عديد المتابعين لأيّام قرطاج المسرحيّة لاحظوا الحماس الفيّاض الذي تكنّه إدارة المهرجان تجاه السرك والألعاب البهلوانيّة، الإحتفالية المحتفية بإرادة الحياة اختزلتها قفزات البهلوان عشيّة افتتاح الأيّام في قلب الشارع الرئيسي للعاصمة أمام المسرح البلدي قدّام جمهور من المارة وعابري السبيل يعاينون بروح شاردة أجساما تتقافز وأفكارا في الأذهان تتراقص حول مصير الحليب وتكلفة كبش العيد ورزمة الهموم الاجتماعيّة التي قد يكون للمسرح حظ في أن يحتلّ قاعها!!! مدير الدورة برع على جبهتين: دوام مقامه مديرا أبديا على رأس ادارة المسرح الوطني واخراجه اللافت «لشقشقة» من الشعارات الجميلة عن ارادة الحياة وفلسطين والجمال والعصافير لتبرير نسق ممتدّ في الزمن من الاستفادة المصلحيّة من أدوار الإدارة التي صمد فيها طويلا رغم احترازات زملائه تجاه الإقصاء والتهميش والاحتكار الذي مارسه تجاههم. المسرح وحده لا يكفي لابد من سرك يغطّي الحاجة الملحة للثقافة التونسية لكي يلعب البهلوان دوره في المسيرة التنمويّة المظفّرة!! سيقول المتخلفون من أعداء الحداثة والتقدم والأنوار ومدير الأيام «وما حاجتنا للبهلوان متجولا بين الحلفاوين والشارع الرئيسي» هل انتهت رهانات الثقافة في البلاد بعيدا عن أسئلة الحريّة والإلتزام ومقارعة الرقابة والثقافة الوطنية الى سرك وبهلوان؟!!» طبعا هؤلاء الحاقدين من يتامى عصور الإيديولوجيا وعقيدة الواقعية الإشتراكية الغابرة لا يمكن ان يستوعبوا فلسفة الجمال الجديدة التي يختزنها مشروع السرك الوطني كدمج لقيمة الجسد المتحرّك في رهانات التنمية وارادة الحياة والإقتصاد الحر والتجارة البينية والقروض الرقاعية والغاء الحواجز القمرقية وتطوير الفلاحة السقويّة ودعم السياحة الإلكترونية والإندماج في المنظومة الرقميّة والاستلهام من التجربة البونيقية، وغير ذلك من الاستراتيجيات بالغة الأهمية التي يجهلها السطحيّون الحاقدون ولا يفقهها سوى راسخي العلم بعيدي النظر. لقد شكّل مرور السرك الوطني الممول من طرف وزارة الثقافة حفظها الله وحفظ كل لجانها الموقرة من منطقة الحلفاوين حدثا سعيدا هز وجدان المنطقة بعوامها ومثقفيها لكنه ترك في قلوب بقية سكان الأحياء والمناطق المجاورة والبعيدة في الشمال والجنوب حسرة وألما من حالة الاستثناء الثقافي والتهميش المقصود الذي شملهم، فقد جاءت الأصوات من هناك حزينة لائمة: صحيح ان الثقافة في مناطقهم تعيش أزهى الأيّام.. سينما ومسرح وشعر وندوات فكريّة تكاد تنفجر بها هذه المدن والقرى، تصوروا ان حملات دورية منظمة أصبح يشنها المسؤولون والإطارات الجهوية والمحلية بهذه المناطق لمطاردة الأعداد الغفيرة من الشباب المدمن على دور الثقافة والأنشطة الثقافية لاقناعهم على الأقل بتخصيص جزء ولو يسير من الوقت للجلوس في المقاهي حرصا من السادة المسؤولين على التوازن النفسي لشبابنا وحماية له من الإدمان الأحادي على الثقافة، شعار إطاراتنا المحلية والجهوية في ذلك الحديث الكريم: «روحوا عن أنفسكم ساعة بعد ساعة فإن النفوس إذا كلت عميت». صحيح أن الإقبال على الأنشطة الثقافية بهذا الشكل المتطرّف الذي تعرفه مدننا وقرانا قد تحوّل الى شكل من أشكال العرقلة لنشاط اقتصادنا الوطني وتجارتنا القومية ولكن كان لابد لوزارة الثقافة التي اعطت التأشيرة لخطة سير السرك ان تحسب حساب الغبن الذي قد يشعر به أهالي المناطق التي حرمت من حقها في الإستمتاع الفلسفي بمعاينة القفز البهلواني. رغم ذلك لابد من الإقرار ان السرك الوطني الذي ناضل من اجله اجيال من المثقفين التونسيين وقدموا في سبيل ذلك الغالي والنفيس بارادة وتصميم الأصوات الهادرة وهي تطالب بالجامعة الشعبية والتعليم الديمقراطي والثقافة الوطنية، هذا السرك الوطني أمانة في عنق كل تونسي وتونسية نرعاه من اجل مصلحة ابنائنا والأجيال القادمة والتنمية المستديمة. بعيدا عن الملمح «السركي» الذي حملته هذه الأسطر لابد لي في النهاية ان أشير بشيء من الجدية الى ان ما يحسب فعلا لهذا المشروع الثقافي الوطني للقفز البهلواني انه يدق بعض النواقيس امام الثقافة في البلد: إنها تمشي على حافة السرك.. تتمايل.. تكاد تقع في قاعه..