لمواقفه الإنسانية وما نعرفه هو أنه لم يحدث في يوم من الأيام أن أدان الرجل لا من قريب ولا من بعيد لا تلميحا ولا تصريحا ما تمارسه دولة اسرائيل من ارهاب ضد الفلسطينيين على مرأى ومسمع من العالم. بل على العكس فالرجل مساند لإسرائيل فيما تفعله ومن المدافعين عنها باستبسال في كل المناسبات. في مقابل ذلك لا يمكن أن نلوم هذا الكاتب والمثقف الذي لا يكاد يغيب عن وسائل الإعلام والاتصال. سواء إثر صدور كتاب جديد- والرجل غزير الإنتاج- أو لابداء رأيه في قضية ما أو لمجرد رغبة أحدهم من المنشطين في استضافة نجم جماهيري إلخ... كل المناسبات ممكنة لدعوة "برنار أنري ليفي" لمقابلة تلفزيونية أو لحديث بالصحف. نشاهد كذلك صوره في مختلف المناسبات التي تقيمها المجتمعات الراقية إضافة الى المهرجانات إلخ. لا ينبغي أن نلومه على اتخاذه من قضية دارفور الطعم الذي يستطيع بفضله ايصال أفكاره ومطالبه إلى المؤثرين في القرار بالعالم وخاصة أصدقاءه بالولاياتالمتحدة. فالرجل من أكثر المطالبين بالتشدد في التعامل مع الإيرانيين والسوريين ويعتبر إيران وسوريا من ألد أعداء العالم ويعتبر بصفة عامة كل معارض لإرهاب الدولة الذي تمارسه اسرائيل معاد للسامية لا لوم عليه لأنه مادام ليس هناك حركة في الإتجاه المقابل، حركة تواجه التيار بندية فإن الرأي العام الدولي يبلع الطعم باستمرار. تضخم إعلامي يحول دون كشف الحقيقة قليلة تلك المحاولات التي تسعى لكشف حقيقة الرجل الذي تضخمه وسائل الإعلام ببلده إلى درجة أنه يقع غض الطرف عن ولاء "برنار أونري ليفي" لإسرائيل الذي يكاد لا يخفيه والحال أن القانون الفرنسي لا يسمح بالولاء لغير فرنسا. فباستثناء صحيفة "لوموند ديبلوماتيك" التي أصدرت في عددها الأخير قراءة للكتاب الجديد لليفي وقفت فيه عند مختلف مواطن الضعف في الكتاب ولدى شخصية الكاتب عموما فإن الحفاوة التي لقيها الكتاب كانت ملفتة للإنتباه ومثيرة للإستفهام حول تحول برنار أونري ليفي إلى "مؤسسة" كي نستعيد الوصف الذي خصته به نفس الصحيفة المذكورة في عدد سابق عندما شككت في حقيقة التحقيق الذي قام به الرجل حول مقتل الصحفي الأمريكي "دانيال بيرل" بباكستان والذي نشره في كتاب يحمل عنوان "من قتل دانيال بيرل ؟". ولكن تظخم الرجل جعله يشعر أنه فوق القوانين. تماما كما يحدث مع بعض المنظمات الإنسانية الغربية. ولحسن الحظ فإن هناك جانب من الإعلام الغربي بدأ يطرح الموضوع من هذه الزاوية أي من زاوية تضخم دور المنظمات غير الحكومية المشتغلة في مجال حقوق الإنسان التي صارت بدورها تمثل سلطة قوية موجها نقدا ذاتيا لترسانة الإعلام الغربي وآخذا بالإعتبار ما بدأ يصدر من مواقف مختلفة لدى الأطراف المقابلة أي تلك التي يعتبرها جماعة العمل الإنساني مسرحا لعملياتهم وأرضا مباحة باستمرار وعلى رأسها القارة الإفريقية... هذا الإستنتاج دفع مجلة "كوريي أنترنسيونال الفرنسية" إلى فتح ملف كامل حول الموضوع بعنوان "سوق العمل الإنساني" انطلاقا من الحادثة التي أصبحت محل اهتمام وسائل الإعلام الغربي . الأمر يتعلق بمنظمة "سفينة زوي أو آرش دي زوي" حسب التسمية الفرنسية وعملية تحويل وجهة مجموعة من الأطفال الأفارقة إلى أوروبا باسم العمل الإنساني. وهي عملية وبخلاف ما أحدثته من تحرك على مستوى العدالة فإنها أثارت رد فعل مستنكر بإمضاء عدد من الأقلام الإفريقية نقلت المجلة المذكورة جزءا منه . هذا الموقف الذي كشف لأول مرة تقريبا عن رغبة الأفارقة في فتح ملف العمل الإنساني الغربي بإفريقيا نقرأ منه بداية الصحوة لأنه اعلاميا لا بد للأفارقة وللعالم المتخلف عموما من مسك زمام الأمور فالكشف عن حقيقة ممارسات البعض باسم الدفاع عن حقوق الإنسان قد يضع حدا للتداخل بين ما هو عمل إنساني بحت وبين ما هو تدخل في شؤون البلدان و تهديد استقلالها. فلا ننسى أنه باسم تخليص العراق من نظام ديكتاتوري شنت الحرب على هذا البلد الذي فقد اليوم استقلاله وباسم التدخل الإنساني يطالب "برنار أونري ليفي" مثلا بمعاقبة إيران لأنها تريد حيازة الأسلحة النووية غاضا الطرف بالطبع عن أسلحة اسرائيل النووية ومعاقبة سوريا بشدة لأنها تتدخل في لبنان وتدعم الإرهاب وبالقضاء على جذور الإرهاب التي يراها الكاتب موجودة بباكستان إلخ... من "حلول" تحول العالم إذا ما تم الإستماع إلى مطالبه إلى حريق يكاد لا ينطفئ. حروب وكوارث ربما هذا أقصى ما يسعى إليه هؤلاء المهووسون بمسألة التدخل الإنساني لأنه في ظل الحروب والكوارث والدمار يعثرون على شرعية الوجود، تلك الشرعية التي يفقدونها عندما يكون العالم في سلام.