بقلم: المعز بن فرج بعد مرور أسابيع عن ثورة 14 جانفي 2011، اليوم التحدي مستمر لبناء دولة ديمقراطية، هذا التحدي نقاربه بأمل المنتظر وبخوف الملدوغ نسعى إليه بلهفة العاشق ونخشى عليه كالمعشوق. لدي حلم بأن أعيش في زمن أشهد فيه على قيام دولة العدالة والديمقراطية. لدي حلم بأن أعيش في زمن أشهد فيه على قيام دولة العدالة والديمقراطية. لدي حلم بأن أرى خاسرا في انتخابات ما، يهنئ فائزا والأخير يشرك الخاسر ولا يلغيه لدي حلم بأن أرى العلم التونسي مرفرفا فوق كل المباني وكل المرافق فخورا عزيزا مكرما... يا أبناء وطني الأحرار، لقد عيل الصبر وضاق الصدر وتحركت السواكن وانتفضت الأعصاب، مما أقضى المضجع وأقلق الراحة. مضى علينا حين من الدهر لم نهتد إلى توحيد صفوفنا وجمع كلمتنا حتى يتسنى لنا أن نواجه متكتلين ما داهمنا به طوارق الحدثان ونظهر على ما تباغتنا به ظروف الزمان دفعا لمضرة أوشكت أن تحل أو جلبا لمصلحة قاربت أن تفوت. وهكذا انقضت فرص من ورائها كل خير لو انتهزت وخابت آمال ما كانت لتذهب أدراج الرياح لو تداركت بالتعزيز والمعالجة بالمرهم الناجع، وفاتت مصالح ما كانت لتنقضي لو عولجت بقليل من صالح الأعمال المرتكزة على الإخلاص والشعور بالحق. إننا ندرك الآن، وبعد ثورتنا المباركة هذا النقص الفاضح، فيجب إذا أن نفكر في إيجاد أنجع السبل والوسائل لنبلغ بها المستوى اللائق لمقامنا، يجب أن نرتسم لأنفسنا من المرامي أنبلها ومن الغايات والمقاصد أسماها وأكملها مما يدعو إلى حسن التفاؤل بأن نصعد في سلم ومدارج الرقي، مسايرة لنواميس الكون الباعثة على الانتقال من الحسن إلى الأحسن. أيها الشعب الكريم، إلى الأمام، متحدين دفاعا عما يبيت لكم من مكائد ومسخ، لنتضامن يدا في يد مقاومين كل ما يحاك لنا من مؤامرات أيا كان نوعها، عاملين على إزاحة الحجب عن جبين الحقيقة حتى تبرز لنا ناصعة وضاءة. لنعترف جميعا، أن تحقيق أهداف «أبناء تونس» الشابات والشبان، يكون ببناء وطن يفتخرون بالانتماء إليه، لينهض بقدراتهم، ومشاركتهم في إيجاد الحلول، ولندعهم، الذين قاوموا الظلم والإرهاب وانتفضوا وثاروا من أجل الحرية والكرامة يرشدوننا، فهم المستقبل ولهم الغد، فلنتحد ونتضامن، ونعمل لبناء دولة تونس، القادرة المرتكزة على احترام الحريات العامة، والمعتقد، والتعبير... والأهم الأهم وفي هذه المرحلة البالغة الدقة من حياة مجتمعنا، هو إسهامنا في إشاعة ثقافة حكم القانون لأنها بشيوعها، تغدو كالنسيم، لا بد من أن تلفح من تلامسه بلفحاتها الموقظة للمسؤول، والمنعشة للمجتمع. وفي هذا الإطار ارتأيت المساهمة ببعض الخواطر حول موضوع بناء دولة الحق والقانون إلا أنني لن أتعرض إلى جميع المسائل المتعلقة والمرتبطة به، بل اقتصرت على فكرتين الأولى متعلقة بوجوبية استقلال القضاء وثانيها تتعلق بالمصلحة الوطنية التي يعتبرها البعض مرحلة ضرورية لبناء دولة القانون والحق. I استقلال القضاء شرط تحقيق دولة القانون: إن وضع القضاء في تونس يستدعي الكثير من الإصلاحات الأساسية، بدءا بتكريس وجود السلطة القضائية وفصلها عن السلط الأخرى وتعزيز استقلالها. إن ما أصاب العدالة والقضاء من أضرار يدفعنا إلى إطلاق صرخة مدوية، رافضة للأمر الواقع الحالي مطالبة التزام مبدإ أساسي يؤمن بنظري المتواضع حسن سير السلطة القضائية وهو إقرار قيام السلطة القضائية المستقل عن السلطة التنفيذية. إن استقلال القضاء واستقلال القاضي مفهومان متكاملان ولازمان لصيانة مبدإ الشرعية وهذا يعني بتعبير آخر، أنهما لازمان لإقامة القانون (الشرعية) ولإطلاق حكم القانون (العدالة). أسوق ما قلته وأنا مدرك للصعوبات السياسية والاجتماعية والشخصية التي تواجهها حركة إصلاحية جدية إلا أنني لا أستطيع الاستسلام لهذا الواقع الأليم، وسنبقى كلنا نعمل لكي نحقق حلمنا في قضاء مستقبل نزيه فاعل يعطي الحق لأصحابه ويضع حدا لتعسف السلطة ويحمي الحريات ويحافظ على كيان الدولة. أيها الشعب الكريم، مهما تكلمنا عن حكم القانون والنزاهة، لن تستقيم الأمور إلا إذا عاد التونسيون إلى الالتزام بسلم القيم الأخلاقية التي تشكل المنطلق