بلغ التجاذب بين الحكومة والهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، مرحلة تنذر باحتمالات عديدة ليس أقلها نشأة مأزق سياسي تبدو البلاد مرشحة إليه.. وإذا كان البعض يقدم المسألة على أنها مجرد خلاف بين الطرفين حول الفصل الخامس عشر من القانون الانتخابي، المتعلق بالتجمعيين، فإن العديد من المراقبين يرون أن الأمر يرتبط بالاستحقاقات الانتخابية المقبلة، في ضوء ما بات يتردد بشأن تأجيل موعد الانتخابات، تحت ذرائع يراها البعض غير مقبولة.. وفي هذا السياق، الذي تبدو فيه المبادرات السياسية و"المخارج" القانونية محدودة، إن لم نقل منعدمة، بحكم هيمنة الجانب الإيديولوجي وهاجس المقاعد في المقاربات التي تشق الهيئة، بادر الأستاذان، الصادق بلعيد وقيس سعيّد، الخبيران في القانون الدستوري، بتقديم مبادرة تنفرد "الصباح" بنشر مضمونها، وفيما يلي نصها الكامل..
صالح عطية
بعد أكثر من شهرين من الإعلان عن وضع حدّ لدستور 1 جوان 1959 ، وبعد أسابيع عديدة من الشدّ والجذب، لا تلوح في الأفق القريب على الأقل بوادر واضحة تقطع نهائيا مع الماضي وتؤسس لمرحلة جديدة لتونس بعد الثورة. ففي الوقت الذي صار فيه كل طرف من الأطراف المدعوة لاتخاذ القرار أو للمساهمة في اتخاذه يراوح مكانه ، وفي الوقت الذي تحولت فيه مسألة إقصاء الذين كانوا ينتسبون للتجمع هي المسألة الرئيسية في مشروع المرسوم المتعلق بالقانون الانتخابي لأعضاء المجلس الوطني التأسيسي، وفي الوقت الذي غاب فيه الانتباه إلى مطالب الكثيرين في عديد أنحاء البلاد من الذين طالبوا بأن تكون طريقة الاقتراع هي الاقتراع على الأفراد، في هذا الوقت الحاسم والمصيري، وبعد أن ظهر أن طريقة الاقتراع على القائمات بالتمثيل النسبي واعتماد أكبر البقايا فيها، الكثير من المساوئ، باعتبار أنها ستفضي بالتأكيد إلى سيطرة شبه كاملة للتنظيمات السياسية على المجلس الوطني التأسيسي فضلا عن أنها ستؤدي إلى تشكيل قائمات بها عدد من المترشحين الصوريين ، فرؤساء القائمات وحدهم هم الذين ستكون لهم أوفر الحظوظ في الفوز في صورة فوز قائماتهم، أما بقية المترشحين فتتضاءل حظوظهم كلما نزل ترتيبهم في القائمة المترشحة. إن هذا الاختيار ستترتب عليه بكل تأكيد آثار متعدّدة في مستوى تقديم الترشحات ويوم الاقتراع وفي مستوى النتائج التي ستفرزها الانتخابات. فستظهر قائمات متعددة نتيجة لعدم الاتفاق حول ترتيب المترشحين، وهو ما سيزيد في إرباك المقترعين عندما يتوجهون إلى مكاتب الاقتراع ، كما سيظهر نتيجة لهذا الاختيار مجلس تأسيسي يتكون من أطياف متعددة لا وجود بينها لأي حد أدنى مشترك. أما بالنسبة إلى الإقصاء ، فلا شك أن الاتفاق حول هذه المسألة قد أضحى شبه مستحيل ، فهناك من أجرم في حق الشعب التونسي ويجب أن يكون محل ملاحقة قضائية ستؤدي بطبيعتها في صورة الإدانة إلى الإقصاء ، وهناك من يدعو إلى إقصاء يطال جميع المسؤولين السابقين في التجمع أو داخل جهاز الدولة خلال الثلاث والعشرين سنة الماضية، وهناك من يدعو إلى الاكتفاء بعشر سنوات فحسب، وهناك من يدعو إلى عدم الانزلاق في منطق العقاب الجماعي والاجتثاث. إن هذه الاتجاهات تنطلق في أغلبها من حسابات سياسية ضيقة ومن تصورات كل اتجاه للمرحلة القادمة، وتعكس في النهاية المأزق الذي ترتب عن طريقة الاقتراع ذاتها كما تنذر بخطر داهم يتهدد الوطن ووحدته. أفليس من الأفضل ترك كل هذا إلى الشعب نفسه بعيدا عن الحسابات الضيقة والتقاطعات الظرفية للمصالح ؟ وحتى يتمكن الشعب من أن يكون هو الذي يقصي وهو الذي ينتخب، لا بد من اعتماد طريقة الاقتراع على الأفراد، باعتبارها الكفيلة بتمكين الشعب صاحب السيادة، من انتخاب من يريد، وإقصاء من يريد.. وحتى تجنب تونس الدخول في مرحلة من الصراعات وربما من العنف ، وقد بدأت بوادره تظهر للجميع ، لابد من إعادة التفكير في طريقة الاقتراع ذاتها، بل لا بد من ان تكون على الأفراد ، فالشعب التونسي قادر على الاختيار الواضح الذي سيقطع مع الماضي، فحين تكون الدائرة الانتخابية ضيقة لا تتجاوز حدود معتمدية، فلن يختار الناخبون إلا من يعرفون تاريخهم وحقيقة انتماءاتهم ، ولن يتخفى احد في قائمة أو تحت عباءة حزب معروف أو غير معروف ، فالإقصاء سيمارسه الشعب حين يريد الإقصاء والاقتراع سيمارسه بكل حرية على الأفراد لا على عشرات القائمات التي ستختلط أمامه وتتشابه في مكاتب الاقتراع ، فيترشح حينها من يجب أن يكون في عداد المقصيين ويتلاعب مجددا بإرادة الشعب تلاعب النكباء بالحصباء.