أجرت الحوار روعة قاسم برهان غليون أحد اكبر المفكرين العرب وهو غني عن التعريف . فهو استاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس وفي جعبته العديد من المؤلفات باللغتين العربية والفرنسية أهمها: "بيان من أجل الديمقراطية"، "المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات"، "مجتمع النخبة"،"اغتيال العقل"، "نظام الطائفية"، "من الدولة إلى القبيلة"،"الاختيار الديمقراطي في سورية"، اضافة الى العديد من الدراسات والتحليلات السياسية والاجتماعية والابحاث التي اغنت المكتبة الفكرية العربية والعالمية. "الأسبوعي" اتصلت بالدكتور غليون ففتح لنا قلبه وخصنا بهذا الحديث الاستثنائي في هذه المرحلة الحساسة التي تمر بها المنطقة. فكان حوارا شيقا حاول الإجابة عن عديد التساؤلات التي تطرحها التغيرات العميقة الحاصلة: بداية. كيف تقرؤون مستقبل المنطقة بعد هذه الثورات؟ -من الواضح أن المرحلة القادمة ستكون مرحلة ثورية بالمعنى الحرفي للكلمة، أي أننا سنشهد تحولات عميقة وجذرية ستطرأ على بنية المجتمعات العربية كما ستطرأ على الأوضاع الإقليمية. وستتركز التحولات داخل المجتمعات على عمليات معقدة يقع في مركزها تشكل بطيء ومعقد لنخبة سياسية جديدة قادرة على حمل تطلعات الجماهير العربية إلى التغيير وتقطع مع الأساليب القديمة المعروفة والقائمة على الإملاء والحكم والإدارة من خلال الأوامر والمراسيم البيرقراطية ومع قيم النخبوية واحتقار الجمهور الشعبي وقاعدته العريضة، وتبلور أجندة تعنى بالمصالح الوطنية والعامة بدل تكريس مناصب المسؤولية لخدمة المصالح الخاصة والشخصية. وسيترافق تشكل مثل هذه النخبة مع تحول في منظومات القيم التي تسير النخب وتلك التي تسير الجمهور العريض الذي يحتاج إلى أن يستوعب هو أيضا معنى «المواطنية» من حيث هي احترام للقانون ومسؤولية وليست حقوقا استهلاكية فحسب. كما سيترافق مع بلورة رؤية صحيحة لطبيعة الاصلاح المنشود ووسائله وأهدافه، ووضع أجندة واضحة ومقبولة من قبل أغلبية الفئات الاجتماعية لتحقيق هذه الأهداف. وكل ذلك يتطلب ان نتعلم من جديد فن النقاش والمناظرة الوطنية الموضوعية وفن التفاوض والحوار الضروري للوصول إلى تسويات وايجاد حلول مقبولة للمشاكل والنزاعات الاجتماعية والسياسية التي سيزيد ضغطها علينا بمقدار ما ستدخل قطاعات جديدة من الرأي العام ، بقيت معزولة خلال المرحلة الماضية، إلى ساحة النقاش والعمل السياسي والمشاركة في القرار والسلطة. هل نحن سائرون الى الديمقراطية ام الى شكل جديد من اشكال الديكتاتورية"المقنعة" ؟ -نحن سائرون من دون شك نحو شكل من اشكال الديمقراطية الانتقالية. فالثورة التي تهز اليوم أركان النظم العربية القديمة قلبت وسوف تقلب في البلدان التي لا تزال تعيش وقائعها ميزان القوى السابق الذي كان يقوم على تغييب الشعب بالكامل كقوة سياسية، ويقصر النزاع على التنافس بين طبقات البيرقراطية الحزبية والتكنوقراطية المرتبطة بالدولة وشبكات المصالح الخاصة. وسيحصل هذا لصالح معادلة معكوسة تماما يكون فيها الشعب القوة الأكثر وزنا وتأثيرا على القرار، على حساب تراجع سلطة أصحاب المصالح الكبرى والبيرقراطية والتكنوقراطية . وبسبب ضعف المؤسسات الديمقراطية التي هي قيد الانشاء، بل غيابها وغياب التقاليد السياسية الديمقراطية، لا بد من ضمان التوازن الجديد من خلال استمرار الشعب في التظاهر والتدخل الدائم في الحياة السياسية من خلال المسيرات والتظاهرات، حتى يضمن لنفسه أن يبقى لاعبا في ساحة السياسة الجديدة. وسيضفي هذا الوضع حالة من القلق وعدم الاستقرار والخوف عند قطاعات كبيرة من الرأي العام، خاصة من أصحاب المصالح الاقتصادية. ولن يتوقف قبل أن تبدأ المؤسسات الديمقراطية في العمل بالفعل ويطمئن الشعب إلى أن احتمال الانقلاب على الثورة أصبح من الماضي. لذلك سنعيش فترة هي بين الثورة والاستقرار، حتى تترسخ المؤسسات الديمقراطية الجديد وتنال ثقة الشعب وتعيد الاستقرار النفسي والسياسي له. لماذا ربيع الحرية العربي جاء متأخرا مقارنة بدول امريكا اللاتينية واوروبا الشرقية التي تحررت من قيود الديكتاتورية؟ -لأن ظروف المنطقة العربية الخاصة، وفي مقدمها حرص الغرب على الاستقرار بأي ثمن فيها، حفاظا على مصالح استراتيجية ، سياسية واقتصادية، يعتقد أنها حيوية بالنسبة له، مثل تأمين إسرائيل وضمان استقرارها، وكذلك ضمان أمن واستقرار دول الخليج المنتجة للنفط، وتأمين الممرات الدولية الاستراتيجية، لم تكن تسمح للشعوب بأن تعبر عن إرادتها. فقد نشأ في مواجهة حقها في التعبير الحر عن إرادتها تحالف وثيق بين النخب المستبدة الحاكمة والدول الغربية ذات النفوذ الكبير في المنظومة الدولية. لقد وضع هذا التحالف أكثر من سد واستخدم أساليب استثنائية في قهر الشعوب وتقييدها، بما في ذلك السماح بالمجازر أو التدخلات العسكرية، وفي مقدمها التدخلات العسكرية الاسرائيلية، أمام التعبير عن إرادة الشعوب. وما نشهده اليوم من ثورات أجلت بسبب هذا التحالف عدة عقود، هو انفجار البركان، بعد تراكم كبير للقهر والحرمان والتهميش والإذلال. لذلك جاء التحول الديمقراطي في شكل ثورة، تماما كما أدى امتناع الاصلاح الطبيعي للنظم خلال عقود طويلة إلى تحول الاصلاح إلى ثورة إصلاحية لاستئصال فساد لم تعرف المنطقة مثيلا له من قبل. نأتي الآن الى الملف السوري، ما رايكم بما يحصل في سوريا اليوم؟ وما الحل للخروج من هذا المستنقع؟ -لا يختلف ما يحصل في سوريا من حيث الجوهر عما حصل في تونس ومصر، وما يحصل في الوقت ذاته في اليمن أو البحرين أو المغرب او الجزائر. شعب استيقظ على أوضاعه البائسة وكسر جدار الخوف وطالب كغيره في أن يكون له صوت ومكان ودور في تسيير شؤون بلاده التي تحولت إلى مزرعة خاصة لأصحاب السلطة والمال والسلاح، وصارت تحكم وتدار عمليا من قبل أجهزة تسمى أمنية وليس لها دور آخر سوى ترويع السكان وإذلالهم لإفقادهم ثقتهم بأنفسهم وفرض الإذعان عليهم. وقد لعب انتصار الثورة في تونس ومصر دورا كبيرا في حدوث هذه اليقظة السورية وفي انكسار جدار الخوف وزوال وهم السلطة الجبارة القادرة على مواجهة الشعوب بالعنف. الشعب تجرأ على سلطاته ونزل في مسيرات يومية لانتزاع حقوقه، وأولها حقه في استعادة ملكيته لوطنه الذي اختطف منه لصالح طغمة متحدة من أصحاب السلطة والمال والسلاح . شخصيا هل لديكم ثقة بالإصلاحات التي أعلن عنها الأسد وهل ستكون الحل للأزمة السورية؟ -قال الشعب رأيه يوم الجمعة العظيمة في هذه الاصلاحات التي لم تجد أي ترجمة في الواقع. وبسبب هذا غير النظام سياسته وانتقل من القمع الوحشي للمظاهرات واستخدام الرصاص الحي إلى مرحلة أعلى أرسل فيها الجيش لاجتياح المدن وإغلاقها من أجل القيام بحملة تطهير وتصفيات ذهب ضحيتها مئات الشهداء الجدد وآلاف الجرحى والمعتقلين. ولا تزال درعا وغيرها من المدن مغلقة مع قطع الماء والكهرباء والغذاء عنها. واضح أن النظام أراد أن ينقل للناس رسالة مفادها أن عليهم ان يتحسروا على قانون فرض حالة الطوارئ الدائمة الذي طالبوا بإلغائه. فبعد التراجع عنه زاد العنف وزاد القتل وزاد تقييد الحريات بدل أن يتناقص. وهذا هو الهدف الذي رمت إليه السلطة مما تسميه برنامج الاصلاح، أعني استخدام كلمة الاصلاح من أجل الاستمرار في تجريد الشعب من حقوقه ومنعه من التظاهر. السلطة لا ترى في الواقع إلا امرا واحدا وهو إرجاع الشعب إلى البيوت وإعادة وضعه في قفص نظام الحزب التسلطي الواحد. النظام السوري هو نظام محوري ومؤثر في المنطقة بما انه حاضر في اكثر من ملف. فما هي انعكاسات سقوطه على توازنات القوى فيها وعلى عدة محاور: الصراع العربي الاسرائيلي ،الملف الفلسطيني و العلاقات العربية الايرانية، ...