كنّا قد عرضنا في مقال سابق (الصباح، 4 جوان) مقترحات لترسيخ الثقة بين مختلف مكونات المسار الديمقراطي بتونس، وكان أحد هذه المقترحات إرساء عقد ديمقراطي أو "عهد أمان" جديد يختزل روح هذا المسار ويجمع بين تطلعات الثورة التونسية والوفاء للتاريخ التونسي الحديث الذي صنعته أجيال سابقة من الشهداء والمناضلين والإصلاحيين. ومن البديهي أن يعبّر «عهد الأمان» الجديد على تطلعات كل التيارات السياسية والفكرية دون استثناء أو إقصاء وهو مقترح من غير طبيعة المبادرات التي شهدتها الساحة السياسية في مدة سابقة وكانت تهدف إلى تشكيل أقطاب أو تحالفات مخصوصة، فمع الإقرار بأن لهذه المبادرات أهميتها في سياقها الخاص بها، فإن المطلوب اليوم صياغة وثيقة حدّ أدنى من القواسم المشتركة يلتقي حولها الجميع. ينطلق مقترح «عهد أمان» جديد لتونس من التمسك المبدئي بانتخابات حرّة ونزيهة تفضي إلى قيام الجمهورية الثانية ورفض كل المقترحات الالتفافية كما ينطلق من الشعور بالخطر أمام الهزات المتوالية التي يشهدها البلد منذ الثورة، ما جعل المواطن منهمكا في مواجهة صعوبات الحياة اليومية والغلاء والانفلات الأمني والضغط النفسي للإشاعات، عدا تفاقم أعداد العاطلين عن العمل وحرمان الكثيرين من موارد الرزق بسبب تردي الوضع الاقتصادي, إن تواصل هذا الوضع من شأنه أن يخلق هوّة خطيرة بين السياسيين وعامة الشعب ويبعد الجماهير التي صنعت الثورة عن مجال الفعل. وإذا استشرفنا مستقبل الخارطة السياسية بعد انتخابات المجلس التأسيسي فإننا سنجد أنفسنا أمام فرضيتين كارثيتين وفرضية مأمولة فالانتخابات قد تفضي إلى مجلس فسيفسائي يتقاسمه أكثر من ثمانين حزبا فيغدو عاجزا عن اتخاذ أي قرار، أو أنه على العكس قد يسفر عن انتصار لون سياسي واحد يفرض رأيه وتصوراته على الأجيال القادمة وفي الحالين ستجهض التجربة التونسية الناشئة. أما السيناريو المأمول فهو مجلس يضم الأقطاب السياسية الأساسية في البلد ويعمل في إطار التوافق بينها لصياغة دستور الجمهورية الثانية وإذا ما حصل هذا التوقع فإن عمل المجلس التأسيسي لن يختلف كثيرا عن عمل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، مع فارق في نسبة الشرعية وتوزيع التمثيل السياسي، وستتحوّل تونس من فترة انتقالية أولى إلى فترة انتقالية ثانية تتواصل إلى يوم صياغة الدستور الجديد وتنظيم الانتخابات بمقتضاه. علينا إدن أن نستخلص الدروس من المرحلة الانتقالية الأولى ونتجنب سيئاتها في المرحلة القادمة، فنؤسس لحدّ أدنى من الوفاق على المستقبل يشعر معه الجميع بالأمان والطمأنينة فيندفعون إلى المشاركة النشيطة بدل الخوف والتوجس. إن هناك مجموعة من الثوابت أعلن الجميع تمسكه بها ويبقى أن تصاغ في وثيقة مكتوبة تمثّل عهدا جامعا، مثل الالتزام بالنظام الجمهوري والهوية العربية الإسلامية وتأكيد الطابع المدني للسلطة وحرية الرأي والتعبير وصيانة الملكية الفردية الحاصلة من وجه شرعي والالتزام بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وبمجلة الأحوال الشخصية ودعم استقلالية القضاء والجامعات ومراكز البحث العلمي والتنصيص على حق كل التيارات في العمل السياسي في إطار هذه الثوابت وبخاصة التيارات التي كانت ضحية القمع والتنكيل كما أن من الضروري أن تلتزم كل أطراف «عهد الأمان» الجديد بالعمل على أن لا تتجاوز أعمال المجلس التأسيس مدّة معقولة نقترح أن تكون في حدود السنة الواحدة. وينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أن المجلس التأسيسي سيكون «غولا» سياسيا (أو تنينا، حسب العبارة الشهيرة لهوبس) بما أنه سيجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وهذا وضع مخالف لمبدأ فصل السلطات التي تقوم عليه الديمقراطيات، لكنه وضع انتقالي لا مهرب منه لتأسيس الجمهورية الثانية كما ينبغي أن نتذكر أن هتلر قد وصل إلى السلطة عن طريق انتخابات ديمقراطية، فالانتخابات شرط ضروري للديمقراطية لكنها ليست ضمانتها الوحيدة. العقد الديمقراطي، أو ما دعوناه بعهد الأمان الجديد، سيمثل إحدى الآليات الممكنة لتخفيف الاحتقان و توجيه الفترة الانتقالية الثانية بما لا يخرجها عن مسارها. والبعض يشكّك في أهمية هذه الآلية من خلال تشبيهها بما دعي بالميثاق الوطني سنة 1988، لكننا إذا استعملنا هذا المنطق العدمي فسنشكك في صياغة الدستور الجديد أيضا، لأن كل التجارب العربية منذ القرن 19 قد انتهت بتحريف الدساتير وجعلها حبرا على ورق. أليس من الأجدى أن نستوحي من تجارب إيجابية، مثل «صحيفة المدينة» في التجربة الإسلامية الأولى أو «الماغنا كارتا» الانقليزية؟ أما المثل الأبرز الذي يمكن الاستيحاء منه فهو «عهد الأمان» الذي أعلن في تونس سنة 1857 وكان مقدمة لأول دستور تونسي وعربي سنة 1861، مع فارق أن «عهد الأمان» الجديد سيسلك مسارا عكسيا ففي تونس القرن 19 حملت فكرة الإصلاح نخبة لم يكن لها سند شعبي فاضطرت للمراهنة على «حسن نوايا» الباي والقوى الأجنبية، وقد انقضت هذه الأطراف على عهد الأمان والدستور بمناسبة الثورة الشعبية لسنة 1864. أما تونس القرن21 فهي في صدد الثأر لتلك الهزيمة الحضارية بفضل مسار عكسي، إذ أن الثورة الشعبية هي التي فرضت صياغة الدستور الجديد، و»عهد الأمان» سيكون هذه المرة أمانا لتونس وللثورة من أن تنتكس أو ينحرف مسارها الديمقراطي إلى غير أهدافه. ويبدو أن الهيئة العليا لحماية أهداف الثورة قد شكلت مؤخرا لجنة لإعداد نص من هذا القبيل، ومأخذنا على هذه الهيئة أنها اشتغلت إلى حدّ الآن بطريقة فوقية فكأنها نصّبت نفسها وصيّا على البلد والثورة بدل أن تمثّل حلقة الوصل بين تطلعات كل التونسيين، وقد تجلّى ذلك خاصة من خلال القرار بفرض السرية على مداولاتها، ومع ذلك فإن الضرورات العملية تقتضي أن يؤخذ مقترح الهيئة منطلقا لإرساء «عهد الأمان» الجديد، بشرط أن لا تكتفي الهيئة بمناقشة مقترحها «سريا» بين أعضائها، بل تعرضه في مرحلة أولى على الأحزاب غير الممثلة في صلبها ومختلف مكونات المجتمع المدني والمثقفين والفنانين ورجال الإعلام، الخ، ثم تحدّد صيغته النهائية حسب ملاحظاتهم ومقترحاتهم. ثم تعرض الوثيقة في مرحلة أخيرة على الاستفتاء العام في نفس اليوم الذي ينتخب فيه أعضاء المجلس التأسيسي، فتحظى بشرعية ملزمة للجميع ولن تكون الوثيقة شرطا للتقدم للانتخابات لكن شرعيتها ستحددها نسبة المستفتين عليها. إن المدة التي باتت تفصلنا عن الموعد الجديد للانتخابات تسمح بأن نخوض هذه التجربة جديا وننشغل بنقاش في العمق، فليدل كلّ منا بدلوه في هذا الموضوع. * أستاذ جامعي ورئيس جمعية ابن أبي الضياف للحوار الديمقراطي