هذا الكتاب الصّادر مؤخّرا عن المنظّمة العربيّة للتّربية والثّقافة والعلوم تضمّن مجموعة الدّراسات والبحوث بالعربيّة والفرنسيّة والانقليزيّة الّتي أثّثت جلسات النّدوة العلميّة الّتي عقدتها المنظّمة بمقرّ المعهد العربي بباريس في الفترة ما بين 4 و 5 مارس الماضي مساهمة منها في احتفاليّة «القدس عاصمة للثّقافة العربيّة» من بين ما نقرأ ضمن هذا الكتاب - الوثيقة دراسة - أو لنقل - مداخلة علميّة حميميّة قدّمها الباحث والأكاديمي الفلسطيني الدّكتور ساري نسيبة ( رئيس جامعة القدس ) بغنوان «القدس مدينة حيّة» عرض من خلالها بأسلوب أدبي رائق لتاريخيّة ورمزيّة مدينة القدس ولما تتعرّض له من محاولات اعتداء حضاري وطمس مادّي وروحي... بين الأرض والسّماء «القدس منجم حضاريّ ، تؤدّي أزقّتها على سطح الأرض وأنفاقها الملتوية والمتعرّجة من تحتها الى أبنية أو متبقّياتها أو فقط الى آثارها تفوح جميعا بعبق المقدّس المجهول ، أمكنة معلّقة في اللّازمان ، بين الأرض والسّماء ...» بهذا النّفس ( بفتح الفاء ) الأدبي وبهذه اللّغة «التّصويريّة» يفتتح الدّكتور ساري نسيبة مداخلته عن مدينة القدس ضمن ندوة «القدس : المدينة والثّقافة والمصير» هذا الأسلوب الأدبيّ المثقل بالحميميّة و»التّصوير» الفنّي الّذي اختاره الدّكتور ساري نسيبة لمداخلته هذه والّذي قد يبدو للبعض «غير مناسب» أو لا يتماشى مع الصّبغة والرّوح العلميّة للنّدوة بدا - واعتبارا لمعطى الانتماء العضوي الّذي طبع تاريخيّا علاقة عائلة نسيبة الفلسطينيّة بالمدينة المقدّسة بصفتهم من أعيانها تماما مثلما هو الشّأن بالنّسبة لعائلة الحسيني العريقة - هو الأبلغ بل والأنسب - في الحقيقة - ... فماذا عساه يملك - يا ترى - مواطن فلسطينيّ أب عن جدّ - وهو يروي تاريخ ومأساة مدينته الرّمز - مدينة القدس المحتلّة والمفترى عليها تاريخيّا - سوى أن يغرف من مخزون اللّغة في أبعادها الرّوحيّة والدّينيّة والحميميّة المؤثّرة - حتّى ولو كان هذا الفلسطينيّ حاملا لصفة «أكاديمي» ومتحدّثا في اطار ندوة علميّة دوليّة- نعم ذلك ما لم يجد الدّكتور ساري نسيبة منه فكاكا فكان أن جاءت مداخلته عابقة بكلّ ما هو حقائق تاريخيّة علميّة - من جهة - وبكلّ ما هو مشاعر وتداعيات وذكريات هي عبارة عن «ميراث» حضاري تاريخيّ نفسي لا يمكن القفز عليه - من جهة أخرى - لنستمع اليه - مثلا - وهو يقول في محاضرته هذه متوجّها للحضور: «اسمحولي وفي سياق الأجداد، أن أتحدّث قليلا عن الجزئيّات، أو أن أنتقل من النّظريّات الى واقع يومي، وأبدأ بجدّ لي هو القاضي برهان الدّين ابن نسيبة الخزرجي، يرقد في القبّة الكبكيّة في ما كانت تعرف «بمقبرة مأمن اللّه» وهي ليست مأمنا في اسرائيل حتّى للأموات، وهو يرقد حيث يرقد الأمير الأيدغجي منذ خمسمائة عام بين أجداد آخرين لي ولغيري ، وثّقها جميعا المؤرّخ مجير الدّين، معرّضة الآن للطّمس من أجل بناء متحف للتّسامح الانساني ، فها هي أظافر خصمي تخدش هويّتي وشروشي الممتدّة داخل وتحت الأرض، ليس وطنيّا أو سياسيّا فحسب، وانّما بشكل مباشر وعائلي» الدّكتور ساري نسيبة ختم مداخلته هذه المؤثّرة - لغة وحقائق تاريخيّة - بالقول : «كنت أعشق القدس يوما، وأجدها جميلة تفوق بجمالها كلّ المدن، ولكنّها آخذة بالتّحوّل، آخذة بشرتها الجميلة بالاختفاء، زيتونها ولوزها وأزهارها وهضابها وحجارتها العتيقة، وحتّى علاقات البشر ببعضهم، وتستبدل جميعا بغطاء جديد بغيض الشّكل، قسريّ، أحاديّ، عدوانيّ، يجعل من مجرّد التّنفّس فيها مقاومة». وذلك قبل أن يضيف «وأخشى ثمّ أخشى كلّ الخشية، أن تصبح القدس ذات يوم ، كما حذّر صاحب لي قد رحل هو فيصل الحسيني كالثّقب الأسود تمتصّ في وهج نيرانها الممتصّة الى قاع جوفه كلّ ما حولها وتفنيه» أيضا ومن ضمن الدّراسات الّتي تضمّنها كتاب «القدس: المدينة والثّقافة والمصير» الصّادر عن «المنظّمة العربيّة للتّربية والثّقافة والعلوم» دراسة بعنوان «الحفريّات الاسرائيليّة في محيط المسجد الأقصى المبارك» للدّكتور يوسف سعيد النّتشة وأخرى بالفرنسيّة للدّكتور عزالدّين باش شاوش عنوانها «القدس تراث عالمي».