بقلم: نور الدين عاشور سماء تونس ملبدة بالسحب وهذا ليس نتاج تكهن معهد الرصد الجوي وإنما يحيل على إحساس جانب كبير من التونسيين.. إحساس داخلي لا يمكن فصله عن الغريزة التي تنطق بكل عفوية وتنطلق باحثة عن الحماية والتخلص من الخوف بكل ما تحمله الكلمة من معان.. خوف من الحاضر ومن المستقبل أي من المجهول الذي لا يمكن إخضاعه لعنصر الزمن حتى نعرف له توقيتا دقيقا. فما شهدته عديد الأحياء في تونس الكبرى وفي بعض المناطق الداخلية من أعمال تخريب وتدمير وترهيب..وما شهدته بعض شوارع العاصمة من مظاهرات وما تخللها من «أعمال عنف» بين المتظاهرين وأعوان الأمن ومن تجاوزات ضد بعض الصحافيين..والرجة التي أحدثتها تصريحات فرحات الراجحي لدى أطراف عديدة.. كل ذلك يؤشر إلى أن الأمور شئنا أم أبينا - لا تسير في الاتجاه الصحيح. ولا بد من التأكيد أن هناك انعدام ثقة بين المواطن والحكومة المؤقتة وبين المواطن ورجل الأمن وبين المواطن والأجهزة التي أرسيت لتنفيذ أهداف الثورة ومحاسبة كل الذين اقترفوا جرائم في حق أبناء تونس أو أضروا بمصالحهم ومصالح البلاد لذلك تنطلق بين الفينة والأخرى شرارات لم تؤخذ من سوء الحظ بعين الاعتبار إلى أن وصلت الأمور حد الاحتقان. ومن الخطإ تحميل الحكومة كل المسؤولية لأن الجميع مسؤولون عما حدث وعما قد يحدث وحتى عن فشل الثورة مثلما يريد البعض ممن لا يريدون لتونس الخروج من الوضع الراهن.. فالحكومة تسيّر الأمور وهي ترى أنها تؤدي واجبها بينما لا يرى المواطن سوى سلبيات تبدأ من الانفلات الأمني وتنتهي عند الوعود بالتشغيل أما ما بينها فهو لا يعجبه ولا يواجهه سوى بالانتقاد. ولعل الانفلات الأمني أصبح شماعة يعلق عليها كل أمر استعصى تنفيذه لكن لا بد من العودة إلى الثقة بين المواطن ورجل الأمن لمعرفة مدى قوتها.. فما يلاحظ أن المواطن يطلب من الجهاز الأمني شهادة في حسن السيرة بالنظر إلى ممارسات وانتهاكات خطيرة سابقة.. الجهاز الأمني يطلب هو الآخر حسن السيرة في الشارع والملعب وفي الأحياء..فكلا الطرفين يطلبان حسن السيرة ولكن ما حدث مؤخرا من تجاوزات أمنية أدخلنا منطق «أيهما الأول:البيضة أم الدجاجة»؟ إنه جدل بيزنطي بالتأكيد لكنه سيطول خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار ما كشفه الراجحي بخصوص مقولة «الأمن مشروط بالتنازل عن الحرية « ومع ذلك لا يجب السقوط في فخ أكبر من المحاسبة عن النوايا وهو المتمثل في إدخال البلاد في نفق لا يمكن الخروج منه. كما أن الساحة السياسية تبدو صحراء مجدبة ومقفرة في جوهرها أما شكليا فهناك أحزاب واجتماعات وندوات لكن أين تأطير الأحزاب للأفراد في هذه المرحلة الخطيرة وفي ظل الأجواء الملبدة بالسحب؟ وأين هؤلاء الذين أظهروا أنهم قادرون على جلب الأنصار وجمعهم واستعراض العضلات للانتخابات..ولم لا يستعرضون العضلات للمساهمة في تلطيف الأجواء وإنقاذ ما يتعين إنقاذه قبل فوات الأوان؟. أين بعض وسائل الإعلام من كل ما يحدث وأين ذلك الحماس الذي أظهرته بعد الثورة..هل كان ذلك للركوب عليها أم لتجميل سمعتها ؟ إنها شبه استقالة في وقت تتحرك أطراف لانعرف من يقف وراءها وحقيقة أهدافها وكل ما نقدر عليه هو مجرد الحديث عن ثورة مضادة لم تعلن الحكومة موقفا واضحا منها وهي قادرة نظريا - بما أنها تملك أجهزة استطلاع وإنذار مبكر- على الكشف عن هويات الذين نسميهم مندسين أو مخربين ومحرضين. إن الحقيقة الوحيدة التي يمكن قولها أن الحكومة أحسنت القيام بدور الحكم الذي يكتفي بالمراقبة والتدخل عند الضرورة دون التأثير على مجرى اللعب أي على مجرى الأحداث.. والحكومة ليست وحدها في هذا السياق فالطبقة السياسية لا همّ لها الآن سوى العمل إما على إجراء انتخابات المجلس التأسيسي يوم 24 جويلية أو تأجيلها..نظرة ضيقة جدا لوضع جد شاسع بما يترصده من شتى الاحتمالات والسيناريوهات. فهل فكر أنصار الإبقاء على موعد 24 جويلية فيما قد يحدث من الآن إلى ذلك الوقت؟..وهل لدى أنصار التأجيل ما يضمن سلامة الوضع العام في حالة تفويت الموعد خصوصا بالنظر إلى ما نشهده حاليا وما يثير التشاؤم؟ الخلاصة..إن الوضع الحالي في حاجة إلى وقفة صادقة وإرادة صلبة لتفادي الانزلاق..من قبل جميع الذين يؤمنون بحتمية نجاح الثورة والقطع مع العهد البائد والتأسيس لقاعدة ديمقراطية صلبة بعيدا عن الانغماس في مسائل ثانوية مثل إقصاء التجمعيين أو عدم إقصائهم لأن التجمعيين ليسوا تونس وتونس لم تكن تجمعية.. إننا في مرحلة تتعدد فيها الاختيارات والخيارات والطبقة السياسية والحكومة والشعب معنيون بكل ذلك.. فإما التوصل إلى وضع حد لعملية نشر الفوضى وجملة الانفلاتات الاجتماعية والإدارية والكشف عن مدبريها.. وإما ترك الحبل على الغارب وانتظار سلسلة التفاعلات على الساحة وانتظار حل سحري أو منقذ لا ندري من يكون..وإما الإقرار بفشل الثورة واللجوء إلى الأممالمتحدة بحثا عن وصاية أممية لتدير المنظمة الأممية شؤوننا وتقرر مصيرنا ما دمنا لم ننجح في المرور إلى المرحلة الثانية لما بعد الثورة.. لماذا كل هذه السلبية في التعامل مع الأجواء الملبدة؟..كلكم مسؤولون عما يحدث وما قد يحدث.