اتسم خطاب الوزير الأول، الباجي قايد السبسي، بجاذبية رمزية شديدة الإثارة، تظهر لأول مرة في خطاب مسؤول تونسي منذ نحو ربع قرن تقريبا.. جاذبية خطاب الوزير الأول، برزت من خلال أسلوبه الذي يذكر بطريقة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة سواء في نبرة الخطاب، أو من حيث كيفية الإلقاء، أو من خلال استخدام الآيات القرآنية والأمثال الشعبية والجمل القانونية لتأكيد وجهة نظره، وجعل المتلقي / المواطن، جزءا من مفاصل الخطاب ووجهته العامة.. لكن الرمزية المكثفة لكلمة الباجي قايد السبسي، كانت واضحة من خلال المفردات التي تميّز باستخدامها بناة الدولة الوطنية وعددا من وزراء بورقيبة في مرحلة لاحقة، وكانت جزءا من قاموس لغوي يجمع في ثناياه، بين الشعبوي والسياسي والقانوني، ويتخذ من الدعابة (أو النكتة)، عنصرا مهما في الإقناع «والاستقطاب» على حد السواء.. وضوح.. وجرأة.. على أن هذه «الخصال» التي تعد إحدى اهتمامات علم الالسنية (Linguistique) لم تخف وضوح الرؤية لدى الوزير الأول الذي بدت أهدافه و»أجندته»، إذا جاز القول، جليّة.. فالرجل كان مدركا لأمرين إثنين على الأقل: بعث رسائل اطمئنان لعموم الشعب التونسي، سواء بشأن الملف الأمني، أو بخصوص الموقف الحكومي من الرئيس المخلوع، أو من جهة الإشارات المتعلقة بالوضع الاقتصادي والاجتماعي. إعادة الاعتبار لهيبة الدولة، التي قال إنها في أسوإ حالاتها»، ليس بسبب التدهور الأمني فحسب، وإنما على خلفية الفراغ الذي تعيشه المؤسسات والإدارات بعد تخلي الناس عن العمل والإنتاج، أو ترددهم في ذلك على الاقل ... ولا شك أن رجلا مثل السبسي، الذي مسك وزارات السيادة (الداخلية والخارجية والدفاع) ومجلس النواب في فترة سابقة يدرك جيدا أن أي سياسي في الحكم لا يمكنه النجاح البتة في مهمته، طالما أن هيبة الدولة في نسق متراجع، و»في مستوى غير مقبول» على حد تعبيره.. لذلك طغت على خطابه، لغة الصرامة المشحونة بمسحة تفاؤلية، من خلال تشديده في مرات عديدة، على «إعادة الأمن لكل المواطنين والمناطق والمؤسسات»، مع تأكيده على أن ذلك يرتبط بمشاركة واسعة ومتحفزة من قبل المواطنين. الثورة في لغة جديدة لكن أسلوب الخطاب، لم يكن لينسي الباجي قايد السبسي، أنه يتحرك في سياق تونسي جديد، هو سياق الثورة، لذلك حرص من خلال بعض المفردات، وقسمات وجهه التي كانت تتغير بتغير سياق الخطاب ومضمونه، على تحية الشهداء وعوائلهم، والتأكيد على ضرورة صيانة مكاسب الثورة ممن أسماهم ب»المتطفلين»، بل إنه اعتبر البرنامج الذي أعلن عنه الرئيس الانتقالي، السيد فؤاد المبزع، الخطوة الأولى في مجال حماية ثورة الشباب الذي ذكره السبسي باحترام وتعاطف كبيرين وهو يقول: «نحن نتفهم مطالبهم، مثلما نتفهم انفجارهم الكبير»، محاولا إيجاد العذر لهم من خلال الإشارة إلى أن «شعبنا عانى القمع والاضطهاد طيلة عقود، فمن الطبيعي أن تكون له ردود فعل حول ما يجري، وتخوفات بشأن الثورة ومستقبلها.». أجندة دقيقة.. من جهة أخرى، بدا الباجي قايد السبسي، واضحا في وجهته للمرحلة القادمة، من خلال الإفصاح عن أجندة أو برنامج سياسي، سيشكل الأفق الأساسي للأشهر الأربعة المقبلة التي تفصلنا عن انتخابات المجلس التأسيسي المقررة يوم 24 جويلية القادم.. أولى نقاط هذا البرنامج، ما يسمى ب»العدالة الانتقالية» حيث كان السبسي، أول مسؤول تونسي منذ الثورة يوجه بشفافية وصراحة، وبلغة واضحة تهمة «الخيانة العظمى» للرئيس المخلوع، بسبب «عدوله عن تحمل مسؤولياته في ضمان الأمن والاستقرار»، و»مغادرته البلاد بينما كان «القائد الاعلى للقوات المسلحة»، مؤكدا أن الخيانة العظمى، عقوبتها الإعدام.. وهذه المرة الأولى التي يعلن فيها بشكل رسمي عن سقف التهمة لبن علي، وسقف القصاص ضده، بل إن هذه العناصر الجديدة «للتهمة»، لم يعلن عنها حتى الحقوقيون ورجال القانون سابقا. لكن الباجي قايد السبسي، بدا شديدا في هذا الملف، حيث اعتبر أن كل من تثبت إدانته بالفساد والنهب وقتل المواطنين التونسيين وإرباك الوضع الأمني بالبلاد، سيواجه المحاكمة ضمن معايير القضاء المستقل، وفي ذلك إشارة إلى عائلة الرئيس المخلوع ومن دار في فلكها، بالإضافة إلى مجموعات القناصة وأتباع علي السرياطي، وبعض الوزراء قائلا: "سوف لن نترك أحدا مهما كان موقعه أو رتبته"... تأكيده على المصالحة الوطنية الشاملة، التي اعتبرها مدخلا لتونس الغد، وللخيار الديمقراطي، بل للدولة التونسيةالجديدة.. التذكير بالبرنامج الذي أعلن عنه الرئيس فؤاد المبزع أمس الأول، والذي نص على تنظيم وقتي للسلط العمومية، يتكون من رئيس الجمهورية المؤقت وحكومة انتقالية ينتهي دورهما ووظيفتهما يوم مباشرة المجلس الوطني التأسيسي مهامه إثر انتخابه في جويلية القادم.. والحقيقة أن ما أعلن عنه المبزع، هو ذاته الذي كان تحدث عنه الباجي قايد السبسي يوم 17 جانفي الماضي في تصريحات صحفية، ما يعني أن الوزير الأول لعب دورا بارزا في «تعديل» وجهة حكومة الغنوشي، وقد يكون قبل برئاسة الوزراء على هذه الخلفية بالذات.. قطعه النهائي مع دستور 1957، الذي تولى الرئيس السابق «ترقيعه» عديد المرات، فأفقده علويته وجديته وسلب منه روح النظام الجمهوري وسيادة الشعب.. ولذلك كان الباجي قايد السبسي واضحا من خلال التأكيد على أن نهاية العمل بالدستور الحالي، تعني نهاية العمل بكافة القوانين والمؤسسات الناجمة عنه.. لكن الوزير الأول، بدا في هذا الخطاب منشغلا شديد الانشغال بالوضع الاقتصادي.. ومع أنه بعث برسالة اطمئنان للتونسيين من خلال الإعلان عن اتفاق مع فرنسا لإيفاد سيّاح إلى تونس في الموسم القادم، إلا أن ذلك لم يمنعه من وصف الوضع الاقتصادي بكونه يسير على «شفير هاوية»، لكنه شدد على أن حكومته التي سيعلن تشكيلتها في غضون الساعات القادمة، ستتولى «إطلاق الدورة الاقتصادية مجدّدا من دون تأخير»، ضمن سياق إنقاذ الاقتصاد التونسي الذي بات يحتاج في رأي المراقبين إلى «عملية جراحية» لاستئصال أورام الركود الذي دبّ في مفاصله وكيانه... ولا شك أن خطاب السبسي، جاء ليقطع مع حقبة امتدت لأكثر من عقدين، ويعيد لأذهان التونسيين صورة «الكاريزما السياسية» لرجل الدولة وللسياسي الذي يضطلع بأمانة الحكم، وهي لعمري أبرز استنتاج يمكن للمرء أن يستشفه من خطاب الوزير الأول، لأنه ببساطة، أعاد للسياسة مكانتها، وللحكم رونقه، ووضع عمليا «نموذج الجنرال» المخلوع، بين قوسين، ورسخ في الأذهان بأن حقبة «عصابة المفسدين» كما وصفهم، انتهت في تونس إلى الأبد.