الأدبي والمعنوي لتطبيق القانون بالتمسك بالنزاهة. إن بداية نجاح مسيرة حكم القانون والنزاهة تكمن في نشر ثقافة المعرفة والحس الاجتماعي الذي يضع مصلحة كل فرد منا أدنى مرتبة من مصلحة المجتمع عامة، بحيث لا يتسابق المواطنون على تأمين مصالحهم الخاصة على حساب مصلحة وطنهم ودولتهم ومجتمعهم. أقولها صراحة: «عندما تكون الغاية من العمل خدمة المجموع لا يكون هنالك مشكلة ولكن عندما يطلب أن تكون خدمة لأحد أو لجهة عندها تختلف... أقول إنني لن أخوض في السياسة، طبعا لن أخوض في السياسة أما فيما يخص استقلالية القضاء، فيقتضي على جميع السلطات من أعلاها إلى أدناها أن تحترم هذه الاستقلالية. II هل تعتبر المصالحة عاملا مهما لبناء دولة القانون والديمقراطيات والحريات لقد انبرت حكومات كثيرة وبعض الأفراد يعلنون أن في طي صفحة الماضي أنجع وسيلة لتلافي اضطرابات في مسيرة انتقال حساسة ولعدم العودة إلى زمن العنف، ما قد يوقظ جراح الضحايا العميقة وهذا الموقف يتسند على المبدإ القائل بأنه حري بنا ألا نوقظ شياطين الماضي. إننا في تونس وبعد ثورة 14 جانفي 2011 لا يجب أن ننكب على طي صفحة الماضي أيا كان الثمن متجاهلين آليات إعادة بناء دولة الحق والقانون. أكاد أقول أننا نجحنا في تلافي انهيار الدولة حتى الساعة بأعجوبة، بيد أنه وضمانا للسلم الاجتماعية وهي مسؤولية الطبقة السياسية والمؤسسات والأحزاب والمجتمع المدني. لا بد أن نطلق إذا مصالحة حقيقية على أساس المفاهيم والقواعد العامة ولهذه الغاية علينا في البداية أن نقيم العدالة الانتقالية التي تؤدي إلى المصالحة. اليوم، ما نلاحظه أن المجتمع التونسي يرث ماضيا عنيفا يصعب التعامل معه وبهدف تقرير العدالة والسلام والمصالحة عملت الحكومة الانتقالية التقدم بحلول قضائية وغير قضائية على حد السواء لانتهاكات حقوق الإنسان والقانون بصفة عامة فنراها على وجه الخصوص تلاحق الأفراد المذنبين وتقدم التعويضات لضحايا أعمال العنف التي مورست بدعم من الدولة وأرسلت لجنة لتقصي الحقائق بشأن الانتهاكات المرتكبة، محاولة إدخال إصلاحات على مؤسسات شأن الشرطة والمحاكم ويقصون المذنبين من مواقع النفوذ بهدف تحقيق عدالة شاملة وواسعة النطاق تعرف بالعدالة الانتقالية. إن المصالحة تدعم الديمقراطية من خلال إقامة علاقات التعاون اللازمة لوضعها موضع التنفيذ بنجاح، كذلك على المصالحة أن تحظى من بين أمور أخرى بدعم العدالة الاقتصادية والسياسية وبتشارك الاجتماعي للسلطة. لا خلاف أن علاقات تعاون إيجابية تولد الأجواء المؤاتية التي تسمح للحكم الرشيد بأن يتطور فيها في حين أنه شأن العلاقات السلبية أن تقوض أفضل أنظمة الحكم الرشيد. الحقيقة أننا نعتقد أن المصالحة تشكل في أن لنا معا هدفا نصبو إليه ومسيرة وهي الوسيلة التي تسمح ببلوغ الهدف المنشود. فالمصالحة تنطوي على الأدوات الأساسية مثل العدالة والحقيقة والتعويض وغيرها من الأمور التي تسمح بالانتقال من ماض مشرذم إلى مستقبل مشترك. فالمصالحة لا يمكن ارتجالها وتفترض تغييرا في المواقف والتطلعات والمشاعر والأحاسيس وهي تغييرات لا يمكن استعجالها أو فرضها بالقوة كما أنها تنسحب على الجميع وليس على ضحايا العذاب ومسببيه وحسب وإن كان هؤلاء الأشخاص يحتلون موقعا محوريا. اليوم لتحقيق مصالحة وجب أن نستبدل الخوف بعيش مشترك بعيدا عن العنف ويجب على كل مواطن تونسي أن يستعيد الثقة بنفسه وبالآخر ويعترف بإنسانية الآخر ذلك هو قوام الثقة المتبادلة ويعتبر كشف الحقيقة شرطا أساسيا من شروط المصالحة. أختم وأقول أن الوطنية تعني محبة المرء لوطنه تلك المحبة الصادقة التي تجعله يؤثر المصلحة العليا على مصالحه الخاصة بل وتفرض عليه في الضراء التضحية بالنفس والنفيس في سبيل سلامة البلاد وإنقاذ الأمة. إن محبة الوطن من الإيمان، فلنكن جميعا رسل الوطنية ودعاة السلام والمحبة وملائكة السماء في الأرض. هذه الروح هي التي يجب أن نتقمصها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. رئيس دائرة بالمحكمة الابتدائية بتونس مدرس بالمعهد الأعلى للقضاء وبكلية العلوم القانونية والسياسية بتونس