ثمّة أمر لا بد من الإقرار به وهو أن جلّ الثورات التي عرفها العالم خلال القرن العشرين فشلت في تحقيق الكثير من أهدافها في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. فالثورة البلشفية حوّلها ستالين «الرجل الحديدي» الى جهاز تسلط واستبداد وقمع رهيب. باسمها افتك أراضي الملايين من فلاحي أوكرانيا ليموت اغلبهم جوعا وقهرا. وألصق بهم تهما زائفة، أرسل ستالين بالآلاف من المثقفين والمعارضين لسياسته الى المحتشدات في سيبيريا، وأجبر آخرين على الانتحار من أمثال الشاعرين الكبيرين مايا كوفسكي وايسنين. كما أعدم ستالين العديد من رفاقه في الحزب البلشيفي بتهمة «معاداة الثورة وخيانتها» خلال تلك الليلة الرهيبة التي سميت ب«ليلة السكاكين الطويلة».. وكان ضحايا «القفزة الكبرى» و«الثورة الثقافية» اللتين اطلقهما الزعيم الصيني ماوتسي تونغ في الخمسينات والستينات من القرن الماضي يعدون بالملايين. والذين تأثروا في كمبوديا بالثورة الشيوعية الصينية، والذين كانوا يسمّون ب«الخمير الحمر» ارتكبوا مجازر قطيعة في حق من اتهموهم ب"معاداة الثورة" وقتلوا منهم ما يقارب المليونين في ظرف سنوات قصيرة. ولم تكن الثورات التي حدثت في كوبا وفي فيتنام وفي أماكن أخرى أقل بطشا بالشعوب من الثورات التي ذكرت قبل حين. ففي إيران مثلا، استغل الامام الخميني الثورة الشعبية الهائلة التي اطاحت بنظام الشاه لصالحه، ليقيم نظاما استبداديا يذكّر بأنظمة القرون الوسطى. وكانت كل الثورات التي عرفتها بلدان عربيّة في الخمسينات من القرن الماضي مزيفة. فقد كانت مجرد انقلابات عسكرية دبّرها ضباط ضد انظمة فاسدة ليقيموا مكانها أنظمة أشد فسادا وبطشا بالنخب والشعوب. مع ذلك، ثمة ثورات تمكنت من تحقيق ما كانت تطمح اليه الشعوب. وهذا ما حدث في اسبانيا بعد وفاة الجنرال فرانكو، وفي البرتغال بعد سقوط نظام سالازار الديكتاتوري، كما حدث ذلك في بلدان أوروبا الشرقية بعد انهيار الشيوعية وجدار برلين. ويأمل التونسيون الا تفشل ثورة «الياسمين» في تحقيق الاهداف التي قامت من أجلها، اي الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وألاّ يحيد بها البعض عن ذلك. وثمة عناصر تضمن نجاح هذه الثورة. فقد كانت ثورة الشبيبة والقوى الحية التي لم تعد تتحمل الظلم والقهر والاستبداد ومصادرة الآراء والافكار الحرة وملاحقة أصحابها والمدافعين عنها. ومنذ البداية وحتى النهاية رفضت هذه القوى استعمال العنف وواجهت بشجاعة رصاص النظام بصدور وأياد عارية. ومعنى هذا ان الثورة التونسية كانت وفيّة لما تميز به التونسيون خلال تاريخهم، والمتمثل في رفض التطرف والتمسك بالاعتدال في مواجهة التسلط والاستبداد . ومن العناصر الايجابية الاخرى أن «ثورة الياسمين» عكست صورة مشرقة للتونسيين. فقد تجنّب هؤلاء أثناء المواجهة مع النظام ، رفع شعارات بامكانها ان تشيع الفُرقة والفتنة بينهم، أو تخدم اغراضا حزبية أو ايديولوجية ضيّقة، أو تحثّ على معاداة الاخر، الغرب تحديدا، أو تعكس نعرات أو نوازع قبلية أو غيرها. فكانت ثورة تجسّمت فيها وحدة التونسيين الوطنية الرافضة لكل ما يمكن ان يهددها أو يفلّ فيها. والشعارات التي رفعت خلالها كانت واضحة في مضامينها وأهدافها ولم تستهدف غير رأس النظام الذي أغرق البلاد في الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها. وأما العنصر الآخر الذي تتوجّب الاشارة اليه فهو أن قيادة «ثورة الياسمين» كانت قيادية جماعية، ومن مختلف الاجيال والفئات الاجتماعية، بحيث يمكن القول أنه غاب عنها «القائد» الذي يمكن ان يلتف عليها، ليصبح هو «قائدها الوحيد الأوحد» وتصبح هي مجرد وسيلة في يده لخدمة اغراضه وطموحاته السياسية والايديولوجية... لكن هناك مخاطر بامكانها أن تهدد «ثورة الياسمين» وقد برز البعض من هذه المخاطر خلال الفترة التي اعقبتها والمتمثلة في الفوضى والانفلات الأمني، والعمل على المس من هيبة الدولة، والنيل من مؤسساتها، وظهور بعض النعرات القبلية والجهوية. كل هذا أرعب التونسيين، وأصبح الكثيرون ينظرون الى المستقبل بشيء من التشاؤم. وعلينا ألاّ نلومهم في ذلك. فبلادنا لا يمكنها بحكم تاريخها، وبحكم مواردها الاقتصادية تحمّل الصراعات والنزاعات التي قد تعصف باستقرارها وأمنها. ثم أن التاريخ يؤكد لنا أن الفوضى هي العدوة الاولى للديمقراطية وان هذه الاخيرة لا يمكن أن تتحقق، وأن تتجذر لدى الافراد والجماعات الا في ظل الاستقرار والأمن والصراع الهادئ النزيه بين مختلف القوى السياسية. وأما الخطر الآخر فيتمثل في غياب التربية الديمقراطية عندنا. فقد عاش التونسيون فترات طويلة في ظل الاستبداد والخوف والظلم والقهر. وجميع الانتفاضات التي قاموا بها سواء خلال فترة حكم البايات أو فترة حكم بورقيبة أو حكم بن علي بهدف تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية قمعت بشدة حتى أن نسبة كبيرة من التونسيين قطعت الأمل في التغيير الذي تطمح اليه، واستسلمت للامر الواقع، وكأنه قدرها الذي لا يمكن التملص منه. من هنا نفهم الاستبداد بالرأي لدى بعض التنظيمات والاحزاب التي برزت بعد «ثورة الياسمين» حتى أن قادتها يتكلمون أحيانا وكأنهم هم الوحيدون الذين يمتلكون «الحقيقة» أما غيرهم فهم على خطإ دائم. والشيء الذي لاحظه التونسيون هو بروز ما يقارب الثلاثين حزبا خلال الشهرين الاخيرين. وجلّ هذه الاحزاب لا تمتلك الى حد الآن برامج سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية واضحة. غير أن الديمقراطية كما يبرز لنا ذلك التاريخ، لا يمكن أن تتمثل بأي حال من الأحوال في كثرة الاحزاب، وانما في جدية البرامج التي تقدم وتعرض على الشعب. لذلك لا يزال التونسيون ينتظرون الى حدّ هذه الساعة الاحزاب التي يمكن أن تقنعهم ببرامجها التي تعكس بصورة واضحة وحقيقية اهداف «ثورة الياسمين» والمتمثلة في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية لمختلف المناطق، خصوصا تلك التي ظلت الى حد الآن منسيّّة ومحرومة...