الملف اللبناني وحزب الله و الملف العراقي ؟ -سوريا بلد محوري في المنطقة. ولها أراض محتلة من قبل إسرائيل، وهي حليفة رئيسية لإيران، ويرتبط أمنها بامن دول الخليج المحافظة التي يشكل الحفاظ على استقرارها مصلحة أمريكية حيوية كما يقول مسؤولو البيت الأبيض. وهذا لا يتناقض مع ولادة نظام ديمقراطي في سوريا ولن يغير جميع هذه الوقائع، وربما ليس كثيرا منها، وعلى الأقل ليس بصورة سريعة ومباشرة. وهذا ما حصل في مصر وتونس. لم يؤد التغيير نحو الديمقراطية إلى انقلاب كامل في علاقات مصر الدولية والإقليمية ولكنه اقتصرعلى تعديلها بإلغاء ما كان مجحفا بحق الشعبين التونسي والمصري منها، وفي مقدمة ذلك سياسات الممالأة للولايات المتحدة والتبعية لها والسير حسب استراتيجيتها «الشرقأوسطية»، خاصة فيما يتعلق بغض النظرعن سياسات إسرائيل التوسعية . وكانت النتيجة في الواقع العودة إلى الحالة الطبيعية من التضامن العربي في وجه الاستيطان الاسرائيلي ودعم وحدة الشعب الفلسطيني. لن يختلف الوضع كثيرا عن هذا بالنسبة لسوريا الجديدة. سوف تعمل سوريا الديمقراطية على تعزيز دعمها للمقاومة الفلسطينية، كما كان عليه الحال في السابق، ليس لأن هناك إجماعا سوريا على سياسة المقاومة للاستعمار والاستيطان الاسرائيلي فحسب وشعورا عميقا بالأخوة والوحدة السورية الفلسطينية، وإنما أكثر من ذلك لأننا مشاركون في قضية واحدة بسبب احتلال اسرائيل للأراضي السورية. ومما سيعزز هذه السياسة ما حصل من تغيير في مصر وتونس، حيث وضعت الحكومات الجديدة حدا لسياسة التحالف مع الحكومات الاسرائيلية، وكذلك عودة الوحدة الفلسطينية والتفاهم الذي حصل بين فتح وحماس تحت رعاية الحكومة المصرية الديمقراطية الجديدة. بالنسبة لإيران وبالتالي لحزب الله، الحل في نظري في العمل مع بقية الأقطار العربية وبشكل خاص مصر من أجل تجاوز سياسة المحاور التي زعزعت استقرار العالم العربي بأكمله بين حلفاء لإيران ومعادين لها، والدخول في مفاوضات إقليمية من أجل بناء منظمة للتعاون الإقليمي تجمع بين العرب والأتراك والايرانيين، أي سياسة احتواء التناقضات والنزاعات الاقليمية في سبيل تعزيز استقرارالمنطقة ككل وتوسيع هامش مبادرتها الاستراتيجية واستقلال قرارها تجاه التدخلات الدولية الخارجية. ومثل هذا الخيار سيكون في مصلحة الجميع، بما فيهم الايرانيين وحزب الله، الذين سيصبحون حلقة في منظومة إقليمية هدفها الحفاظ على الاستقراروالأمن وتأمين فرص التنمية والازدهار الاقتصادي في المنطقة، وخلق كتلة إقليمية متفاهمة ومتسقة في مواجهة مشروع التوسع الاستيطاني الاسرائيلي، تخدم فلسطين وتخدم القضية الوطنية السورية المركزة على استرجاع الجولان واستقلال الكتلة العربية بأكملها. اخيرا .كيف تقيمون الاتفاق الفلسطيني بين فتح وحماس ؟ -بالتأكيد. الاتفاق الفلسطيني بين حماس وفتح هو أحد الثمارالأولى للتحولات الديمقراطية التي جرت في مصر. وهو ثمرة تحرر مصر أيضا من التحالف مع إسرائيل والسير حسب الأجندة الامريكية، وتبنيها سياسة مستقلة تعكس إرادة الشعب المصري الذي هو شعب عربي ومؤيد للقضية الفلسطينية. بعد ان كانت سياسة نظام مبارك خيانة لخيارات الشعب المصري وتحديا لمشاعره.