قرر صباح أمس المجلس الأعلى للقضاء، رفض رفع الحصانة عن القاضي فرحات الراجحي.. ويبدو، حسب ما بلغنا من معلومات، أن «المجلس» استند في قراره الى أن ما صرح به الراجحي مؤخرا، وروّج على «الفايسبوك» لا يرتقي الى ما من شأنه أن يتوجب بمقتضاه رفع الحصانة عنه، وأن تصريحاته الأخيرة، هي في الحقيقة تعبير عن مجرد رأي، وبالتالي ليس هناك «جريمة» تناقض اخلاقيات وقواعد مهنة القضاء ولم يكن الراجحي أثناء تصريحه ممارسا لوظيفته كقاض ولا ترتقي تصريحاته لغير خرق واجب التحفّظ. كما أن المجلس أخذ بعين الاعتبار الوضع الأمني الهش الذي تمر به البلاد حاليا، فأصدر قراره برفض رفع الحصانة عن الراجحي، لأن عكس ذلك قد يتسبب في تعكير المناخ الأمني والاجتماعي.. كما أن الاعتذار الذي وجهه الراجحي للرأي العام وللمؤسسة العسكرية وقياداتها قد يكون كذلك وراء اتخاذ هذا القرار.. الثقة.. ثم الثقة ولئن اعتبر القضاة والكثير من رجال القانون أن قرار المجلس الأعلى للقضاء حول «قضية» الراجحي جاء ملبيا لرغبة السلطة القضائية، ومهدئا للأوضاع ويهدف الى التآزر والمصالحة بين كل هياكل المجتمع، فإن القاضي مختار اليحياوي يؤكد: «أن هذا القرار ايجابي وباعث للطمأنينة في كل شرائح المجتمع.. وهذه «القضية» كان لا بد لها أن تنتهي، وها قد انتهت نهاية محمودة، وعلى القضاة أن يلتفتوا الى أوضاعهم الحقيقية حاليا، وعليهم العمل لاسترجاع الثقة فيما بينهم أولا.. مع وجوب الاشارة الى أن ليس هناك مجابهة وليّ ذراع بين السلطة القضائية والمؤسسة العسكرية التي نحترمها جميعا لما تقوم به من مجهودات جبارة لخدمة البلاد والعباد.. ونحن كقضاة نفاخر بما يقوم به جيشنا الوطني وكل قياداته من أجل أمن تونس ومناعتها والذود عنها».. ارتياح.. ولكن ومن جهته يقول أحمد الرحموني رئيس جمعية القضاة التونسيين: «إن هذا القرار يتفق مع موقف الجمعية، ونحن نعبر عن ارتياحنا لهذا الحل، لأنه يحول دون تداعيات خطيرة على السلطة القضائية، وكذلك على كامل البلاد والمجتمع.. ونرجو طي هذا الملف بصفة نهائية، وعدم التجادل فيه مجددا».. ويستدرك الرحموني قائلا: «.. ولكن انفراج «قضية» الراجحي بهذه الصيغة لا ينبغي أن يؤكد الشرعية للمجلس الأعلى للقضاء الحالي وادارته لشؤون القضاة، فهذا المجلس، في نظرنا فاقد لمشروعيته، باعتباره منصّبا قبل الثورة.. وأما القاضي المعز بن فرج فيقول: «بادئ الأمر أود ان الاحظ انه وفقا للاعلان العالمي لحقوق الانسان، للقاضي حرية التعبير وانشاء الروابط والاجتماع ومع ذلك عليه عدم الانتقاد والتأييد المكشوف للحكومة او التعليق على القضايا السياسية وعلى القضاة ان يتحاشوا التحزب. كما انه لا بد من الإشارة الى واجب التحفظ الذي يحول دون انجرار القضاة في مواقف قد تؤثر في حيادهم او في طمأنينة المواطن. وواجب التحفظ يزداد بالواقع اهمية مع ازدياد التعقيدات الاجتماعية الامر الذي يخلق حاجة ماسة الى وجوبية تقيد القاضي باستقلاله متجردا من ميولاته وارائه المسبقة. لكن التجرد لا يتم عبر تعطيل الحواس والمشاعر، بل على العكس عبر توجيه المشاعر نحو فهم الآخر. لذلك فمن الخطإ العمل على زج القضاة في ابراج عاجية بعيدا عن الناس، كي تصفو أذهانهم من مآثم الناس واهوائهم بل يجب على العكس ان يكونوا حاضرين في آبار المآسي نفسها علهم يشعرون بما يشعر به المتقاضون امامهم. وأود هنا الاشارة فقط الى القرار الصادر عن المحاكم العليا البريطانية بإبطال القرار الصادر عن محكمة الدرجة الأولى لكون السيد بينوشيه مجرد من الحصانة الديبلوماسية لان احد قضاة الهيئة الابتدائية اقام في الماضي علاقات مميزة لجمعية Amnesty international أي ان صلته بجمعية حقوق الانسان كانت في نظر المحكمة حائلا دون ممارسة القضاء الحيادية اللازمة. موقف معبّر عن الديمقراطية وان قرار المجلس الأعلى للقضاء بعدم رفع الحصانة عن السيد القاضي فرحات الراجحي يسترجعني لتعريف معبر جدا للديمقراطية وضعه اوربيد المسرحي الأثيني الفذ على لسان تيزيوس، مؤسس الديمقراطية الأثينية الأولى فقد جاء في هذا التعريف ان الحرية هي ان يقف مناد في مجلس الشعب فيسأل اذا ما كان لأحد المواطنين مشروع جيّد للمدينة، فإذا رأى أحدهم ان لديه مشروعا جيّدا وقع عرضه على المجلس والا بقي صامتا لا يحرك ساكنا. هذا هو التعريف المسرحي للديمقراطية في القرن الخامس قبل الميلاد، وهو في رأيي ينسجم تماما مع مقتضيات مجتمعنا الآن كما ينسجم مع طبيعة السلطة القضائية في هذا المجتمع. فالنّاس يتخاصمون، يتجادلون، ويعرضون افكارهم على مسرح القضاء الذي يكون بفضل علمه وحكمته بمثابة المصفّي فيستبعد الرأي السيّئ ولا يستبقي الا الجيّد فيرفعه في متن قراره اقتراحا جيدا على الاقل من حيث المبدإ امام المجتمع تماما كمواطني أثينا في مسرحية أوربييد. ومن ناحيته يعتبر المحامي مبروك كورشيد «ان قرار المجلس الاعلى للقضاء حول ملف الراجحي يتفق مع موقف جملة القضاة الشرفاء الذين رفضوا رفع الحصانة عنه من أجل مواقفه السياسية، وقد يأتي ايضا في اطار حلحلة وضعية سياسية، باعتبار ان فرحات الراجحي اعتذر كتابة للمؤسسة العسكرية مما يجعل متابعته من طرفها غير قائمة، وفي ما زاد عن ذلك فلا مجال لمتابعة الراجحي، وبالتالي فان موقف المجلس الأعلى للقضاء جاء منسجما مع التوقعات بعد اعتذار الراجحي للمؤسسة العسكرية وللرأي العام».