بقلم: الدكتور المنجي الكعبي ثورتنا المباركة التي قادها الشباب بزعامة الشهيد البوعزيزي وإخوانه الأكرمين، فتحت لنا نحن التونسيين قبل غيرنا أبواباً ثلاثة، لم نكن نحلم بفتحها في وجوهنا لولا لطف الله بنا وهمة ورثناها في دمائنا. باب الحرية وباب الكرامة وباب العدالة الاجتماعية. ورأينا كيف اهتدينا في نورها إلى جمع شملنا وتأكيد اللحمة والتضامن بين أفرادنا وجماعاتنا في السراء والضراء، فأصبحنا بحمد الله قدوة للعالمين. هذه الثورة لا يشك أحد في أنها فتحت علينا من جانب آخر أبواباً متشابهة وغير متشابهة للاختيار. أي بناء نريد لمستقبلنا في ضوئها؟ ومن الطبيعي في قوم تختلف مشاربهم في السياسة والاقتصاد وفي التنظيم الاجتماعي والتنوع الثقافي، أن تذهب بنا المذاهب إلى الاختلاف أو الخلاف المفضي إلى التناغم والتوافق. فمن يرى أننا لا بد أن نبني على قديم أو على شيء على الأقل من القديم، ومن يري أن نمعن في الحساب والعقاب قبل أن نخطو خطوة في البناء، على سنة «والبقاء للأصلح «، وفي كل ذلك تضحيات وتنازلات قد تطيب بعض النفوس لها وقد لا تطيب. غير أن الوقت كفيل بفعل العجائب من التآلف والقبول بين الناس بعضهم ببعض. وقد أخذنا كلنا في بادئ الأمر بالثورة بمقولة إسقاط النظام، فلم يكن بد من أن يتساقط بعضه شيئاً فشيئاً، مع الأسابيع التي تلت أحداث الرابع عشر من جانفي. ولعل في ذلك دليل على تسامح التونسي أو حظه من السماحة وحسن التقدير بعضه لبعض في الأزمات والملمات، والمراعاة لخلق الإسلام والشهامة العربية، وصيانة الأعراض والنفوس، والأخذ بالأرفق والارتفاع عن سفك الدم الحرام والأحقاد والثارات. وفي الأثناء، تفطنا إلى سد الفراغ بسد باب الذرائع على الفتنة والتنازع بيننا في غياب كل سلطة تحمي بعضنا من بعض وتحمينا خاصة من الخارج. فأخذنا بما اتفق لنا صلاحه من دستورنا على ما هو عليه من سوء في نظرنا جميعاً. وربما ذهب حسن الظن بالبعض منا إلى تقدير توفّقنا خلال المدة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية لملء الفراغ بعد انتهاء المدة لرئيس الجمهورية المتولي للأمر بعد ذلك الشغور المفاجئ، وتبين مع تقدم الوقت دون ظهور البوادر بتحقيق ما كان مؤملاً، أن ذلك نكسة في حد ذاتها وخيبة لحسن ظننا بالحل الدستوري الذي كان مهرعنا الأول ولم يكن لنا خيار دونه. وإنما هو مجرد وهم لأننا لم نكن في الحالة الطبيعية التي يقرؤها الدستور في ذلك الفصل الذي عولنا عليه للخروج من المأزق، إذ كنا في حالة انقلاب على الحالة الدستورية ذاتها. فأصبحنا ونحن على أبواب فراغ دستوري من نوع جديد، قد لا يمكن سده إلا بالتمديد للوضع السابق دستورياً، لمنح التشكلات السياسية لما بعد الثورة من تنظيم شأنها، والتركيز أصلاً على ما هو الأساس لانتظام البناء السياسي لما بعد الثورة، وهو انتخاب المجلس التأسيسي. وربما رأى غير واحد من زعمائنا السياسيين المتبوئين للرئاسة قبل كل انتخابات تأسيسية أو تشريعية، أن ذلك يفوّت عليهم الفرصة لحسم توجهات المرحلة القادمة للنظام بوحي من الرئاسة، وليس العكس بوحي من المجلس التشريعي، خاصة في ظروف لم يتبلور فيها بعد النسيج الجمعياتي أو الحزبي الذي ستكون لحمته التوجهات البرلمانية. وفي كل ذلك كان المعتصمون والمحتجون ومظاهرات الدعم أو الاستياء من هذه التوجهات أو تلك، التي خامرت النفوس أو طفت على السطح لا ينقضى ليلهم أو يأتي صباحهم حتى تثور ثائرتهم، لطول التردد أو ما يسمونه ضياع الوقت على الثورة أو على الاقتصاد والأمن والراحة على المواطنين. وكان يمكن أن تأخذ الأحداث مجراها نحو نوع من الحسم، ربما يجنّب الثورة الانتكاس، أو يفتح على الأمة باستعادة عافيتها واطمئنان أبنائها وانصرافهم للعمل والأمل. وإذا أحداث إخواننا في ليبيا ومآسيهم بالتقاتل، وليس بالتظاهر السلمي مثلنا من أجل تصفية أوضاعهم بأربعين حولاً وتزيد من الاستبداد بالسلطة باسم الثورية الأبدية التي ترفضها لا محالة الطبيعة البشرية، لأن الأصل في المجتمعات سلمٌ من بعد ثورة، أو ثورة لحين من بعد سلم لوقت أطول. قلت وإذا أحداث إخواننا في ليبيا تلقي بظلالها علينا وتصبح عنصراً من عناصر حزم أمورنا، لمنع حدودنا من كل تدخل خارجي، خاصة أجنبي تحت أية مظلة، لعله يجهض ثورتنا نفسها، ويُبعد من آجال عودة الحياة السياسية إلينا بأحسن مما كانت عليه. لأن ظلال الأزمات، عانينا منه في الحقيقة عبر فترتين، في أول الاستقلال في شبح الفتنة اليوسفية، وفي 87 في شبح الفتنة بالاسلاميين، أو بالارهاب. وكلنا رأينا رئيسنا المؤقت الأستاذ فؤاد المبزع، في ظهوره الأخير للأمة، بمناسبة قرب انتهاء مدته الدستورية يقول إنه لا خيار أمامنا سوى حل الوضع الدستوري الذي أصبحنا فيه مجبرين بعد انقضاء المدة إلا تمديدها لأنفسنا جميعاً لحسن الإعداد، مع مطلع الصيف القادم أو أواسطه، للتأسيس لمجلس وطني منتخب، ينظم لمرحلتنا الوقتية قبل إصدار دستور جديد وتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية متزامنة أو متتالية للبلوغ بالثورة إلى أهدافها في تحقيق نظام جمهوري جديد. وربما الصدفة وحدها جعلت هذا التاريخ الوطني الجديد لانعقاد أول مجلس تأسيسي بعد الثورة يطابق اليوم السابق ليوم الاحتفال بقيام الجمهورية في بلادنا لأول مرة بعد الاستقلال. فلعله أو عساه يكون من طالع السعد. وحتى ذلك الحين تجري ثورتنا «باسم الله مجراها ومرساها « جنباً إلى جنب مع همتنا على العمل في كافة المستويات للوصول بشباب الثورة خاصة، وهم قرة أعيننا، إلى تحقيق ما دفعونا إليه دفعاً، نحو الشموخ ونحو طعم مذاق الحرية من جديد والكرامة والعدالة الاجتماعية والتضامن. فدعونا نحيا إلى ذلك الحين والثورة والتأسيس جنبان، يسيران ولا يفترقان بحال، ولا نضيّع بالشغب بعضنا على بعض هذه الفرصة الكبرى لعزة تونس بين الأمم.