كل المجتمعات والأمم التي تعاقبت على مر التاريخ وإلى يوم الناس هذا انتسبت وتنتسب إلى مثالية معينة من بين المثاليات التي توصل الإنسان إلى كنهها إن عن طريق الوحي الإلهي أو الاجتهاد البشري والثابت عند الناس أن أية أمة تسعى دوما إلى مواصلة التشبث بما آمنت به وما تعتقد أنه صحيح وإلى تجسيد المثالية إلى واقع ملموس ومعاش وإبراز أن مثاليتها التي تؤمن بها هي أفضل ما وجد على وجه الأرض من مناهج وإيديولوجيات ومثاليات. بيد أن المثالية المتبعة والمتبناة في كل مجتمع تجد معارضة لها من الداخل ومن الخارج ويتمثل ذلك في محاولة كل القوى الخارجية والداخلية من غير المنتمين لهذه المثالية من التصدر لتبيان مدى قصور هذه المثالية من تحقيق الأهداف السامية للبشرية ومن محاولة هدم ركائزها في كل مرة. فمعارضة قوى خارجية لما تؤمن به أمة معينة معلومة نظرا لأنها تقع ضمن حدود تنافس البشر على السيطرة على بعضهم البعض لغرض قيادة العالم وذلك بمحاولة فرض كل أمة مثاليتها على كل العالم ولو عن طريق القوة. والمعارضة الداخلية لمثالية المجتمع مفهومة أيضا إذا ما اعتبرنا أن كل إنسان في هذا الكون حر في ما يتبنى من مثاليات ولا يمكن بأي حال من الأحوال فرض أي معتقد عليه : «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي». وفي ظل هذا الحراك لا بد من الإشارة إلى عديد الضوابط التي يجب احترامها من جميع الحساسيات السياسية ومن كافة المواطنين: 1- لا يحق لأي أقلية أن تفرض مثالية أو نموذج على الغالبية العظمى من الشعب فلو أن أقلية مسلمة أرادت فرض النموذج الإسلامي على دولة مثل روسيا مثلا لوقع التخلص منها بحد السيف في أسرع وقت ممكن (ولنا في النموذج الشيشاني أصدق مثال على ذلك رغم أن شعب الشيشان هو شعب مسلم بالأساس) فعبر مراحل التاريخ لم تسد يوما فكرة أو مثالية مخالفة لمثالية المجتمع إلا باستبداد داخلي أو استبداد خارجي وهذا يحيلنا إلى معنى التطرف والإرهاب فالتطرف اصطلاحا هو مجموعة من المعتقدات والأفكار التي تتجاوز المتفق عليه سياسيا واجتماعيا ودينيا فإذا تحولت هذه الأفكار والمعتقدات إلى أفعال وممارسات مفروضة على الناس صارت إرهابا فمحاولة بعض المثقفين فرض معتقدات غريبة على الشعوب لا يعد إلا من قبيل العمل الإرهابي الذي تحاربه كل الأعراف الاجتماعية والدولية. 2- لا يحق لأي مثالية أن تحكم أو تسود إلا عن طريق الانتخابات الشفافة والنزيهة ولا يمكن لأي مشروع سياسي أن ينجح من دون أن يستند إلى شرعية انتخابية فمحاولة بعض الأطراف السياسية فرض مشاريع ومخططات معينة وأجندات خاصة استباقية لا تمت إلى هوية الشعب قبل إجراء الانتخابات لا يعد إلا من قبيل فرض الوصاية على الشعب ولا يعد إلا من قبيل العمل الذي يستند إلى عقلية متطرفة وإرهابية. 3- كل المنظرين والمفكرين إذا أرادوا تفنيد إيديولوجية أو إبراز قصور في بعض جوانبها غاصوا في تفاصيل النظرية بكل مكوناتها وحاولوا العثور على خلل في البناء أو تناقض بين مكونات النظرية هؤلاء المفكرون والمنظرون هم بالضرورة لا ينتمون للمثالية التي ينتقدونها. ولكن مع الإسلام اختلف الأمر فحين لم يجد خصومه عليه مآخذ نسبوا إليه ما ليس فيه ولبسوه ما لا يحتمل وحذفوا منه ما شاءوا لكي يصبح إسلاما على حسب هواهم ومن ثم يسهل ضربه وإقصاءه فالمشركون في صدر الدعوة الإسلامية حاولوا في البداية أن يساهموا في بلورة وتصور إسلام (وهو في مرحلة التشكل) «معتدل» يستجيب لأهوائهم ورغباتهم وذلك بطلب من الرسول أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة ولكن عندما وجدوا معارضة من الرسول بنص القرآن «قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين» كفروا بالإسلام جملة وتفصيلا وحاربوه كما هو وكما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن الحداثيين، اليوم، قالوا نحن مسلمون ولبسوا جبة الإسلام من دون أن يغتسلوا ثم نصبوا أنفسهم كبار علماء الإسلام وراحوا يفتون باسمه حيث نسبوا إلى الإسلام بالقوة وبحد السيف ما ليس فيه مستندين في ذلك إلى الاستبداد الداخلي حينا وإلى الاستبداد الخارجي أحيانا والعجيب في الأمر أن هؤلاء الناس مازالوا لم يستوعبوا بعد أحداث الثورة العربية الكبرى لسنة 2011 ومازالوا يحسبون أنهم يقفون على أرض صلبة من الاستبداد، تحميهم وتحمي مشروعهم، في حين أنهم على شفا جرف هار. فإذا كان فرض مجموعة من المعتقدات والأفكار التي تتجاوز المتفق عليه سياسيا واجتماعيا ودينيا يعد جريمة وإرهابا حسب القوانين والأعراف الدولية فإن إفراغ دين من محتواه وتشويهه وفرضه على الناس مشوها يعد جريمة كبرى وإرهابا مضاعفا وغشا وزورا وبهتانا ليس في حق المسلمين فحسب بل في حق البشرية والإنسانية قاطبة. قال الله تعالى « ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون».